إحسان طالبصفحات الرأي

الإسلام السياسي والانتقال من المعارضة إلى الحكم


    احسان طالب

    في ضوء وصول أحزاب الإسلام السياسي إلى منصة الحكم في بلدان الربيع العربي نسعى لتقديم رؤية موضوعية لا تدخل في تفاصيل أساليب وطرائق الحكم المتبعة قبل نضوج التجربة وإعطائها فسحة زمنية كافية للحكم عليها، وانطلاقا من إيماننا بالديمقراطية يتوجب علينا التريث رغم ما تبديه التجربة من عثرات جلية للبعض فيما يخص محاولات الاستئثار بالسلطة أو تقييد الحريات ، إلا أن عهود الاستبداد الطويل كانت بلا ريب قاتمة ومظلمة بصورة لا تترك مجالا للمقارنة أو الموازنة، أقلها قبل الحكم النهائي على تجربة الإسلاميين..

    توطئة:

    تنطوي الظاهرة الاجتماعية على قدر كثيف من التعقيد والتحول، وتتشابك في تشكيلها مؤثرات سسيولوجية واقتصادية وعاطفية ونفسية، ناهيك عن التأثير المباشر للظروف السياسية التي تتحكم صوريا في الظاهرة، في الوقت الذي يتراجع تدخل العنصر السياسي في جوهر الظاهرة، خلافا لما يبدو للوهلة الأولى من ضغط مباشر للسياسة في بروز الظاهرة وتبلورها في خضم الحدث، وبناء الوقائع، أو تغيير السائد والمستقر. من هنا ينبغي اعتماد التحليل على المقاربات الميدانية مقترنا بالمحتوى النظري من خلال إسقاط وقائعي تطبيقي، يتيح قدرا معقولا من الإحالة ـ الفهم والشرح ـ بغية الوصول إلى الحقيقة ـ الصدق والصواب ـ

    إن السبر الموضوعي لمفاعيل الربيع العربي وما نتج عنه وما سينتج يقتضي فهمه كظاهرة اجتماعية، طبقا لسياق تاريخي يتناول الهيمنة التي سادت واستقرت استنادا لمنظومة فكرية ـ ايديولوجيا ـ وأنماط للعلاقات فُرضت كأمر عادي طبيعي يقفل باب التساؤل أو فرضية التغيير. الهيمنة ليست سوى فرض السيطرة على الغالبية وقبول الوضع القائم الذي تهيمن عليه الطبقة المسيطرة كما عرفها غرامشي، وهو تعريف تطبيقي مناسب لواقع حال ما كان سائد قبل الربيع العربي. ولعل من أول ما أفضت إليه الوقائع بعد زوال الاستبداد وصول المعارضات الرئيسة لمنصة الحكم تلك التي غلب عليها طابع ما عرف بالإسلام السياسي في مصر وتونس وليبيا، هذه النتائج فرضت خشية حقيقية من عودة الهيمنة بصور وأشكال متباينة، وبالرغم من اختلاف البنية الاجتماعية والثقافية والتاريخية لسوريا فإن إمكانية تشابه الوقائع السياسية فيها بعد نجاح ربيعها الخاص أمر لا يشوبه كثير من الشك. إن استمرار الهيمنة لعقود طويلة لا يجعل منها ظاهرة طبيعية بل ينبغي تحليلها كحالة شاذة طارئة سعت بوسائل رجعية لتثبيت أو تقرير ظاهرة اجتماعية أعراضها الخنوع والخضوع والاستعباد، فالواقع الكامن تحت ظل الهيمنة ليس أصيلا أو راسخا بقدر ما هو حالة ضاغطة فوق طبقة اللاوعي الجمعي للشعوب ، فتلك طبقة كامنة مغيبة تشبه بقدر ما هي ماغما لا يزيدها الضغط والكبت إلا مزيدا من التحفز والتوثب حال ما تتاح الشروط الموضوعية ، سياسية كانت أم اجتماعية لتفجرها، وانطلاقها دون توقف حتى بلوغ غايتها وإعادة الأمور إلى طبيعتها في الظواهر الإنسانية، المتوافقة مع شرطي الوجود الفلسفي للإنسان ،العقل والحرية ، سيكون بحثنا ضمن هذا الهامش المحدد والقدر المتاح للإجابة على التساؤل المطروح: هل يمكن فعلاً جمعُ الإسلام والسياسة من موقع الحاكم في واقعنا المعاصر؟

    نهاية الإسلام السياسي التقليدي وإعادة ترتيب الأوليات:

    يقوم الاستقطاب السياسي للإسلاميين حول إقامة دولة الله في الأرض وبسط سيطرتها على كافة أرجاء الكون دون اعتبار للجغرافيا السياسية أو الحقيقة التاريخية ، ويعتبر الاستيلاء على السلطة أو الوصول إليها مقدمة ووسيلة لتحقيق غاية أبعد وهدف شمولي أسمى ( وما أرسلناك إلا كافة للناس ـ سورة سبأـ الآية 28 ) وبقدر ما يعد ذلك الهدف خياليا ودوغمائيا إلا أن الامبراطورية ـ الخلافة ـ الإسلامية كان لها حضور عالمي ممتد أفقيا من الشرق إلى الغرب، من دمشق إلى قرطبة ، واستمرت أكثر من اثني عشر قرنا حاضرة بثقلها ومكانتها ما يتيح إمكانية إعادة بناء كيانها المتفكك وهيبتها المتلاشية. ذلك الاختصار السياسي للحضارة الإسلامية حمّل الحركات السياسية الإسلامية أعباءً لا قبل لهم بها، كما وضعهم في مواجهة النظام العالمي وصراع العولمة التي أخذت أبعادا اقتصادية واجتماعية وسياسية بات من العسير بل ومن المحال إلغاؤها أو تجاوزها، أجبرت هذه الوقائع المعاصرة تلك الحركات على إعادة ترتيب أولوياتها والنظر بواقعية لبرامجها وطموحاتها الكونية المتأثرة بمناهج ايديولوجية شمولية تختزن توجهات غيبية، يتداخل فيها الدنيوي بالديني لدرجة يصعب خلالها الفصل بين مهام السياسة كآلية للحكم وتنظيم إدارة الدول والمجتمعات وبين القيادة الدينية بحيث يتوحد الخليفة باعتباره قائدا أعلى للدولة مع الإمام الشرعي الموكل ببسط إرادة الله ونشر دينه في الأرض. ولما كانت الدولة الحديثة تدار وتسيّر بواسطة التكنوقراطيين والمختصين بحيث باتت السياسة والاقتصاد والاجتماع علوما أصيلة من غير الممكن الإحاطة بها أو الاقتصار في تعاطيها على جملة نصوص محدودة، يغلب عليها الطابع التاريخي والديني الغيبي ،لذا كان لزاما على الإسلامية السياسية الانفتاح على الواقع بالانخراط في صميم المشاكل والأزمات الاجتماعية والسياسية والبحث عن حلول علمية قد تتعارض في ظاهرها مع الدلالات والمعاني التقليدية لتوجهات وأوامر ذات مرجعية مقدسة. كما يلزمها الانفتاح على حلول اقتصادية عالمية للمشاكل والأزمات المزمنة والخطيرة التي تهدد الاستقرار، وتعطل مسيرة التنمية المستدامة الضرورية للاستجابة لمتطلبات مرحلة ما بعد سقوط الأنظمة الاستبدادية التي أدخلت المواطن والوطن في نفق مظلم بدايته الفساد والظلم ونهايته الظلامية والتطرف.

    سيكون من الصعوبة بمكان تحديد حقيقة التوجهات النهضوية والليبرالية التي استجدت في خطاب الإسلاميين من فوق منصات الحكم، وتظل الريبة موجودة من صدقية النهج الإصلاحي لديهم. وليس ذلك حكما على النوايا كما أنه ليس محاكمة اتهامية، فبالنظر إلى التاريخ المعاصر والخطاب الحديث سيكون من العدل التوقف قبل إصدار نتيجة الاستقراء. لقد طرح مرشح الإخوان المسلمين لمنصب رئيس الجمهورية في مصر عن حزب الحرية والعدالة، برنامجا سياسيا انتخابيا حدد خلاله توجهاته وأولوياته في إدارة دفة نظام الحكم، فيما إذا وصل إلى المنصب المتنازع عليه، وجاء فيما عرضه: عدم ربط علاقة الرئيس بالمرشد العام للحركة وأقر بأن الرئيس محكوم بالقانون والدستور ويسعى لتمثيل كل المصريين ورتب أولوياته على الشكل التالي : أن هدفه الأول هو بناء مصر على أسس حديثة وتقديم مشروع النهضة على أسس المرجعية الإسلامية، والتركيز على إقرار الأمن وإزالة الاحتقان الطائفي , ووضع البرامج الاقتصادية التنموية وتطوير وإعادة هيكلة مؤسسات الدولة وأجهزتها وتحقيق التوازن بين الدولة والشعب على أساس أن الدولة تغولت على الشعب في النظام السابق، كما أكد على دور المجتمع المدني المهم في برامج التنمية. ـ 1 ـ

    وبالرجوع للعهد والوثيقة المقدمة من الإخوان السوريين عن سوريا المستقبل التي نصت على قيام “دولة تلتزم بحقوق الإنسان كما أقرتها الشرائع السماوية والمواثيق الدولية من الكرامة والمساواة وحرية التفكير والتعبير ــ لا يضام فيها مواطن في عقيدته ولا في عبادته”. دولة تقوم على الحوار والمشاركة لا الاستئثار والإقصاء والمغالبة يلتزم جميع أبنائها باحترام حقوق سائر مكوناتها العرقية والدينية والمذهبية، وخصوصية هذه المكونات بكل أبعادها الحضارية والثقافية والاجتماعية، وبحق التعبير عن هذه الخصوصية”. إن القراءة الحيادية الموضوعية تدعونا لقبول حدوث تطور حقيقي في مفهوم الحكم ما بين السياسوية الإسلامية ـ السلفية ـ وبين الإسلامية السياسية متمثلة بالأحزاب المستحدثة من صلب النخب الدينية التي وصلت إلى منصات الحكم عبر انتخابات ديمقراطية في كل من مصر وتونس. ويرجع ذلك التقدم إلى وجود مقاربة تعقد صلحا بين المقاصد الأصيلة للدولة في الإسلام وبين الدولة الحديثة ، تتخطى جمود وصلابة دلالات حكم الله في الأرض بالمعنى التقليدي لظاهر النصوص مرجعية.

    بهذه الواقعية السياسية يتخلص الفكر الديني السائد من طوباية المعتقد القاضي بتكفير الحداثة باعتبارها فكرا غربيا مناهضا للمنهج المقدس المأمور باتباعه والسير على سننه وهداه، ويبدأ بولوج عتبة التغيير والإصلاح التي بدونها تستمر العقلية الدينية في الدوران خلال حلقة مفرغة تنتهي حيثما بدأت. وسيكون التطبيق العملي لتلك المنطلقات النظرية الحداثوية مفصلا بين ما هو خطاب مبدئي عقائدي أيديولوجي وبين موقف سياسي براغماتي متماشي مع نظرية التدرج والتمكين التي عرفتها السيرورة التاريخية للدولة الإسلامية.

    التحول من حركات دعوية إحيائية إلى أحزاب سياسية:

    بٌني الكيان الرئيس لكل الأشكال الفكرية والاجتماعية والسياسية للحركات والأحزاب الإسلامية على نظرية تاريخية عقائدية استلهمت مقولة: ما صلح به سلف الأمة يصلح خلفها، وتكرار تجربة بناء الدولة النبوية عند بدء البعثة هو الحل الأمثل لقيام الدولة المنشودة، فكل الحلول المرتقبة والمرتجاة من أجل تحقيق الازدهار والسعادة والعدالة ستتحقق تلقائيا بمجرد تطبيق شرع الله، وإتباع أوامره ونواهيه في كافة مجالات الحياة، من هذا المنطلق كان شعار الإخوان التقليدي في صراعهم السياسي التاريخي مع سلطة الاستبداد ـ الإسلام هو الحل ـ شيفرة سحرية استقطبت الأصوات الناخبين، فكانت التنافسية الانتخابية محسومة لصالح من تبنى ذلك التصور الدغمائي لما له من رصيد هائل في ضمائر ووجدان الذاكرة الجمعية لغالبية شعوب بلدان الشرق الأوسط بما فيها البلدان العربية . بعد انهيار رؤوس السلطة الجاثمة على كراسي الحكم في أوطان الربيع العربية دقت ساعة الحقيقة فاستفاقت الجماهير على حقيقة أن مسيرة المجتمع السياسية والاقتصادية لا تدور بالنوايا الحسنة فقط، ولن تنتهي مشاكل البطالة والتخلف والأمية وانخفاض مستويات التنمية البشرية، ومستويات المعيشة بالمقولات الكلانية، إذ لابد من مواجهة قضية الوطن والإنسان بعيدا عن الحلول التاريخية التي لم تعد مجدية في عالم معاصر له احتياجات وعناصر حياة متباينة تماما عما عرفه السلف وخبروه.

    نتيجة لتلك الصدمة سيتعمق في وعي الجماهير الفصل بين الدين كحقيقة مطلقة ذات صوابية نهائية وخيرية أزلية، وبين الإسلاميين كحكام جدد، لقد كان السائد مختلفا خلال فترة الصراع مع الاستبداد

    والطغيان، فعبارات التمجيد والاستحسان واليقينية المطلقة المرتبطة بخطاب الدعاة، مردها الاتفاق على مسلمات وبديهيات لا يتسرب إليها الشك، فكان التوافق الشبه تام قائم على وحدة الغاية والهدف، ما استدعى غياب نقد المحاكمات العقلية الحيادية، حيث التركيز على أهمية وعظمة صديق مشترك هو الدين وشرائعه، قبالة عدو مشترك هو السلطة الحاكمة الخارجة عن الامتثال لتلك الشرائع، هذا التبادل التوافقي في اتجاهين متعاكسين ستنفض عراه ولن تصبح السلطة المجردة القابضة على زمام الأمر ممثلا وحيدا حصريا للإسلام، كما لم يعد كافيا التوافق على أفكار عمومية، كالمرجعية أو تطبيق الشريعة، لإزاحة الخلافات وتجاوز التناقضات، فاليوم هناك تناقضات مستجدة قائمة على تضاد مصالح طبقية واجتماعية عميقة تتوق إليها عامة الناس، ممن ضحوا لأجل حياة أفضل ومستقبل مزدهر، وليس فقط لمشاهدة ظاهرات دينية تصبغ الشارع ومؤسسات المجتمع والدولة بطابعها. هكذا لم تعد قضية الهوية والانتماء الأممي أولوية، فتحديات البقاء كدولة ومجتمع حي كريم يسودهما العدل والمساواة والحرية باتت طاغية على المهام المفترض تأديتها، وذات أولويات سياسية واقتصادية تزيح مقولات البرامج الكونية، الحالمة بسيطرة أممية تلغي الهويات الوطنية لتحل مكانها انتماءات دينية استقطابها الرئيس ما اشتهر على لسان الشاعر والمفكر والفيلسوف الإسلامي الهندي: أضحى الإسلام لنا دينا وجميع الكون لنا وطنا. ـ 3 ـ

    المرونة والديناميكية التاريخية الإسلامية كانت دائما في مواجهة الجمود والتمترس خلف فهوم جامدة محدودة تصر بخشونة على اقتفاء أثر الأقدمين تستبد بأعمال العقل وإخضاعه للنقل ـ الموروث ـ تلك الديناميكية كانت على الدوام ساعية لتحقيق التوافق بين االعقلانية والدينية، وبدا جليا تقهقر الديني إلى مواقع خلفية وجدانية وتقدم السياسي نحو مواقع عملية تتيح قدرا مناسبا من الحرية في اتخاذ القرار وصنع سياسات إدارة الدولة بصفة مدنية لا دينية. لعل استلام الإسلاميين الوسطيين للحكم فرصة هائلة للبعد عن التطرف والتشدد الذي تمليه عقلية الصراع الوجودي وظنون غالبة راسخة في الوعي الجمعي الإسلامي ، أصّلتها سيرورة تاريخية للغرب الذي ما فتئ يحاول الهيمنة والسيطرة على العالم بمنظور نفعي متعالٍ، ساهم بقدر وافر من الحض على التطرف والاستقطاب الديني عن إرادة واعية حينا وبمنظور اقتصادي أحيانا.

    إصرار الجماهير العربية على إعادة تجربة الإسلاميين في الحكم:

    بُنيت الرؤية الغربية التقليدية لنهاية الإسلام السياسي على فشل حركاته وتنظيماته في القبض على السلطة . ـ 4 ـ أو على المقارنة بين التجربة الشيوعية والإسلامية، وتحول السياسي إلى اجتماعي ـ 5 ـ في حين مال آخرون إلى الرؤية الإصلاحية والتجديدية كأداة لهذه النهاية ـ 6 ـ

    عرفت بلدان عربية نماذج من إدارات حكم غلب عليها طابع الإسلاميين، في كلٍ من السودان وغزة والعراق، ولم تكن تلك التجارب مشجعة، حيث لم تحقق نتائج ايجابية، فسيطر على فترات توليهم للسلطة جملة من الأزمات السياسية والاقتصادية المتلاحقة نجم عنها تقسيم السودان وتقطيع أوصال السلطة الفلسطينية ، ومحاصصة طائفية مرهقة للعراق وشعبه، لكن تلك الصورة لم تردع غالبية إرادات الناخب العربي من إعادة اختيار الإسلاميين في أغلب الفرص المتاحة إن لم نقل في كل فرصة ممكنة، من الدار البيضاء إلى عمان. يقترع صاحب الحق بالتصويت لمصلحة الإسلاميين انطلاقا من واقعة اقترابهم من

    الدين الذي يحمل في طياته قيم الحق والعدل والصدق والنزاهة فهو يمثل في وعيهم الغائب والحاضر، الخيرية المطلقة، كما يشكل اللجوء للإسلاميين رد فعل على انتشار الفساد والنهب والسرقة المنظمة والمرعية بقوة قوانين خاصة أو حماية أمنية، ما تسبب بفقر المواطن واستنزاف خيرات الوطن وتردي الخدمات وضياع الثقة بالمستقبل. لقد شكل غياب العدالة والأمن الداخلي لهفة للبحث عما يشيع الطمأنينة الداخلية والاستقرار الذاتي، ووجدت الأكثرية في الخطاب الشعبوي الديني ملاذا آمنا من المخاوف المشروعة للفرد في ظل أنظمة حكم دأبت على الاستهتار بحريته وكرامته والاستفادة من حرمانه الحقوق الأساسية كمواطن وكإنسان. عندما ردد المتظاهرون في سوريا (بدنا ناس تخاف الله ) كان المقصود غياب الوازع الأخلاقي عند الحكام الذين واجهوا مطالب الشعب بعنف مفرط ، دون رادع قانوني أو وازع و جداني. ولما كان الاعتقاد الجازم بقوة وقيمة الوازع القيمي الأخلاقي في فرض الرقابة الذاتية الداخلية أمام حضور ضعيف وهش لسطوة ورقابة القانون، برزت أهمية وجود رقابة غيبية فاعلة تنعكس حضور فاعلا، يمنع الحكام من ارتكاب الجرائم ويحد من قدرتهم على الفساد والإفساد استنادا إلى سيطرة ثقافة نصية سائدة تنظم العلاقات وتضبط الموازين، إن غياب هيبة الدولة وضبابية مفهوم القانون لصالح المافياويات الحاكمة التي لا تمتلك أية موانع وطنية أو اجتماعية أو عقائدية تصرفها عن إذلال الشعب واهانته وهتك حريته، أعطت تلك القناعات دفعة قوية لاختيار فريق يفترض فيه التحلي بضمائر حية وقناعات إيمانية وجدانية قوية تنشط بفاعلية لتكوين حصن مانع دون الانخراط في الجريمة والفساد، ومحرضا بآلية ميكانيكية نحو السعي لإقرار العدالة والمساواة وتأمين الحد الأدنى المانع للوقوع في الإسراف والهدر والتلاعب بمقدرات المواطن والدولة. بالتأكيد فإن الفشل المتعدد المستويات للسلطات الحاكمة يدفع بصرامة لاختيار تيارات معاكسة لما دأبت السلطات المستلبة للدولة على التصريح به ورفعه كشعارات أو سياسات، همها الأول والأخير ترسيخ إخضاع الدولة والشعب لتحقيق مصالح طبقة خاصة حاكمة لديها شهوة سلطوية وجشع مادي لا حدود له .

    البقاء للأصلح:

    المستجد المهم في آلية عمل السياسية الإسلامية بوصفها مسيرة لمؤسسات الدولة هو تحول السياسة كمنظومة فكرية من سياق دعوي يتواصل مع الجماهير بقصد دفع المشروع الأيديولوجي ليكون مرجعية وناظما، إلى فعل سياسي مدني. مستوى ذلك التطور مازال في طبقات سطحية عملية، لكن من المنتظر تحركه باتجاه أعمق ليلامس أنماط التفكير ووصوله تدريجيا إلى منصة الوعي، وسيكون من المتوقع حينها تفكيك محرضات التشدد والتعصب، وتاليا نزع بذور الإرهاب المنبثق من ثنايا التطرف والتزمت. وفقا لهذه الرؤية فإن ما ترتب من نتائج على انبعاث فجر الربيع العربي انتصار للحداثة، فقيم الديمقراطية والحرية والتشاركية الكاملة والاندماج الاجتماعي لكافة مكونات الشعب الاثنية والدينية والمذهبية معايير فلسفية تسمح للباحث تحديد الأصلح والأنسب.

    لقد كان قبول الانخراط المدني بالسياسة بسبب مغريات مسبقة في مخيلة الدعاة الدينيين، حيث غلب على ظنهم إمكانية تحقيق الأغلبية لإدارة السلطة ودفة الحكم، وبرزت مخاوف محقة من تفشي عيوب الديمقراطية كاستبداد الأكثرية أو استغلال المقاييس العددية لمنع التداول الحقيقي للسلطة، أو الاستعانة بالديمقراطية للتضييق على الحريات الخاصة أو العامة. إن الوعي واليقظة لهذه العيوب وتلك المثالب سيكون مؤهلا لدرء المخاطر عبر تنظيم قواعد اللعبة الديمقراطية وأصول التنافس السياسي وفق مواصفات دستورية عالمية ووطنية تموضع الانتماء الوطني وقيم العولمة الأخلاقية في مقامات تقف دون تخطي المصالح العليا للفرد والمجتمع لصالح أكثرية أو أقلية سياسية كانت أم عرقية أو دينية

    سيكون من العسير في ظل عصر العولمة وثورة الاتصال والانفتاح القسري للشعوب والدول على بعضها البعض، وارتباط المصالح الاقتصادية والتجارية وتقاطع المصالح السياسية، يبدو من غير الممكن انفراد الحكام الجدد بمفاتيح السلطة وإدارة النظام، بحيث لن يتمكن حزب أو تيار مهما نال من نسبة تأييد انتخابية عالية من الاستئثار بالقرار أو الانفراد بالسلطة.

    يقر روبرت كوكس صاحب النظرية النقدية الاجتماعية بدور عالمي للثقافة والأيديولوجيا في تحديد العلاقة الاجتماعية وأنماط صراع القوى، ونحن بدورنا نعتقد بفاعلية وقوة المعرفة والأيديولوجيا في التأثير بخيارات الفرد والمجموعات، كما ندرك أهمية المحرضات القيمية الراسخة في الوجدان الجمعي على إثارة الجماهير وتحركات الشعوب وصناعة الثورات، من هنا لابد للباحث من الإقرار بحيوية وفتوة القيم والمعارف العليا الدينية، وقدرتها على الفعل والتأثير، وتاليا يجدر بنا الاستفادة من العمل المعرفي التنويري والإصلاحي التراكمي في الفكر الديني وعدم التعامل معه بتعال وفوقية بلهاء تنطوي على أحكام عقلية سطحية محدودة

    سنة أو يزيد ما زالت غير كافية لتقديم حكم موضوعي علمي محايد . خاصة بعد اضطرابات سياسية واجتماعية وأمنية ما زالت ضاغطة على الحكام الجدد لبلدان الثورات العربية ، يحق للبعض القول بأن القادم يظهره الحاضر أم لابد من ممارسة الفعل الديمقراطي في المراقبة والمحاسبة وإعادة التغيير ، لا شك عندي بأن العمل الفاعل من الداخل خير من المراجعة الخارجية أو الوقوف على الهامش.

    الهوامش والمراجع:

    ـ1 ـ موقع المهندس خيرت الشاطر نائب المرشد العام لجماعة الإخوان . مقابلاته الإعلامية في فضائيات العربية والجزيرة

    2 ـ 2 ـ وجهات نظر المعرفة : موقع الجزيرة نت.

    هاجم بعض الإسلاميين المتشددين وثيقة الإخوان السوريين باعتبارها : تنص على إقامة نظام كفر جمهوري علماني ديمقراطي والأمريكان وعملاؤهم يمتدحون قبولهم بهذه المبادئ والقيم الغربية: المصدر: : http://masrstars.com/vb/showthread.php?t=403827 – com .masrstars

    ـ3 ـ الصين لنا والعُــرب لنا …. والهند لنا ،والكل لنا

    أضحى الإسلام لنا دينا … وجميع الكون لنا وطنا

    محمد إقبال : من مؤسسي نظرية الأممية الإسلامية، 9 تشرين ثاني نوفمبر 1877م وتوفي 1938 م

    4ـ حسب تحليل أولفيه رواه: كما وضحها في كتابه :ما بعد الإسلام السياسي الصادر 1994

    5ـ هذه وجهة نظر جيل كيبيل: في كتابه كتاب الجهاد : انتشار الإسلام السياسي والخسارة، وفي كتابه إسلام السوق

    6ـ حسب رؤية آلان روسيون : في كتابه انتظار ما بعد الإسلاموية:الصادر 2007

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى