صفحات سوريةعمر كوش

الائتلاف الوطني توحيد الجهود والسير نحو المأسسة


 عمر كوش

في إحدى السهرات الشامية، منذ بضعة أشهر مضت، جمعتنا صديقة عزيزة في بيتها على العشاء. ليس العشاء ما كان يهمّ لفيف المثقفين والنشطاء السوريين، ولا يهم صاحبة الدعوة المعروفة بنشاطها وتألقها وعراقتها، بل فرصة اللقاء الجامع، التي لا نحوز عليها، إلا بعد تحضير مسبق، وفي أوقات متباعدة نسبياً، للتحاور في أوضاع البلد والناس، والتفكير في سبل دعم الثورة السورية وناسها، وتناول مسار الأحداث، ومناقشة ما يطرح من بيانات ومبادرات ومشاريع.

ضمّ اللقاء العديد من الكتاب المستقلين والناشطين، من الجنسين. منهم من كان في المجلس الوطني السوري أو قريب منه، وبعضهم له مآخذ على أدائه وتركيبته. وآخرون ينشطون في بعض الهيئات المدنية العاملة على الأرض، التي نشأت في سياق الحراك الاحتجاجي، بعد أن كسر السوريون حاجز الخوف، بفضل ثورة الخامس عشر من آذار/مارس 2011.

كانت أصوات القذاف والقصف المدفعي تسمع، من حين لآخر، لتقطع حدة النقاش، وتشتت الأفكار، وتعيدنا إلى صمت ثقيل مشوب بالترقب والقلق. وكانت التساؤلات تحاول معرفة أي المناطق تقصف في هذه الليلة، هل هي التل أم برزة ام الميدان أم القابون أم حرستا أم زملكا أم مناطق أخرى عديدة لا نسمع أصوات الطائرات الحربية التي تدك مضاجع ساكنيها، ليلاً ونهاراً؟ ثم ماذا عن حلب وريفها ودير الزور ومناطقها وقراها، وحمص المنكوبة، ودرعا وإدلب وسائر أحياء المدن والمناطق والبلدات الثائرة.

في تلك الليلة، طرح أحدنا مسألة ما يطرح حول دعوة المعارضة السورية لتشكيل حكومة موقتة. بعضنا سخر من الدعوة إلى مثل هذه الحكومة، إذ من المبكر الحديث عنها، لأن الأجدى هو دعم الثورة، والبحث عن تشكيل ائتلاف أو تحالف أو هيئة جامعة لمختلف أطياف المعارضة السياسية، والاتفاق على مبادئ أساسية من أجل الاستجابة لحاجات الثوار، ودعم صمود الناس في المناطق الحاضنة للثورة، وطمأنة جميع السوريين على مستقبلهم.

وطرحت مسألة لجنة أو هيئة تمثيلية، تضم أشخاصاً من جميع أطياف وتكوينات الشعب السوري، تراعي مختلف تكوينات الطيف السوري، ومختلف المناطق السورية، ممثلة بمجالسها المحلية. ولعل الأفكار والطروحات، كانت تتلاقى حول أهمية وجود شخصية وطنية، تحمل على عاتقها مهمة المبادرة، والسعي إلى تشكيل وطني سوري.

لم تك مصادفة أن تلتقي الطروحات حول طرح أفكار متقاربة، إذ، وبعد أشهر قليلة، خرجت “المبادرة الوطنية السورية”، أو مبادرة رياض سيف، وأخذت خطوطها الواضحة بالتشكل، ثم باتت أكثر وضوحاً بعد لقاءات في القاهرة وباريس، لتأخذ شكلها النهائي، في شكل بيان يدعو إلى اجتماع عام لمختلف أطياف المعارضة السورية، بمختلف تكويناتها لتدارس سبل إنجاح المبادرة، والسير خطوة كبيرة نحو اتجاه مأسسة وتوحيد الجهود في خدمة الثورة السورية وناسها، بل وخدمة جميع السوريين الساعين إلى بناء سوريا الجديدة، الديمقراطية التعددية، القائمة على المواطنية، وسائر قيم الدولة المدنية الحديثة..

ويمكن القول بكل حرية وأمانة أن المبادرة نشأت بناء على حاجة داخلية سورية، ولم تك وليدة ساسة الولايات المتحدة أو فرنسا أو تركيا أو قطر وسواها، أي صنعها سوريون، كان رياض سيف المبادر الذي حملها، وأخذ على عاتقه مهمة جمع التأييد الدولي والإقليمي لها، والهم المشترك للداعمين للمبادرة، هو جمع مختلف أطياف المعارضة لمأسستها ولجعلها صناعة سورية بامتياز. وقد تحقق ذلك بولادة “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة” في الحادي عشر من شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2011.

والسؤال الذي يطرح نفسه هو، هل سيختلف المولود الجديد عن التشكيلات السابقة؟

هناك اختلاف واضح، بل وافتراق على الأقل ما بين ظروف ومعطيات التي أفضت إلى نشأة الائتلاف الوطني عن سائر التشكيلات السياسية السابقة، لكن المشترك بينها، هو قيامها على مبدأ التوافق ما بين قوى سياسية عديدة. وهو عامل يمكنه أن يشكل عامل إخفاق، وفي الوقت نفسه عامل قوة، حيث أن الأمر يعتمد على الخطوات التالية لتشكيل الائتلاف، وخاصة، العمل على مأسسة الجهود، والابتعاد عن الفردية والتمركز على الذات.

ومن يتفحص خارطة القوى والشخصيات المشاركة فيه، يجد أنها شاملة لمختلف القوى الفاعلة في الثورة السورية. وهو أمر لم يتحقق من قبل في أي تشكيل سياسي للثورة السورية، والأهم هو أن قادة الائتلاف هم من نتاج الثورة في الداخل السوري، وساهموا في حراكها على الأرض، وتعرضوا للسجن والملاحقة، واضطروا إلى مغادرة بلدهم، نتيجة عنف النظام وقمعه. كما أن طاقم رئاسة الائتلاف خرج عن طريق الانتخاب، وهم من أبناء الأحياء العريقة في العاصمة السورية وسكانها.

ونهض التشكيل الجديد على مبدأ عدم إلغاء أو تهميش أياً من قوى الحراك الثوري والمعارضة السياسية، بوصفه إطاراً يوفّق بينها جميعاً في بنية تنظيمية، تضمن العمل المشترك البنّاء، خاصة وأن الثورة السورية بأمس الحاجة لوجود قيادة قوية، قائمة على المشاركة والندية لا على التفرد والاستئثار، وتعمل على الاستجابة لحاجات الثورة، وتطمئن جميع أبناء سوريا إلى مستقبلهم، الامر الذي يكسب هذه البنية التنظيمية التأييد الشعبي، بما يعني امتلاكها الشرعية، للحصول على الاعتراف بها كممثلٍ له.

وبالرغم من التأييد الدولي لتشكيل الائتلاف، وقيام العديد من مسؤولي بعض الدول بمساع وجهود للتقريب بين وجهات النظر، والحثّ على الانخراط في التشكيل الجديد، إلا أن الأهم هو أن يرتكز العمل على وثائقه، التي أكدت على مبدأ الحفاظ على السيادة الوطنية، واستقلالية القرار الوطني السوري، والحفاظ على وحدة التراب الوطني السوري، ووحدة الشعب السوري، وعلى رفض الحوار مع النظام السوري، وأن لا يبدأ الحل السياسي في سوريا، إلا بتنحية بشار الأسد، ومعه رموز السلطة القامعة، وضمان محاسبة المسؤولين منهم عن دماء السوريين، مع التأكيد على قيام سوريا المدنية التعددية الديمقراطية. إضافة إلى السعي لإنشاء صندوق دعم الشعب السوري، ودعم الجيش الحر، وإدارة المناطق المحررة، والتخطيط للمرحلة الانتقالية، وتأمين الاعتراف الدولي، والعمل على تشكيل مجلس عسكري أعلى، يضم ممثلي المجالس العسكرية والكتائب المسلحة، ولجنة قضائية، وفي نهاية المطاف تشكيل حكومة مؤقتة من التكنوقراط.

وإن كان الائتلاف الوطني الجديد يسعى إلى تشكيل تحالف حقيقي، من حيث ضمه غالبية قوى ومكونات الثورة، إلا أنه جاء كي يعبر عن تحول مفصلي في مسار الأزمة السورية، الأمر يفتح الباب واسعاً أمام متغيرات وتطورات جوهرية في المشهد السوري على مختلف المستويات، السياسية والدبلوماسية والقانونية، ويحدث تغيراً في ميزان القوى الميداني على الأرض.

وما يجعل الائتلاف الوطني حدثاً سورياً، هو مدى قدرته على قيادة الحراك الثوري، وفق منهج واضح وخطط ممأسسة، وأن يتخذ خطوات تسهم في التعجيل بسقوط النظام، وأن يبرهن على قدرته في قيادة قوى الثورة والمعارضة، المشكلة له، إلى جانب كونه مظلة سياسية واسعة، حاضنة لقوى الثورة والمعارضة السورية، ومنوط بها مهام عديدة، لعل أهمها توحيد المجموعات والتشكيلات العسكرية في الداخل، وتقوية المجالس المحلية في مختلف المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وتمكين الناس في الداخل السوري، من خلال تأمين ممكنات مقاومتهم واستمرار حراكهم الثوري.

ويبدو أن التأييد الذي حصل عليه الائتلاف في الداخل السوري، وفي الخارج، يعد نجاحاً سياسياً لقوى الثورة والمعارضة، تزامن من النجاحات العسكرية على الأرض، لكن، دعم هذه النجاحات مقرون بالبرهنة على امتلاك القوة والشرعية، والقيام بخطوات ملموسة تؤكد ذلك، خاصة أن التقدم الذي يحرزه الجيش الحر على الأرض، ومعه سائر التشكيلات العسكرية، يدفع التفكير باقتراب نهاية النظام، وإلى الخشية من الفراغ الذي قد يحدثه سقوط مفاجئ. وما يدعم توقع السقوط المنتظر هو فقدان النظام السيطرة على مساحات كبيرة من سوريا، بالرغم من فارق القوة العسكرية واللوجستية ما بين قوات النظام وسائر المجموعات العسكرية المدافعة عن الثورة، الأمر الذي يفسره، ليس فقط حالة الانهاك التي بات يعاني منها الجيش السوري، بعد اقحامه في معارك الشوارع والأحياء والبلدات السورية، وحدوث انشقاقات متتالية ومتسارعة في تركيبته، بل هناك أمور عديدة، تتعلق بأن المجندين داخل الجيش النظامي مكرهين في معظمهم على القيام بما يطلب منهم، تحت تهديد الإعدام الميداني والتصفية والاعتقال، وقسم منهم مغرر به، ويستخدم ضحية أو وقوداً لخدمة بقاء رموز النظام في السلطة. بالمقابل، فإن غالبية الثوار يدافعون عن أحيائهم وبلداتهم وأماكن عيشهم وسكناهم في وجه اجتياحات وحداث الجيش وقوى الأمن وقطعان الشبيحة، وبالتالي، فإنهم مسلحون ليس بالعزيمة والإصرار والاستعداد للتضحية فقط، بل يحظون بالاحتضان من طرف الناس، الذين يجمعهم الإيمان بضرورة الخلاص مهما كانت التضحيات والخسائر.

وهناك معطيات عديدة، تشير بوضوح إلى تدهور الوضع الاقتصادي، وشحّ الموارد المالية، التي يسخرها النظام من أجل تمويل شبيحته وقواه الأمنية والعسكرية، إلى جابن هبوط قيمة الليرة السورية السريع، في الآونة الأخيرة، أمام العملات الأجنبية، بما يؤشر على اقتراب النظام من حالة الإفلاس والانهيار المالي والاقتصادي، التي يحدّ منها بشكل أو بآخر، تدفق الدعم المالي والاقتصادي الإيراني، والاسناد الروسي، ودعم بعض أفراد مافيات النظام وأعوانه، الذين عاشوا طويلاً على نهب مقدرات البلد واستثمار حالة الفساد والافساد، إلى جانب دعم بعض الأطراف من دول الجوار وسواها.

لا شك في أن هناك تحديات عديدة، تفرض مهام صعبة التحقيق ومحفوفة بالمخاطر، لكن الرهان هو على قدرة الائتلاف على العمل الجماعي المؤسسي، وتوحيد الجهود والسير نحو المأسسة.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى