مراجعات كتب

«الإشهار الدولي والترجمة إلى العربية» للجزائري محمد خاين: رهانات الاحتواء وإكراهات اللغة والثقافة

 

 

صدر عن «دار المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» «الإشهار الدولي والترجمة إلى العربية» لمحمد خاين. يحاول الكاتب فيه الإجابة عن أسئلة مثل: ما الذي يميز الترجمة الإشهارية؟ وما هو مفهوم الأمانة؟ وما حدود الأمانة في الترجمة الإشهارية؟ وما هي المعوقات اللسانية التي تعترض ترجمة النصوص في هذا الحقل؟

ويسعى الكتاب أيضاً إلى إظهار المصاعب التي تعترض ترجمة النص الإشهاري مع المحافظة على الترجمة. والأمانة في ترجمة النص الإشهاري تعني في جوهرها الأمانة للغرض التجاري، أي للسلعة المطلوب ترويجها. يقصد بالنص الإشهاري النص الإعلاني، ملصقاً كان أم دعاية مصورة.

ويدرس الكتاب الدور الوظيفي الذي ينبغي الاضطلاع به، لأن لغة الإشهار لا تبيع السلعة وحدها فحسب، بل السلعة وحواملها البصرية المتعددة التي تحفظ الفرد على السعي نحو الجمال أو الصحة أو الأنوثة.

وفي هذا السياق، يركز محمد خاين على البنية الجمالية للنص الإشهاري التي تستخدم لغايات تداولية ترويجية، الأمر الذي يمنعه من اكتساب صفة الأثر الأدبي ذي الطبيعة الجمالية المتفردة الكامنة في جوهره.

محمد خاين كاتب جزائري، عمل في ميدان التعليم، ثم انتقل إلى التدريس في جامعة الشلف في الجزائر منذ 2006.

أصدر كتاباً «النص الإشهاري: ماهيته، انبناؤه وآليات اشتغاله» (2006)، و»العدالة اللغوية في المجتمع المغاربي» (2014)، بالاشتراك مع أحمد عزون.

هنا المقدمة التي تتناول فصول الكتاب ومقارباته.

نرى أن هذا العمل الذي أملته التحولات السوسيو ثقافية والاجتماعية التي تعيشها المنطقة العربية كغيرها من مناطق العالم، جاء ليسد فراغاً رهيباً تعانيه المكتبة العربية في مثل هذا النوع من المقاربات التي تركز على الأدوار الوظائفية التي ينبغي على اللغة الاضطلاع بها. وحاولنا أن نعمق البحث فيه في الكيفية التي يقع بفضلها التوافق بين متباعدَيْن في الترجمة عموماً، وترجمة الإشهار خصوصاً: خصوصيات الرسالة التي يحملها النص في اللغة المصدر، بما تمثله من حمولة ثقافية وأيديولوجية، وعملية النقل إلى وسط مغاير في اللغة الهدف مع الاحتفاظ بإرادة القول التي يريد المشهر تمريرها من خلال الرسالة، وهو القصد من إنشائها وترجمتها، والمحددة سلفاً في تحويل المتلقي المفترض للترجمة إلى مستهلك فعلي للمادة/ الخدمة المشهر لها.

نسعى في هذا الكتاب إلى تبيان الصعوبات التي تعترض ترجمة النص الإشهاري، إن على مستوى النسق اللساني أو على المستوى التواصلي، والإكراهات التي يعمل المترجم على تلافيها، مع الحفاظ دائماً على مبدأ الأمانة متعدد الألوان في ترجمة الإشهار، وتحقيق القصد من الترجمة في النص الهدف، والمتمثل في تبليغ الرسالة الإشهارية كاملة من دون تشويش دلالي أو تواصلي يذكر.

[ أولاً: إشكالية البحث وخطته

نحاول في هذا الكتاب إيجاد إجابات وحلول للإشكاليات الآتية: ما الذي يميز الترجمة الإشهارية؟ وهل يترجم النص الإشهاري أم يُكيّف؟ وما مفهوم الأمانة، وما هي حدودها في ميدان الترجمة الإشهارية؟ وما الإكراهات اللسانية التي تعوق الفعل الترجمي للنص الإشهاري؟ وكيف يمكن تجاوزها؟ وما الآليات التي يُستنجد بها لتجاوز هذه المعوقات بقصد قيام النص في اللغة الهدف بالدور المنوط به تداولياً؟ وما العوامل غير اللسانية التي تتدخل لتوجيه العملية الترجمية للنص الإشهاري؟ وكيف يكون التعامل مع العلامات الأيقونية المصاحبة للنص اللساني في فضاء الإعلان؟ وهل تخضع هي الأخرى للتكييف وفق ما يتطلبه السياق السوسيو ثقافي للغة المنقول إليها؟

لا ندعي أننا التزمنا منهجاً بعينه في هذا الكتاب. لكن المقاربة فرضت المنهج الموافق لطبيعها. ولأنها أي المقاربة كانت تداولية، لذا كان جهازها المفاهيمي حاضراً بشدة، من خلال التركيز على أفعال اللغة والسياق التلفظي والأبعاد التواصلية للترجمة الإشهارية، وقصدية الرسالة، وغيرها من المفاهيم التي تواترت في متن العمل. وذلك من خلال جملة أدوات منهجية، مثل الوصف والتحليل والتطبيق والمقارنة والتقويم.

[ ثانياً: تعاظم الاهتمام بترجمة الإشهار دولياً وعربياً

نشير إلى أن بحث مسألة الترجمة الإشهارية بدأ يثير شهية الدارسين، بسبب تعاظم الحاجة إلى تأطير هذه الممارسة علمياً خدمة لرأس المال، وتصريف المنتجات الغربية، وهذا ما عرضناه في أثناء تناولنا للدراسات التي أُنجزت في هذا الميدان. لكن ما تجب الإشارة إليه أن الاهتمام بمثل هذه الموضوعات انطلق من مجتمعات تعترف رسمياً بالثنائية والتعددية اللغوية، مثل كندا وبلجيكا وسويسرا، حيث شعرت الجماعات اللغوية الناطقة بالفرنسية بهيمنة الإنكليزية على المشهد الإشهاري، وهو وضع مشابه تماماً لما نعيشه نحن في مجتمعاتنا العربية حيث الهيمنة الفعلية للغات الأجنبية على الفضاء الثقافي والاجتماعي والاقتصادي (الفرنسية مغرباً، والإنكليزية مشرقاً)، حيث تبدو الترجمات المنجزة نسخاً خالية من روح الإبداع، فضلاً عن أنها تشوّه لغة هذه الجماعة. من هنا بدأ الحديث عن التكييف الإشهاري (Adaptation Publicitaire)، لتتوالى بعدها الدراسات، الأمر الذي عرضناه في ثنايا هذا الكتاب.

أما على المستوى العربي، فبدأنا نلمس اهتماماً في الأعوام الأخيرة مجسداً في مجموعة من المقالات المنشورة هنا وهناك في المجلات والدوريات الأكاديمية، مثل مقالة «عن الترجمة والإشهار» التي نشرها محمد حدوش في مجلة علامات المغربية في عام 2004، وكانت بمنزلة قراءة في كتاب (Publicité et traduction) لماتيو قيدار (M. Guidère). وكذا عدد من الرسائل الجامعية المقدمة في أقسام الترجمة في الجامعة الجزائرية، على سبيل المثال لا الحصر، والملتقيات والمؤتمرات التي عُقدت لهذا الغرض، والتي تندرج ضمنها اشغال الملتقى الدولي السابع الذي نظمه مخبر تعليمية الترجمة وتعدد الألسن في كلية الآداب واللغات والفنون في جامعة وهران بعنوان «ترجمة الخطاب الإشهاري»، والذي جرت فاعلياته في عام 2007. وقد خرجت اعماله في عددين متتاليين من مجلة المخبر. وما دراستنا بين دفتي هذا الكتاب إلا شذرة تُضم إلى باقي الجهد الذي بدأ يلوح في الأفق. ونزعم أن ما يميزها عما سبق تركيزها على المعطى التداولي للترجمة الإشهارية، والأبعاد التواصلية لهذه الرسائل من خلال تحويلها من سوق إلى أخرى. لكن المسار لا يزال طويلاً، ويحتاج إلى تضافر مجموعة من العوامل والموضوعية حتى يؤتي أُكُله، ويرتقي بالترجمة الإشهارية تنظيراً وممارسة.

واجهتنا في إنجاز هذه الدراسة على الوجه الذي كنا نأمله مصاعب جمة، تعود في طبيعتها إلى خصوصية الموضوع وجدّته، ومن ذلك شبه انعدام الدراسات النظرية في اللغة العربية، ما اضطرنا إلى العودة إلى ما كتبه الغربيون، ومحاولة تكييفه مع واقع الترجمة الإشهارية إلى اللغة العربية، ولا سيما ما تعلق منها بالجزائر، لأن ما وُضع هناك يخدم ترقية الترجمة عندهم ويوافق مقتضيات لغاتهم.

[ ثالثاً: منهجية البحث

كان تعدد المقاربات التي تتناول هذا الموضوع من العوائق التي صادفتنا، لأنها تتطلب وعياً منهجياً قد يغيب عن الدارس في أحيان كثيرة، نظراً إلى كون المسألة موضع عناية في حقول معرفية كثيرة، الأمر الذي يعقد مهمة انتقاء الأكثر ملاءمة لطبيعة الدراسة، علاوة على صعوبة الإمساك بالخطاب الإشهاري المنفلت من التنميط، والمأسسة اللغوية، وتداخل مستويات المعالجة الترجمية التي تخلق صعوبة منهجية لعملية العزل بينها.

[ رابعاً: النتائج

ركّزنا في الفصل الأول على ما له علاقة بالأبعاد التداولية المتمظهرة أساساً في هذا النمط من النصوص في أفعال اللغة، التي يُبتغى منها إحداث أثر إيجابي لدى المتلقي المفترض، ويتبدى من خلال التصرف إيجابياً تجاه المادة/ الخدمة المشهر لها، وذلك بسلب إرادته في التفكير، ومن ثم القدرة على الاختيار. وبدا لنا بعد المدارسة أن نحصر هذه الأبعاد التداولية في ما يلي من العناصر:

[توظيف البنية الجمالية للنص لغايات تداولية، لأنه نص آني لا يمكن بأي حال، ومهما تكن درجة أدبيته (Littérarité) أن يكتسب صفة الأثر الأدبي، وأن يستمر في إنتاج قراءات، ما دامت قصديته محددة سلفاً. فصلاحيته منتهاة بمجرد اكتمال دوره في توصله إلى إقناع المتلقي المفترض، الأمر الذي دفع أحد الدارسين إلى التأكيد أنه على الرغم من الغنى الدلالي الذي يبديه النص الإشهاري فإنه فقير من الناحية القرائية، ومرد هذا الفقر القرائي أحادية القصد المشار إليها، المحددة في الانتقال بالقارئ من فعل التلقي إلى فعل التصرف.

[الكتابة الإشهارية أشبه ما تكون بالعبثية؛ إذ يبدو النص غير متسق على مستوى البنية السطحية، فترد متوالياته اللسانية وسلاسله الكلامية مبعثرة في فضاء الملصق. وما يحقق الانسجام على مستوى البنية العميقة هو بناء الرسالة على عملية تبئير (Focalisation) العلامة التجارية المتبنية للمنتَج المشهَر له، الأمر الذي دفع بعض الدارسين إلى وصفه بالنص المهشم.

[تغييب البعد التجاري وإبراز الجانب القيمي المصاحب، بمعنى أن الإشهاري لا يبيع السلعة فحسب، وإنما القيمة المضافة، مثل المكانة الاجتماعية الراقية والجمال والصحة والأنوثة الصارخة، لأن ما تقدمه الرسالة الإشهارية هو «انتماء إلى قيم تحدد للفرد وضعاً اجتماعياً يميزه عن الآخرين أو يوهمه بذلك».

[ارتكاز الرسالة على مكوّن أيقوني يعمل على تحيين النوازع البشرية كحب التملك والبحث عن الأمن وإشباع الغرائز، وذلك باستثمار النتائج المحققة في علمي النفس والاجتماع عن الفئات المستهدفة (السن والجنس والمستوى الثقافي والاجتماعي الرغبات الميول).

يدفعنا هذا إلى القول أن خصوصيات هذا النمط من النصوص التي تجعل من الكتابة الإشهارية تحمل في ثناياها مجموعة من الإكراهات يصعب تجاوزها في أثناء ممارسة الفعل الترجمي، ما يضطر المترجم إلى تبني بعض الآليات واتخاذ مجموعة إجراءات، والأخذ في الحسبان جملة العوامل اللسانية وغير اللسانية، الأمر الذي عملنا على تجليته وإزالة ما يكتنفه من لبس في باقي مباحث وفصول هذا الكتاب.

تتبعنا في الفصل الثاني مجموع العوامل الخارجية التي تؤثر في الاستراتيجيات الترجمية التي يتبناها الإشهاريون في عملية الاتصال الدولي وتحويل الرسالة من سياق وطني إلى سياق دولي، بقصد تحقيق أغراض تجارية.

خلصنا كذلك إلى أنه تكتنف الإشهار الدولي ملابسات تحدد مسار توجهه، وهي ملابسات فرضتها المتغيرات الدولية متجسدة في العولمة بوصفها أيديولوجيا القرن الحادي والعشرين، ومن ثم يمكن حصر المواقف المتخذة من عملية نقل الرسائل الإشهارية من سياق وطني إلى سياق دولي في ثلاثة توجهات:

ـ الداعون إلى النمذجة والتدويل التام للحملات الإشهارية، من دون أدنى اهتمام بالسياقات المحلية.

ـ الداعون إلى احترام الخصوصيات المحلية، وأخذها في الحسبان في كل نقل للرسائل إلى سياقات محلية.

ـ أنصار الوسطية ما بين المحلي والكوني.

ما هو ملاحظ على هذه الطروحات هو الاتفاق في الغايات والمقاصد، والاختلاف في الآليات والإجراءات، الأمر الذي أنجز عنه ممارسات ترجمية متنوعة، يمكن استثمارها في تحقيق تراكم نظري يشكل رصيداً ثرياً يساهم في بناء نظرية للترجمة في حقل الإشهار.

إن ما يجب عدم إهماله هنا أن الجدل الدائر في شأن عملية النقل، إنما الغرض منه الوصول إلى كسب الرهانات الموكلة بعملية الترجمة الإشهارية، وهي كما هو معلوم ذات أبعاد تجارية، وهذا ما يسمح بإدراجها ضمن المعطى التداولي؛ الأمر الذي يجيز لنا وصف هذه الرهانات التي يسعى المترجم إلى كسبها عن طريق عملية النقل بالرهانات التداولية، من منطلق أن العقد التلفظي في الاتصال الإشهاري يتشكل من: منتج يعهد إلى معلن (وكالة إشهارية) تصميم رسالة تعدد مزايا مادة: خدمة يجري تبليغها من خلال وسائط مختلفة في اللغة المصدر إلى متلقين محليين، في حين يعمل المترجم بوصفه أول متلق في اللغة الهدف، ويقع في نهاية السلسلة الاتصالية الأولى، على نقل الرسالة إلى اللغة الهدف المتلقين دوليين. وبهذا فهو يمثل دور الهيئة الاتصالية (المعلن). ويخضع العقد المذكور إلى جملة اتفاقات منها:

ـ قول شيء ما عن منتَج/ خدمة يحقق منفعة، أو يسد فراغاً أو يكمل نقصاً في جانب من جوانب حياة المتلقي.

ـ على المترجم ألا يثير حساسية ذلك المتلقي فينفره، الأمر الذي يمكن اختصاره في ما يسميه باتريك شارودو (P. Charaudeau) بالممكن قوله (Dicible)، وبذلك يكتسب ثقته، فيقتنع بالحجج المساقة إليه. الأمر الذي يؤهل الملفوظ كي يصير فعلاً لغوياً ذا تأثير ضاغط لمصلحة الرسالة في اللغة الهدف.

بهذا نجد أنفسنا نتعامل بوساطة جهاز مفاهيمي، هو من صلب اللسانيات التداولية، حيث الانتقال باللغة من كونها نظاماً من العلامات إلى أنها استعمال وفاعلية ومردودية، ذلك كله نراه متجلياً في الملفوظ (Enoncé) والتلفظ (Enonciation) والتصريح (Explicite) والتضمين (Implicite)، والسياق (Contexte) الذي يحدد المعطيات المشتركة بين طرفي/ أطراف العملية الاتصالية، وكذا التجارب والثقافة المشتركة، الأمر الذي يوسم بالمعرفة الموسوعية (Encyclopédique) المؤطرة في حيز زمكاني (Spatio-temporel)، والتي تؤهل الملفوظات كي تصبح عناصر فاعلة في المستويات التداولية الثلاثة:

المستوى الأول: يتمثل في رغبة القول المتجسدة في ملفوظات ذات دلالة مرجعية، تدور حول المنتَج/ الخدمة، من خلال تقديم فكرة إيجابية عنها، إضافة إلى تلميع صورة العلامة التجارية لدى المتلقين في ثقافة الاستقبال، وهو مستوى ذاتي مرتبط بالمعلن، ويتعلق كما سبق أن رأينا بالصورة المرادة (Limage voulue).

المستوى الثاني: يتجسد في تعداد المنتج/ الخدمة، وخصائصه، وجميع مواصفاته، ما يتوافق مع الجانب التصريحي للغة، وما يحمله في طياته من دلالات ضمنية تحث على اقتنائه، أو الانخراط في الخدمة المقدمة. ويتجلى هذا المستوى في الشكل اللساني والأيقوني للرسالة. وبهذا تتحقق الصورة المعروضة (Limage diffusee).

المستوى الثاث: وهو ذو بعد تأثيري؛ إذ تتحول فيه الملفوظات الى افغال ذات ابعاد دعائية ترويجية، الأمر الذي يحقق في هذا الحقل ما يعرف بالصورة المدركة (Limage percue).

كما عملت الدراسة في فصلها الثالث على حصر المرجعيات والأطر النظرية التي وجد فيها مترجمو النصوص الاشهارية شرعية لممارساتهم عمليات النقل للرسائل المروجة للخدمات والسلع، ممثلاً في الانبثاق النظري الحاصل في نظرية الترجمة، ولا سيما في المقاربات الوظيفية التي ظهرت في المانيا بعد سبعينيات القرن الماضي، وذلك بتجاوزها النظرة الضيقة التي كانت ترى في الترجمة فعلاً لسانيا معزولاً، الى رؤية اكثر شمولية وعمقاً من خلال الأخذ في الاعتبار مجموع العوامل الخارج لسانية المؤثرة فيها. وكذا تنامي المقاربات التي تعامل الترجمة بوصفها نتيجة اكثر من كونها مساراً. وقد كان لهذه الرؤية المتطورة صداء الايجابي في الممارسات السائدة؛ ذلك ان الترجمة الاشهارية تحكمها ضرورة اقتصادية في المقام الاول، وما بقة الاعتبارات الا اعباء يجب تلافيها وعدم الدخول معها في مواجهة، ومن ثم يكون دور المترجم البحث عن التوافقات الاستراتيجية التي تحقق للنص المترجم القبول في اللغة/الثقافة الهدف.

اتخذ الخطاب الاشهاري من معايير الترجمة معالم في تحقيق رهاناته في اللغة المصدر؛ ذلك انها وفرت له المرونة التي حققت للمترجم هامشاً كبيراً من الحرية في انجاز ترجماته. فقد امدته بآليات وتقنيات جنبته مشكلات عدة، وكذا تفادي التمرد الذي تبديه دوال النص في أثناء عملية النقل، لأنها «ليست احكاماً سلوكية مفترضة قادمة من خارجيات عملية الترجمة التي غالبا ما تتصف بالذاتية والاعتباطية، بل هي معايير تنبع من معاناة الفعل نفسه» كما ساعده في هذه المهمة طبيعة الخطاب نفسه بوصفه خطابا يقوم على التعمية، الأمر الذي يساهم في حال الترجمة في القابلية لإيجاد معادلات مواربة في اللغة الهدف. ومن ثم تساهم تلك المعايير في تخفيف العبء الاضافي الذي تفرضه فرادة الترجمة الاشهارية التي ترجع الى خصوصيات لغة الاشهار في مستوياتها كلها. وبناء عليه، أمكن الخروج بهذه المعالم بوصفها مرتكزات يمكن الاتكاء عليها في انجاز ترجمات تتسم بالسرعة والفعالية والجودة.

ـ تساهم المعايير الترجمية في انتقاء الاستراتيجية الترجمية الأكثر ملاءمة، ومن ثم تعمل على الحفاظ على بعض المكونات التي تعد ثابتاً من ثوابت النص الاشهاري، أكان ذلك في الأصل أم في الترجمة، ومن هذه الثوابت:

ـ تداولية النص الاشهاري المراد منه ان تكون له قوة انجازية تأثيرية بوصفه فعلاً لغوياً غير مباشر.

ـ البعد الجمالي الملامس للمشاعر والأحاسيس، والمؤدي الى اثر نفعي.

ـ الطابع الايحائي الذي يخرج به فعل التبضع من الروتين، واظهاره على انه محقق للذات.

ـ صبغ المادة المشهر لها بقيمة مضافة، يتعمد الاحتفاء بالإنسان وتغييب البعد المادي.

هذه كلها عناصر تشكل البنية الحجاجية للنص الاشهاري، الأمر الذي يدفعنا الى التمثيل بنص كلود تاتيلون الذي يرى في الترجمة الاشهارية نقلاً للروح لا الحرف، وللوظائف لا الأسماء. ولذا يصير لزاماً على المترجم الوعي بالشروط التلفظية للنص المصدر، بوصفها متممات معرفية تلازم كل نص، فهي «تتدخل في عملية التواصل بطريقة عفوية ارتكاسية. ويكون الوعي بها أكبر عندما يتعطل فهمنا للنص، بسبب غياب بعض المعلومات أو جهلنا لها».

في الفصل الرابع جرى تركيز زاوية التناول في الاكراهات التي تمثل قيوداً لسانية ضاغطة تمارس تأثيراتها في اختيارات المترجم، وبذلك تصير عقبة في وجه التدويل الاشهاري الساعي دوما الى تنميط طبائع الاستهلاك، وترويج ثقافة كونية واحدة. ولذا وجب حصرها وتفهم طبيعتها نظراً الى انها تتصف بالتعدد والتنوع والتداخل، ما يجعلها معقدة تعقد الظاهرة اللسانية، إذا تفرض حضورها في اثناء عملية التحويل للرسائل الاشهارية على جميع مستويات اللغة الهدف. وهذا ما تجلى بوضوح في عملنا على تحليل بعض الرسائل، اذ تداخلت المستويات المختلفة عبر الاكراهات التي فرضتها، وبالتالي صعب الفصل بينها ولو لغرض منهجي القصد منه اليسير على الدارس حصرها وضبطها في تصنيف محدد. وبذلك تلتحق بركب العوامل الأخرى العائدة الى جوهر اللغات كاختلاف رؤية العالم، وما ينجر عنها من اختلاف طرائق تقطيع التجربة الانسانية الواحدة من لغة الى اخرى، او في غيابها عن لغة ووجودها في الثانية، وما ينجر عن ذلك من عدم التطابق في ما بينها، والذي يتجلى في وجود مقولات لغوية في هذه وانعدامها في تلك، وتظهر نتائجه في ترتيب عناصر الملفوظات، ومسائل التقديم والتأخير، وقضايا الوصل والفصل، والاضمار والاظهار، والحقيقة والمجاز، والحكم والأمثال، والعبارات المسكوكة. وقد توصلنا الى انه:

ـ يصعب اخضاع هذه الاكراهات الى المعيارية والتقنين، وبالتالي فان التعامل معها متروك لاجتهادات المترجمين، ومهاراتهم في تذليل صعوبات الترجمة، وما يتصفون به من ابداعية مؤطرة بجملة من العوامل الخارج لسانية التي تتدخل في توجيه الترجمة (فئة المتلقين، وثقافة المجتمع الهدف، ونوعية المادة/الخدمة المشهر لها.. الخ، والتي يتم في ضوئها انتقاء الاستراتيجية الترجمية الأكثر ملاءمة المنبنية اساساً على التوفيق بين متطلبات الدال اللساني واكراهاته، والرهانات التداولية الملابسة للفعل الاشهاري، ومن ثم تتحول الى الترجمة.

ـ أفرغت الترجمة الاشهارية مفهوم الأمانة من ابعاده الفلسفية والدينية والأخلاقية، وصيرتها امانة للغرض التجاري ممثلاً في المادة/الخدمة المشهر لها، ومن ثم انزاح عن مكانته التي كان يحتلها في تقويم الترجمات، ليحل محله الفاعلية والجودة والجمال والابداعية. وبذلك اضحى من المتغيرات بعد ان كان من الثوابت، وهكذا أخرج من دائرة الايديولوجيا ليدخل في ايديولوجيا العولمة، فقد جرى التحول من الترجمة الحرة الى الترجمة الليبرالية التي تعامل فيها اللغات على انها مجرد ادوات عمل. وما نجاح الحملة الاشهارية في السوق الهدف الا القيمة العملية الوحيدة التي يحتكم اليها في تقويم الترجمة بوصفها المقياس الحقيقي للأمانة.

تتبعنا في الفصل الخامس الذي كرسناه لمفهوم استراتيجيات الترجمة الاشهارية، هذه الاستراتيجيات بوصفها خطط عمل لإدارة وضعية تتسم بالصعوبة والتعقيد، وهي في الوقت نفسه موقف يتخذ وتنجر عنه قرارات ممثلة في آليات وتقنيات توظف لتجاوز اكراهات الترجمة. ومن ثم امكن حصر النتائج المتوصل اليها في الآتي:

ـ تتسم الترجمة الاشهارية بعدم تقيدها بأسلوب ترجمي معين، بل قد يلجأ المترجم الى الاستعانة بجميع اساليب الترجمة، بما ينضوي اليها من تقنيات متنوعة بغية تجاوز الصعوبات التي قد تعترضه في عمله.

ـ على الرغم من ان الترجمة الحرفية تقدم حالات مثلى لنقل الاشهار، فينبغي عدم التعويل عليها في جميع الوضعيات، حتى انه يوجد من الدارسين من ينصح بعدم تبنيها خياراً ترجمياً حتى في حالة اللغات المتقاربة.

ـ يظهر ان التكييف هو أنجع اساليب الترجمة الاشهارية لأنه يراعي من خلاله احترام خصوصيات الشعوب المتوجه اليها بالإشهار الدولي، وطبيعة لغاتها في تقطيع التجربة الانسانية، كما انه لا يغرب اللغة المترجم اليها، بوساطة دخوله في توافق مع خصائصها الصوتية والمعجمية والتركيبية والأسلوبية.

ـ لا يراد بالتكييف الحرية المطلقة في التعامل مع المصدر، بل تكييف مشروط بعقد النجاعة، المحافظ من خلاله على ثوابت ينبغي لها الا تزول في الهدف، وهي هوية المعلن واسم المنتج/الخدمة، وحجج البيع التي قد يعاد ترتيبها وفق منطق الأولويات المتبدل من سوق لغوية الى اخرى بفعل تباين طبائع الاستهلاك، ونوعية المنتج.

ـ تظهر الممارسات الترجمية في حقل الاشهار ان الاسترفاد بالنماذج الوظيفية والتأويلية في الترجمة هي الأصلح للتحويل الاشهاري من سياق الى آخر، لقيامها على مبدأ التواصل الفاعل الذي يأخذ في الاعتبار الشروط المقامية والتواصلية، وذلك من خلال تركيزها على المعنى مندرجاً في وضعية تلفظية مخصوصة.

ـ لا تقوم الترجمة الاشهارية على مجرد التحويل اللساني، بل يتعدى الأمر ذلك الى مراعاة العلاقات القائمة بين المكونات المختلفة للإعلان وبالأخص الصورة، التي تخضع اذا استدعت الضرورة ذلك الى التكييف، على الرغم من العلاقة المعللة القائمة بينها وبين مدلولها، لأن المشكل ليس في الصورة، وانما في القراءات التي تقدم لها بتوجيه من النص اللساني الذي يرافقها.

خلصنا في هذا الكتاب الى ان الترجمة الاشهارية تحكمها ضرورات ثلاث لا تستطيع الفكاك منها، وهي ضرورات اقتصادية ولسانية وثقافية. وفي اطار هذه الضرورات تعمل الثقافة على تشكيل سقف للنص يشتغل ضمنه اللسان لتحقيق الغاية الاقتصادية المتوخاة من اي فعل تواصلي يكون النص الاشهاري موقعيته، وتمثل هذه الضرورات مجمل الاكراهات التي على مترجم النص الاشهاري ان يضعها في الحسبان، ويعمل على ايجاد الحلول لها حتى يحقق تحويلاً سلسلاً، وانسيابياً للنص من اللغة المصدر الى اللغة الهدف من دون خسارة دلالية او افلاس وظيفي، بمعنى انه على مترجم النص ان يكون أميناً للمفهوم التجاري، حيثما تموقع في الهدف أو في المصدر. (…)

المستقبل

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى