صفحات الرأي

الإغراء بالانفصال والارتياب منه: الموجة الأوروبية والمتابعة العربية/ وسام سعادة

 

 

سواء تعلّق الخبر بمسعى اسكوتلندا أو كاتالونيا أو لومبارديا في الإنفصال عن الدول التي هي جزء من شعبها، ومن سيادتها الترابية، يطغى على المتابعة العربية للخبر مزيج من الإستهجان والإرتياب.

الإستهجان من حدوث هكذا «فتن إنفصاليّة» في مجتمعات (ما بعد) صناعية وديمقراطية (ليبرالية) غربية، تفترضها المتابعة العربية في منأى عن مشاغل يفترض أن تعترض عمليات بناء الدول الوطنية في البلدان النامية أو عن الأحقاد القومية المنبعثة من حطام التركة الشيوعية الغليظة في أوروبا الشرقية. يعبّر هذا الإستهجان عن نفسه بالتعليلات الكاريكاتيرية لدوافع «الإنفصاليين» في البلدان الغربية. فهم إمّا ضحايا «انطوائية» و«انعزالية» و«شعبوية» سجنتهم في «سياسات الهوية» المكتئبة أو المحتقنة. وإما أنانيّون ونرجسيّون، لا يريدون بأن تذهب ضرائبهم لغير مناطقهم، ويعتقدون بأنّهم سيكسبون أكثر عندما يبذرون دولهم العتيدة. وإمّا يفعلون كل هذا عن نزق وضجر، بـ«فضاوة بال» واستهتار (هذا عندما لا تلتهب المتابعة أكثر وتقحم نظرية المؤامرة التفتيتية العالمية المقصودة، أو الآلية، بسبب العولمة الرأسمالية «المتوحشة» وراء كل هذا).

أما الإرتياب البادي في المتابعة العربية، فمن انتقال العدوى إلى بلداننا. فحجة الإسكوتلنديين والكاتالونيين واللومبارد والكورسيكييين والكيبيكيين في الإستقلال تظهر عبثية، وتبديدية، ومترفة، تحاكي طور تحلّل المُلك عند إبن خلدون، وإذا كانت لم تفهم، من موقع هذه المتابعة لهؤلاء الناس قضية، سيّما أنّهم لا يعانون اليوم من اضطهاد قومي ولا ديني ولا سياسي ولا اقتصادي في الدول التي هم جزء منها، وهم في الحالة الكاتالونية ـ الإسبانية على مذهب كاثوليكي واحد مع الكيان الذين يريدون عنه الإنفصال، وكذلك بالنسبة إلى الحالة الإيطالية، ويبقى الإختلاف بين الكنيستين، الأنغليكانية الإنكليزية والمشيخية (البريسبيتارية) الإسكوتلندية ضمن المشترك البروتستانتي. هذا في وقت يسعى مئات الآلاف من الشباب العربي للإلتحاق بركب المهاجرين إلى هذه البلدان، ويحلم القاعدون عن الهجرة بأن تصير بلدانهم على شاكلة هذه البلدان المرغوبة في يوم من الأيّام، ولو بعيد. فإذا كانت هذه حال الإسكوتلنديين والكاتالونيين واللومبارد، فما الذي يمكنه أن يبقي بعد ذلك، وهنا مركز الإرتياب في المتابعة العربية، مجموعة مساكنة لمجموعة، أو قبيلة لقبيلة في البلدان العربية، التي تحصل فيها اضطهادات بالفعل، قومية هنا، دينية هناك، واقتصادية وسياسية هنا وهناك. اذا كان الكاتالونيون الكاثوليك لا يستطيعون العيش مع القشتاليين الكاثوليك في اسبانيا واحدة، فما الذي يبقي الشيعي مع السني، والعربي مع الكردي أو الأمازيغي أو النوبي، في كيانات واحدة؟ هذا مضمر في الإرتياب.

ما يغيب عن هذه المتابعة لـ»الأخبار الإنفصالية» في أوروبا الغربية أمران أساسيان. أولهما أنّ الديناميات والأفكار القوميّة لم تتجاوزها حركة المجتمعات الراهنة، وإنّما شهدت النزعات القومية مضامين جديدة، كون النزعات القومية يمكن أن تبدّل، في سياق اقليم محدّد من معيار المفاصلة من حقبة إلى حقبة. في بلجيكا المولودة عام 1830، كانت البوتقة الكاثوليكية كافية لبناء سردية أمة بلجيكية منفصلة عن الأمة الهولندية البروتستانتية. لكن «القومية البلجيكية» لعام 1830، التي طالبت بالانفصال السياسي عن هولندا، بداعي الإنفصال الثقافي عنها، مأخوذة الثقافة هنا بالمعطى الديني المذهبي أولاً، سرعان ما انزاح معيار المفاصلة الثقافة داخلها من الدين إلى اللغة، فكان الحراكان القوميان اللغويان، الفلامندي والوالوني، تحويلاً لبلجيكا إلى فدرالية فكونفدرالية. الإتجاه كان معاكساً في الحالة اليوغوسلافية. في القرن التاسع عشر، عكف رواد هذا المشروع من اللغويين على تشكيل لغة مشتركة باصطفاء الكلمات من اللهجات المختلفة، لتشكيل اللغة «الصربو ـ كرواتية»، كعنصر أساسي للتوحد القومي لسلاف الجنوب. انزاحت المفاصلة الثقافية في القرن العشرين نحو العامل الديني، وصارت تبحث هذه المفاصلة الثقافية عن مفاصلة سياسية لم تتأمن شروطها إلا بالحديد والنار، لتعكف من ثمّ الدولة الكرواتية بعد انفصالها عن يوغوسلافيا «الصربية» إلى تنقية اللغة المشتركة من «المفردات الصربية المحض» ما استطاعت، مع أنّها كانت في الأصل لغة خيّطها المعجميّون القوميّون «اليوغوسلافيون»، ثم أعيد تنميطها من فوق إلى تحت، بمعية الإنتلجنتسيا، ثم بمعية الدولة الموحدة ومؤسساتها التربوية والأيديولوجية.

الأمر الثاني، هو أنّ نظرية عالم الإجتماع والسياسة الأمريكي (من أصل تشيكي) كارل دويتش في البناء الوطني، التي خيّمت طويلاً على القرن العشرين، والتي ربطت بين ارتفاع معدلات التحديث والتعليم والتمدين والتصنيع وتكثيف التبادلات وبين ازدهار مؤشرات الإندماج الوطني إنّما تعرّضت للإهتزاز بشكل متواصل منذ نهاية القرن الماضي إلى اليوم، وهو ما يلفت اليه تحديداً آلان دييكوف في كتابه «الأمة في جميع حالاتها (دولها)». منذ سبعة عشر عاماً اتخذ دييكوف من المثال الكاتالوني نموذجاً لتفسير ذلك. في القرن التاسع عشر، كان الاختلاف واسعاً بين القاعدة الصناعية المتقدمة في كاتالونيا، وبين قشتالة، المهيمنة على الوحدة الإسبانية، لكن الريفية وشبه الإقطاعية. أما منذ الستينيات من القرن الماضي فقد تراجع هذا التفاوت كثيراً، أولاً من القفزة التحديثية التكنوقراطية في ظل حكم فرانكو، وأكثر فأكثر مع الديمقراطية، اذ تقاربت أنماط العيش ومنظومات القيم بين الكاتالونيين وبقية الإسبان، وبخاصة سكان مدريد، أكثر من أي وقت مضى. لكن في هذه المرحلة بالتحديث، وكلما ازداد التقارب كلما صارت الإختلافات مرئية أكثر، ويحتاج الكاتالونيون لتكريسها أكثر. كلما زاد التشابه زادت ملحوظية الإختلافات، وحساسيتها.. ويمكن أن نضيف، أنّه كلما حدث ذلك كلما صارت تبدو المشتركات «بديهية» وتحصيل حاصل وكونية، ولا تحتاج للبقاء في كيان واحد، للإبقاء عليها.

لا يعني ذلك بالطبع أنّ قلّة المشتركات وتدهور العقود الإجتماعية في البلدان العربية ينبغي أن يؤخذ على أنّه حصانة كيانية. فلئن كان التقارب بين مركز وطرف ضمن بلد معيّن كفيل بتنمية حسّ التمايز بينهما، خصوصاً من جهة الطرف، على ما يلحظ في الحالات الأوروبية الغربية، وتحديداً كاتالونيا هنا، فإنّ عدم تنمية التقارب من الأساس يؤدي مؤداه هو أيضاً، كـ«نزعة طاردة»، لكن ليس لانبثاق كيان متفرع من كيان آخر، بل لحالة من «العسرة الكيانية» بشكل عام. عطب متجذر في الكيانات الحالية، وعطب يعترض حتى انفصال الجزء عنها، بشكل حاسم، لتشكيل تجربته.

٭ كاتب لبناني

القدس العربي

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى