صفحات الرأي

الإسلام السياسي أركيولوجيا أو أيديولوجيا/ مطاع صفدي

 

 

ربما، ومنذ سنوات عديدة، لم يحدث للسياسة الدولية أن شغلت بقضايا المشرق العربي كقطعة واحدة، كما هي اليوم. هذا التطور لم يعكسه الإعلام المباشر بقدر ما أصبح محوراً رئيساً في أندية الفكر الاستراتيجي. مغلّفاً بهالة من الصمت والسكون الظاهري. فالأحداث الكبيرة والمتلاحقة بتسارع غير عادي، جعلت الكثيرين من المهتمين الغربيين تحديداً، يستردون بعض مفاتيح التحليل والفهم شبه المنسية بالنسبة إلى أولى بدهيات التنظير على المستوى الاستراتيجي والشمولي، ومنها تلك المقولة المتجذرة التي لا ترى في عامل الجغرافية مجرد حامل مادي أرضي للحدث التاريخي الإنساني والزماني، مثلاً. ليس العالم العربي مجرد ضواح صحراوية هائلة مجاورة لأوربا، و(مشرقه) ليس جغرافية طرفية من محيطها.

العالم العربي ليس هو المبتلَى وحده بجنونيات التديّن القروسطي، والغرب لم يعد يمكنه أن يتعامل مع الإسلام السياسي. كما لو كان وباءً محاصراً في عالم آخر. فلقد حدث في الماضي القريب أن تنبه بعض الغرب إلى أن ظاهرة الهجرة الجنوبية لن تبقى حدثاً طارئاً ومحدوداً. فالإسلام السياسي ليس جميعه خارج بلاد الغرب، لم تعد تشكيلاته أجنبية كلها.. وإذا كانت أفاعيله لا تبرح أوطانها الأصلية في الشرق حتى اليوم، ولن تتعدى أخبارها ركناً ضيقاً ومقنناً من وسائل الإعلام، إلا أن هذه الحالة أمست عابرة، والناس في الغرب يرون أنفسهم باتوا متورطين إلى درجات معينة في ميادين الدماء المفتوحة أو القابلة للانفتاح في معظم أقطار الشرق الأدنى والأوسط معاً.

أكثر المستشرقين المختصين بتفكيك مفاصل الحضارة الاسلامية لم يكونوا يرون الاسلام إلا أركيولوجيا لها مرحلتها المنقضية من الزمان والمكان، وليست هي أيديولوجيا عابرة للحدود والمراحل، وما البشر والحجر الحاملون لأسماء الاسلام وطقوسه سوى آثار مادية أو معالم شبه حية، باقية اليوم من هذه الأركيولوجيا، فبين أن يكون الاسلام السياسي ظاهرة أركيولوجية أسيرة لحفرياتها التاريخية، أو يكون أيديولوجيا محلقة بأجنحة أفكار كل عصر معها أو ضدها، فتلك هي خطوط فارقة وحاسمة تضيع بين تناقضاتها المتشابكة سياسات كبرى دولية وإقليمية منذ انطلاق ما يسمّى بالصحوة الاسلامية خاصة؛ هذه الصحوة عجزت منذ فصولها الأولى عن إنتاج المقدمات الفكرية والعملية لإنبناء استراتيجية ممارسة متكاملة بين أهدافها وأفعالها، فقد انطلقت أحداثها كالفرس الحرون الباحثة عن فرسانها الأصليين، فلم تعثر إلا على أشباههم الطارئين، باتت هذه الصحوة سريعاً نهباً مستباحاً لعسس الليل الموبوء أصلاً بأمراض التخلّف الإنساني ما قبل الحضاري.

الغرب، المرتعب دائماً من زلازل (الجنوب) اعتبر أنه هو المقصود الأول من أي حراك جنوبي خارج عن سيطرته، لن يكون إلا نوعاً من ثورات لقُدامى عبيد الاستعمار ضد جلاديهم القساة الطغاة، فانتقام الضعفاء من سالبي قوتهم حدث شبه نظامي في فلسفة التاريخ. لكن المشروع الثقافي الغربي تأبّى الخضوع الآلي لأية حتمية تاريخية، حتى لو كانت يقينية تامة في سردياتها العلمية أو في مختبراتها الحديثة الفاصلة، فلقد أعاد الغرب بناء قلاع حماياته المتنوعة، الظاهرة منها والباطنة بعد أن حققت الصحوة الإسلاموية هجمتَها الرمزية الهائلة على أعلى رموز الاستبداد الشمالي في قلعة المال الكوني: نيويورك. هذا الحدث المستحيل الذي صار ممكناً، ولو لمرة واحدة، كان فاتحة القرن الواحد والعشرين للتاريخ العالمي المعاصر، وليس لحضارة قائمة دون أخرى، لم يبرهن فقط على الحقيقة البدهية القائلة أن التاريخ ليس هو صناعة الأقوياء وحدهم، بل هو كذلك ما يصنعه الضعفاء بالأقوياء. ومع ذلك ينبغي القول أن هذه الحقيقة لا تورد فحسب في سياق تعزية الفاشل عن انهزامه أمام خصمه العنيد، بل هي قد تأتي بالشواهد على صحتها، أو بعضها، من الوقائع المباشرة، فقد سارعت أمريكا (بوش الصغير) إلى استدعاء أعلى صيغة لنوع الحروب المطلقة، اندفعت إلى إعادة استعمار الشرق من بوابته العربية. مارست الإسقاط الثاني لبغداد بعد الغزوة الأولى للمغول منذ مئات السنوات الخالية، لكن المشروع العملاق هذا، ما لبث أن دمرته عثراتُه الصغيرة التي ساهمت في هدر قواه العسكرية والمالية معاً.

إلا أن الإنجاز الأدهى، وهو المخفي والمسكوت عنه بالأقوال، وإن نطقت به أهم الأفعال، لم تعد تُشخّصه جيوشُ الغرب الجرارة، تغطي وجه البسيطة العربية والاسلامية، فالإسلام السياسي لما بعد محرقة نيويورك، سوف يتولّى بنفسه اختراع أعدائه من بين أبنائه وأتباعه، ويفجر ميادينه في ساحات أوطانه. سوف يُستخدم «الجهاديون» كألدّ وأشرس أعداء للمسلمين؛ وإذ يحل الربيع العربي فجأة، وبقدرة قادر مجهول، فإنه لن يحصد إلا مواسم الأشواك والعوسج مكانَ الثورات الوردية وأزهارها الإنسانية، فهذه الآلية المرعبة في مضاعفة كل ما هو خير عام بشروره المستخفية وراءه، ليست من صدف الأقدار العمياء، ولا هي من حتمية تاريخ همجي أو اجتماع فوضوي عارم. فقد تكون كل هذا، وكل من يراقب ( كل هذا)، وتكون له القدرة على قلب كل ينبوع ماء زُلالٍ إلى مستنقع أفاع قاتلة، هذا المراقب الاستثنائي قد يكون من أدوات الحتميات العمياء هذه، بإرادته أو بغيرها. فالنتائج الكارثية هي عينها وإن اختلفت أو تنوعت أيادي صانعيها، ليس هذا ترحيباً أو دحضاً لثقافة المؤامرة. فقد أمسى تصديقها وحتى تكذيبها على صلة ما بفكرها، مما يعني أن الغرب ضالع حتى أذنيه في كل ما من شأنه أن يحيي أو يميت شعباً عربياً، وقد يكون مصمماً أكثر من أي وقت مضى على التدخل في أخصّ تحولات هذا العالم.. ألا يتركه أبداً سيداً على نفسه أو مستقبله.

وقد اعتقد بعض العرب أنهم يمكنهم أن ينالوا حصة شراكة ما، ولو كانت محدودة أو رمزية، مع سادة الغرب، لكن هؤلاء تمرسوا منذ القديم جميعهم على احتقار الشريك الضعيف. فإذا لم يصبح العرب أقوياء بأنفسهم أولاً، ومن ثم شركاء حقيقيين لبعضهم، فإنهم سيبقون معزولين حتى في هوامش أوطانهم. أغنياء العرب بأرقام التريليون وليس المليون، باتوا يدركون، وربما قبل فوات الأوان، أن شراكة المال مقابل الأمن لا تغني أبداً عن الشراكة بالدم والروح. لعلهم يتفهمون قليلاً كيف لأعز ما تبقّى لهم من حضارتهم، دينهم، وهو يكاد ينقلب إلى أخطر الأسلحة بأيدي أعدائهم، من بين أندادهم كما أغرابهم. في هذا الوقت الذي تعود فيه الشراكة الإنسانية بمعناها الوطني والقومي إلى مركزية الساحة العقائدية للأمة الممزقة شر تمزيق بكل الحروب المحرمة بين الأخوة. فقد تناسى البعض الكثير من هؤلاء أنهم مواطنو التاريخ الواحد والحضارة الواحدة والعقيدة الجامعة والموحدة.

يحدث (كل هذا)، ويحدث ما يعاكسه ما أن يستيقظ الوعي على صحوة حضارية كبرى انطلاقاً من فلسطين العائدة إلى مركز قيادته بانتصار الصمود الأول من نوعه في حاضر الكارثة المستدامة منذ عقود وعقود. ما يعنيه هذا الانتصار هو أنه ليس فقط بداية الشفاء الفلسطيني من السرطان الإسرائيلي، لكنه إنقاذٌ للاجتماع العربي من مرحلة الانخطاف القروسطي، من مستنقعاتها الدموية وأفاعيها السامة. فهل يعرف سادةُ بل أحرار العرب كيف يمكنهم أن يستثمروا مقاومة المدينة الفلسطينية (غزة)، كمطهر مقدس للذات العربية، كمنعطف بنيوي أنطولوجي نحو شخصية مفهومية نقية لكرامة العمل العام المبرّأ من فواجع تآمر العربي على أخيه العربي.

هل نتأمل في صحوة ثالثة ما بعد الأولى لما سمي بالإسلام السياسي، ثم الثانية بالربيع العربي المخطوف، وها هي الثالثة، الراهنة والاتية، مابعد عودة العنوان الأصلي للنهضة العربية المعاصرة، بدءاً من تحرير فلسطين كمدخل وحيد لتحرر العرب ليس من التبعية للغرب وحدها، أو من تخلفهم القروسطي.. بل كذلك، لتحررهم من ظلمهم لأنفسهم.. فليست هذه المهمة بأقل صعوبة ومشقة من أشباهها الأجنبية.

 

٭ مفكر عربي مقيم في باريس

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى