صفحات الرأي

الإسلام السياسي وثقافة الغزو وتوزيع المغانم/ سلمان قعفراني

بعد عقود من القهر والاستكانة والخوف جاءت حادثة إحراق تونسي نفسه، لتفجر غضب الشارع التونسي وتمرده وقد نجح في إسقاط النظام بفضل دعم الدول الغربية خاصة وتأييد غالبية الأنظمة العربية.

شجعت الانتفاضة التونسية والدعم الغربي لها، جماهير البلدان العربية فسقط نظام القذافي، واجبر الرئيس مبارك على التنحي وتبعه اليمن، لتبدأ بعدها العمليات الانتخابية واختيار الحكام الجدد. وحملت الجماهير المنتشية بالنصر السهل إلى الحكم الحركات والشخصيات الإسلامية التي استندت في نجاحها على واقع الجهل والبؤس لغالبية الجماهير التي اعتادت على الخنوع والرياء والاستزلام والاستئناس بالعبودية التي أصبحت مكوّنا أساسيا من مكوناتها النفسية والذهنية والوجدانية.

ساعدهم في ذلك الفوز هزال السلطة المركزية وسقوط هيبة الدولة وضعف القوانين واستشراء الفساد وفشل التنمية والتردي الثقافي المريع وغيرها من الأسباب التي نتجت عن انهيار منظومات القيم الأخلاقية والسياسية.

وما أن وصلت الحركات الإسلامية إلى سدّة الحكم حتى بدأت محاولات الالتفاف على السلطة وقضمها والاستئثار بها وفرض آرائها وتوجهاتها الدينية على الدولة والمجتمع وقمع معارضيها وتصفيتهم، من خلال زج الإسلام في الصراعات السياسية واعتباره المصدر الوحيد للتشريع. ويعود السبب العميق والكامن للممارسات التسلطية الرافضة للآخر إلى تأصل مفهوم الغزو في الثقافة الإسلامية، حيث عمل الفكر الديني على تعزيزه وترسيخه في العقل الجمعي والذاكرة الشعبية، وأعطاه تبريرات دينية وأسبغ عليه غطاءً شرعيا، فوسم الجانب الإيماني والوجداني للشخصية الإسلامية على مدار القرون.

الغزو هو نسق ثقافي متكامل تمحورت حوله منظومة من القيم السلبية كالتباهي وتمجيد الذات والتكتم وسرعة التنصل من الالتزام والمكر والغدر والثأر. والغزو هو سلوك عدواني ونمط من التفكير والممارسة، يعطي الجماعة الحق في استعمال العنف ضد الآخرين والاستئثار بخيراتهم استنادا إلى مبدأ القوة والغلبة. وهو نمط في العيش وطريقة لكسب الرزق لا تتطلب أي جهد ذهني بل قدرا من القوة والتنظيم والسرية والقدرة على القتال.

وقد ساهمت الظروف البيئية في الجزيرة العربية وشح الموارد الطبيعية وندرتها وانحباس السماء والجفاف والقحط وكثرة الأوبئة والمجاعات والفقر والجوع الدائم، وضعف النشاطات الاقتصادية القائمة على الرعي وبعض الزراعات وقوافل التجارة المحدودة، في شرعنة الغزو كوسيلة لإخضاع الآخرين وسلب ممتلكاتهم واسر الرجال والنساء والأطفال منهم واستغلالهم كعبيد وموالٍ أو بيعهم في أسواق مكة أو التفاوض عليهم مقابل الفدية.

ومع مجيء الإسلام وبعد 10 سنوات أمضاها النبي في التبشير العلني، داعيا لوحدانية الخالق المطلقة اضطر أخيرا للهجرة إلى يثرب(المدينة)، “فعرف أهل قريش أنها دار منعة وقوم أهل حلقة وبأس”(ابن سعد الطبقات الكبير ج 1 ص 193) . ومن هناك بدأ الرسول أولى غزواته لكسر شوكة المشركين وفرض الدين الجديد. على أن حماسة المسلمين الأوائل واندفاعهم للقتال ترافقا دوماً مع طمعهم بالحصول على المغانم. وهذا ما تؤكده خلافات المسلمين المتكررة، كما حصل في غزوة بدر (الواقدي المغازي ج1 ص 100) أو تلك التي وقعت بين المهاجرين والأنصار بعد غزوة حنين(مسند احمد 12702) أو تلك التي كادت تودي بحياة النبي في غزوة أُحُد بعد أن أثخن بجراح عميقة، نتيجة “انشغال المسلمين بالنهب والمغانم”(الواقدي ج1 ص 207) “وتسرعهم” (البخاري3039) في اقتسامها، فطغى حب السلب والنهب على حب النبي والإسلام، حيث “لم يبق مع الرسول في المعركة بعد هرب المسلمين وهزيمتهم إلا 12 شخصاً”(البخاري3039)! وهكذا فقد امتزج الإيمان الديني للمسلمين الأوائل بالطمع في الحصول على المغانم والذي لعب دوراً مكملا ومحفزاَ للإيمان الديني في انتصارات المسلمين اللاحقة.

وأخذت ثقافة الغزو منحى جديداً مع تحريم الرسول هدر دم مسلم لمسلم، فأصبح الآخر المختلف عرقا ودينا (الفرس والروم) موضوعا بديلا من الغزو الداخلي، ثم ما لبث الغزو أن ارتد على المسلمين أنفسهم، فدبّت الخلافات بين المهاجرين والأنصار وبين المهاجرين أنفسهم، بعد أن قُبِض الرسول ولم يكن قد دفن بعد، فأصبح غزو السلطة والتسلط عليها والسطو على مقدراتها هدفا وغاية في الوقت عينه، وذلك بحجة الدفاع عن الإسلام والمسلمين والقيم الإسلامية.

ولا يكتمل غزو السلطة إلا إذا ترافق مع غزو المقدس الديني وذلك لإيجاد المبررات لإسكات المعارضين من أبناء الدين نفسه ومن أبناء الديانات والقوميات الأخرى، كما لا يقتصر الغزو على من هم في الأعلى بل ينسحب دائما على من هم في الأسفل. فمع خمول منظومات القيم الأخلاقية وهزالها وتفشي قيم السوق الرخيصة (كل شيء مباح لجمع المال)، سرعان ما يجد كسالى الثقافة والفكر الفرصة للمشاركة في وليمة السلب والنهب. لذا فهم يلجأون إلى خزائنهم المذهبية بحثا عن المسلمين الأوائل للتماهي الواعي معهم والتقليد المتعمد لهم واستدخال بطولاتهم الحقيقية أو الوهمية، فيبالغون في وسم جباههم وفضفضة أصابعهم ونقش زهدهم الظاهري في هيئتهم ولباسهم واحاديثهم. ويستفيضون في طهارتهم وتعبدهم ويكثرون من بسملتهم وادعيتهم وطقوسهم واحتفالاتهم ليعطوا لأنفسهم حقوقا اكبر على حساب حقوق الآخرين ويجدوا المبرر لغزواتهم.

وهكذا يستطيع أي كان أن ينصب نفسه شيخا أو إماما أو داعية أو أميرا وان يفعل ما يشاء، ويفتي كيفما شاء، مضفيا على كلامه طابع القداسة، بحجة الجهاد أو المقاومة، مستبطنا ثقافة الغزو، حتى أصبح الدفاع عن الإسلام يخفي رغبة دفينة بالتسلط والنهب. أما المكان الأمثل للغزو فهو الجامع الذي يتحول مع هؤلاء، من مكان للخشوع والصلاة والألفة والتسامح والمحبة، إلى بركان سياسي وإعلامي يقذف الكره والحقد والعنف والتهديد والوعيد، حتى يخشى الجنين الخروج من بطن أمه تجنبا للحياة وخوفا من عذاب النار.

ومن اجل إيجاد المسوغات الشرعية لنمط تفكيرهم وأعمالهم، يبحث هؤلاء عن موضوع يكون بديلا من المشرك الذي كان يجوز استباحة دمه وعرضه وماله، فيجدون في الآخر المختلف دينا وعرقا وفكرا ذلك المشرك الجديد المتخيل، الذي يتحول إلى موضوع للاستباحة يستوجب الغزو ويسري عليه، كما يسري أيضا على كل من يخالفهم الرأي، مستغلين كل وسائل الترغيب والترهيب والتهويل الشرعي عبر إغراق العقول والنفوس بكم هائل من الفتاوى، ليبرروا بذلك تسلطهم وهيمنتهم على الحياة العامة والخاصة وفرض سطوتهم على الفضاءات الاجتماعية بأكملها، كما بدأ يبشرنا بذلك “الربيع العربي” وحركات الجهاد والمقاومة التي وضعت المسلمين في أسفل سلم الحضارة والرقي وأرجعتهم إلى عهود الظلمة والاستبداد.

لكن ثقافة الغزو لم تقتصر على هؤلاء فحسب بل طبعت أيضا وبعمق ثقافة الحركات القومية التقليدية واليسارية والشيوعية التي مارس كل منها الغزو على طريقتها الخاصة. أما النخب الليبرالية والعلمانية الحداثية التي غرقت في نقاشات ومبارزات عقيمة، وبدل أن تسعى لخلق المواطن المسؤول وأن تنتظم وتتوحد في جبهة عريضة وتستشرف آفاق المستقبل المظلم الذي ظنت أنها ستكون بمنأى عنه، فإنها استكانت لوليمة المغانم واتبعت سياسة المجاملة والمسايرة والنفاق، بعد أن تواطأت ضمنيا، بوعي أو بلاوعي، مع الفكر الديني السياسي واطمأنت إليه، لتجد نفسها أخيرا جزءا من المغانم وفريسة بين فكي الدهماء والرعاع الذين يجدون متعة بلَوْكهم كل صباح ومساء.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى