صفحات الثقافة

«الإهانة»: السينما وأسئلة الواقع/ الياس خوري

 

 

 

الجدل الصاخب الذي ثار من حول زياد الدويري وفيلمه» القضية 23» (أو «الإهانة» بحسب عنوانه الانكليزي) ومسألة المقاطعة التي رافقته، والتباسات الواقع السياسي اللبناني واصطفافاته، حجبت تظهير المسألة الاساسية التي يثيرها هذا الفيلم. المسألة هذه طرحها المحامي وجدي وهبي (كميل سلامة) في سياق دفاعه عن طوني حنا (عادل كرم) حين تساءل، في احدى جلسات المحاكمة، عن سبب فشل البيئة المسيحية المقاتلة التي خاضت الحرب الأهلية بمراحلها المختلفة، في التحول إلى قضية انسانية. قال المحامي بما معناه بأن المسيحيين هم الضحية التي لم يستمع الى صراخها احد في العالم، بينما العالم بأسره يتفاعل مع الضحية الفلسطينية.

هذا السؤال يخيم على فيلم زياد الدويري ويشكل مفتاحه الدرامي والسياسي، على الرغم من بعض أخطاء الفيلم التي يمكن للمخرج وشريكته في كتابة السيناريو جويل توما تبريرها بضرورة ضبط البنية الدرامية للفيلم.

للأسف فان المسألة التي يطرحها الفيلم ضاعت وسط صخب صحافي قادته جريدة «الأخبار» في حملة ادانة واتهام، ثم ضاعت من جديد وسط اصطفاف سياسي، تجسّد في التدخل المباشر لوزير الثقافة ومستشار الرئيس الحريري غطاس خوري الذي تبنى الفيلم عبر ذهابه بطائرة احد منتجيه الخاصة، المصرفي انطون الصحناوي، الى البندقية لحضور عرض الفيلم الافتتاحي، اضافة الى البيان الذي أصدره حزب القوات اللبنانية، وفي ظل حملة ترويج مضادة.

كان لتبني جزء من الطبقة السياسية اللبنانية قضية الدفاع عن المخرج أثره المباشر في نزع فتيل انفجارمحتمل، عبر توليفة المحكمة العسكرية التي برأت الدويري من جنحة زيارة إسرائيل بفعل مرور الزمن على تلك الزيارة.

النقاش عن التطبيع والعلاقة بدولة الاحتلال الإسرائيلي ضاع في التشنح الاعلامي وفي خضم كواليس سياسة السياسيين اللبنانيين التي قامت منذ نهاية الحرب الأهلية بحجب معاناة اللبنانيين وحقهم في العدالة.

قبل الوصول إلى سؤال الفيلم وإلى الأسى الذي ولدته مشاهد تراجيديا الدامور، وهو أسى مسكوت عنه، (ولولا رواية «الوجوه البيضاء» (1981)، لمرت هذه المجزرة بصمت في الثقافة اللبنانية)، اريد أن أتوقف عند مسألة التطبيع والخيانة التي احتلت حيز النقاش.

بدا أن النقاش اتخذ شكل انقسام حاد بين دعاة مقاومة اسرائيل ورفض أي شكل من أشكال التطبيع معها، وبين أنصار حرية الفنان والحريات العامة.

هذا النقاش في حاجة الى قراءة، وهو يطرح سؤالين:

السؤال الأول هو حول معنى المقاومة. هل يستقيم خطاب مقاوم للاحتلال الاسرائيلي اذا كان جزءا من خطاب يدعم الأنظمة الاستبدادية؟

المقاطعة صارت اليوم واجبا وطنيا وانسانيا يشارك فيها عرب وأجانب، مهمتها ادانة المحتل ومقاطعة مؤسساته والمؤسسات المرتبطة به. وهي تنطلق من ايمان عميق بالحق والعدالة، لذا يفقد خطاب المقاطعة دلالته الأخلاقية والسياسية اذا تم ربطه بأنظمة استبدادية تقوم بطحن الشعوب.

السؤال الثاني هو حول الدفاع عن حرية الثقافة والمثقف، هنا ايضا اختلطت الأمور، فالدفاع عن الحرية والديمقراطية في بلادنا لا يستقيم من دون موقف واضح من الاحتلال الاسرائيلي وفاشيته وعنصريته ومشروعه القائم على التطهير العرقي. وفي المقابل يفقد هذا الموقف معناه اذا لم يجر تعميمه على جميع أشكال الاستبداد في المنطقة العربية. فادانة جرائم النظام السوري والسكوت عن جرائم اسرائيل وأنظمة الاستبداد العربية الأخرى هو الوجه الآخر للاختباء خلف ادانة اسرائيل من أجل التغطية على المجزرة السورية الرهيبة.

خطأ زياد الدويري في فيلمه السابق «الصدمة»، عبر اختيار رواية ياسمينة خضرا والتصوير في تل أبيب، ليس قانونيا فقط بل هو خطأ ثقافي لا يمكن السماح له بأن يتحول إلى سابقة، وهذه مسؤولية ثقافية أولا، ويجب مواجهته على المستوى الثقافي والفكري.

أعود إلى سؤال الفيلم الذي بناه المخرج بحِرفية عالية المستوى، وبجمالية تدهشنا في لحظات كثيرة، وبرهن فيه عن وجود طاقات تمثيلية كبرى في لبنان تحتاج إلى من يعطيها فرصة كي تلتمع.

لعل الجواب الأول يقدمه الدويري نفسه فبينما تميزت شخصية الفلسطيني ياسر (كامل الباشا)، بالمستويات المتعددة الذي يصنعها صمته الموحي وبطء ردات فعله وتلعثمه، فإن بطل الفيلم المسيحي اللبناني طوني (عادل كرم) ظُلم مرتين: الأولى كشخصية درامية ذات بعد واحد، والثانية كممثل عبر شخصية متوترة، أخفت طاقاته التمثيلية التي حين ظهرت في لحظاتها الانسانية برهنت عن وجود قماشة فنية كبيرة، ولعل المشهد الذي نراه فيه مستلقيا بين شجيرات الموز ومستسلما للطبيعة، بعد عرض الصور الوثائقية عن مجزرة الدامور، يشير الى هذا الاحتمال. الظلم الذي تعرض له طوني القواتي من بنية الفيلم يقدم بداية جواب عن السؤال. اذ بدا ابن الأشرفية، المهجّر من الدامور، عاجزا عن صوغ موقفه الا باعتباره يمثل شريحة مظلومة اضاعت لغتها.

هذه هي المسألة التي تحتاج إلى نقاش، ورغم أننا نستطيع تقديم جواب مباشر كأن نقول بأن الاستمرار في حكم لبنان من قبل المارونية السياسية أو اللجوء الى خطاب فاشي ضد الغرباء وصولا الى «التحالف مع الشيطان» الإسرائيلي أو التمترس خلف خطاب الخوف من الآخر المختلف لا يصنع قضية، فان هذا الجواب لا يكفي، لأن الخطأ لم يكن حكرا على القوى السياسية المسيحية وحدها.

فالسؤال لا يتعلق بالمسيحيين فقط بل بكل السياسة اللبنانية، اذ لا يوجد طائفة تستطيع تحويل موقفها الطائفي الى قضية انسانية حتى لو فعلت المستحيل. هكذا لم تستطع الطبقة السياسية بمختلف أجنحتها أن تبلور قضية لبنانية، ولن تستطيع.

القضية في مكان آخر، لا أريد ان أحلل اليوم كيف بنى الفلسطينيون قضيتهم من ركام النكبة عبر ممارسة ثقافية كبرى، وكيف صاروا اليوم مهددين بفقدانها عبر وهم السلطة والاستسلام، فهذه مسألة تحتاج إلى بحث خاص بها. أما في لبنان فان الامكانية الوحيدة كي يكون للبنانيين قضية هي بناء مشروع ديمقراطي علماني ينسف متاريس الطوائف ويواجه طبقة الطائفيين الفاسدة برمتها، ويناضل من أجل اسقاط نظام الحرب الأهلية الذي جعل من لبنان مزرعة يستبيحها أمراء الطوائف.

بهذا المعنى فقد نجح زياد الدويري بحدسه الفني في أن يطرح أحد اسئلة الحرب اللبنانية الكبرى، لكن الخطأ الذي ارتكبه منذ ستة أعوام، يجب أن لا يتحوّل إلى نمط ثقافي سائد.

القدس العربي

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى