صفحات مميزة

الاحتجاجات والنظام السوري.. تحديات المرحلة المقبلة


فاروق حجي

أربعة أشهر ونيف خلت والنظام السوري يقول إن الأوضاع التي تمر بها البلاد ما هي إلا حالة طارئة، وأنه سيخرج من هذه الأزمة أقوى، مستنداً في ذلك إلى تجاربه السابقة، مع الإخوان المسلمين في الثمانينيات وأحداث 2004 مع الأكراد.. إلخ، مهوناً بذلك من قوة الحركة الاحتجاجية، بسبب تصوره أنه يمتلك قدرات (أمنية، عسكرية، نقابات، ومنظمات شعبية- الرديفتين لحزب البعث- نفوذ في أوساط التجار بحلب ودمشق.. إلخ) ظن النظام أن قوة المعارضة، التي تعتمد على قوة وحماسة الشارع وإرادته في التغيير، يمكن تفريطها بسلسلة من الوعود الإصلاحية ومن خلال تكثيف ضغطه على حركة الشارع، ومحاولته المستميتة لإفشالها، الأمر الذي أبدت معه حركة الاحتجاجات الكثير من القدرة على المقاومة بما فاق توقعات النظام، وهذا ما جعل النظام أمام خيارات ثلاثة: إما التراجع، أو الإقرار بالهزيمة، أو الاندفاع باتجاه الاستمرار في الحلول الأمنية والعسكرية، وكلها بدائل أسوأ من بعضها وتنعكس سلباً على النظام.

والحق، إن وضع حركة الاحتجاجات قابل للتطور إيجابياً، فإذا كانت الاحتجاجات تنتعش وتقوى يوم الجمعة آخذة هذا الزخم الذي باتت عليه، فإن بقية أيام الأسبوع لا تخلو من وسائل ثقافية ذات منشأ غير شعبي وغير عنفي كمسيرات الشموع المسائية، هذا عدا عن النشاط المكثف الذي بتنا نراه عبر الوسائل الإعلامية والإلكترونية وعبر صفحات التواصل الاجتماعي (فيس بوك).

وتقول المعطيات إن السوريين مقبلون على مرحلة أكثر حماسة وذات مدلول في الوعي المجتمعي السوري، وهو ما سيغير من تكتيكات وخطابات الحركة الاحتجاجية، الأمر الذي سيحرج النظام أكثر من أي يوم مضى من خلال إيقاعه في الدوامة الأمنية والسياسية، خصوصاً أن الخيار الأمني الذي كان متاحاً له طيلة الأشهر الماضية سيغدو ذا تأثير رجعي بالغ عليه.

ويتفق غالبية السوريين بأن هذه الأشهر الأربعة التي دفع السوريون أثماناً باهظة خلالها، حققت أرضية صلبة لتحقيق الوحدة الوطنية، والحق أن ثمة نتائج عدة حققتها حركة الاحتجاجات على الأرض، نقرؤها من خلال:

إن تعنت النظام وتكابره على ما يجري أصبح دافعاً لدى فاعلي حركة الاحتجاجات للمزيد من النشاط والتوسع بشكل أكثر مما كان متصوراً، وما إن استهتر النظام بأهمية المطالب الشعبية التي تبلورت تحت عنواني «الحرية والكرامة»، واعتباره أن كل ما يحدث يمكن السيطرة عليه بسهولة عبر الوسائل الأمنية، حتى توسعت دائرة الاحتجاجات وانخرطت كل المكونات فيها وتبلورت المطالب أكثر وضوحاً. رغم ذلك ما زال النظام مصراً على نهجه الأمني القمعي الذي أوقعه في نفق يصعب عليه الخروج منه، حتى إيحاء النظام بأن ثمة سوريا جديدة بدأ يشتغل عليها من خلال المراسيم والتعاميم وتأسيس اللجان الخاصة بإصدار قانوني الانتخابات والإعلام.. إلخ لم يعد ذا قيمة كبيرة لدى أحد من الأطراف المعارضة. نعتقد أن النظام السوري صار يعترف بأن الأزمة الوطنية تفاقمت، وهي تتفاقم بشكل أكثر حدةً، لكن ما لا يفعله النظام هو تغيير قناعاته بأنه ما زال ممسكاً بزمام الأمور، والسؤال الذي يطرح نفسه هو، إذا كانت المعارضة (والتي عهدت على نفسها بالوقوف إلى جانب الشارع ودعمها له) عاجزة اليوم عن بلورة أفكارها السياسية وسط حركة الاحتجاجات، وضبط بعض شعاراتها وهتافاتها، فكيف للنظام الاقتناع بأنه يستطيع التأثير على الشارع وميوله، وتالياً تحريفه عن مآله وحلمه في التغيير؟

نسي النظام أن المعارضة السورية الداخلية منها والخارجية، عاجزة عن السيطرة على الشارع، فالشارع السوري اليوم أضحى باعث الحلول، وليست المعارضة التي ما انفكت الخلافات والانشقاقات تطغى عليها. في ضوء ذلك، كيف بالنظام أن يتباهى بقدرته على السيطرة ووقف حركة الناس والشارع اللذين يريان مصلحتهما في تفعيل حركة الاحتجاجات وليس كبحها. من هنا، يمكن الحديث عن تطابق في الرؤية بين المعارضة والشارع، إذ منذ مؤتمر «سمير أميس 1» لا تستطيع المعارضة، وحتى أي طرف من أطرافها، الخروج عن رأي الشارع وشعاراته. حتى إن المعارضة مقتنعة أن حماية حركة الاحتجاجات وتطويرها، أصبحت من مسؤوليتها الوطنية والسياسية وحتى الأخلاقية.

ولا نستغرب أن الحركة الاحتجاجية غيرت مفهوم «الاستقرار»، فأصبح الناس يرون أن «الاستقرار» يكمن في حماية الحركة وليس في صدها، وهناك شرائح واسعة من المجتمع السوري لديها القناعة بأن الاحتجاجات جلبت لهم شيئاً من الطمأنينة والحرية والجرأة، وإلا فماذا يعني عندما يقال «بأني أحمي نفسي من خلال مشاركتي في حركة الاحتجاجات» أليس هذا شعوراً بالأمان والطمأنينة؟ ويبدو أن النظام حينما كان يتحدث عن «الاستقرار»، فإنه كان يعني بذلك «استقراراً» مختلفاً. حسب فاعلي الاحتجاجات فإن «الاستقرار» الذي فرضه النظام والذي أصبح جزءاً من ثقافة العموم هو ذلك «الاستقرار» المرتبط بالخوف أو الصمت، بمعنى «إذا كنت تريد الاستقرار فعليك أن تصمت»، ولعل نزول الناس إلى الشارع أثبت أن بقاء «الاستقرار» والحفاظ عليه إنما كان لبقاء النظام وليس لأمن الناس، فمع نزول الناس إلى الشارع لم يتحرر الناس من «ثقافة الخوف» فقط، إنما كسر طوق «الاستقرار» الذي كان يكبلنا ويكبل المجتمع السوري لعقود خلت. الآن الحركة تجلب الطمأنينة في النفوس وتحقق الحرية والكرامة، ولعله لم يخطئ من قال: إن سوريا مملكة الموت، لأنه يستحيل أن يتواجد «الاستقرار» في الحياة، فقط يمكن الحديث عنه في المقابر. هذا الكلام ردد خلال فترة «ربيع دمشق».

والحال أن حركة الاحتجاجات لم تقف عند حدود تغيير بنية النظام، وإنما امتدت وظيفتها للحديث عن توحيد المجتمع السوري المتنوع في إطار دولة المواطنة الحقة، وأحدنا يلمس روح الوحدوية التي تتحلى بها القطاعات الواسعة من المجتمع السوري المنتفض، وهو الأمر الذي أعطى للوحدة الوطنية معنى آخر، فكل النشطاء ومن كل المكونات الوطنية والشرائح المجتمعية يلتفون حول هدف واحد هو الحفاظ والارتقاء بمكانة الوطن وتطويره بمحض إرادتهم وبقناعة أن مصلحة تفعيل المواطنية إنما هي مصلحة خاصة قبل أن تكون عامة. يمكن القول إن المعطيات التي أوردناها قد أسهمت في تغيير الذهنية والمواقع، فالمثقف لم يعد منذ حين من تلك الطبقة المستعلية على الشعب، وصار يرى نفسه جزءاً من مطالب الناس، والكثير من المثقفين فكوا روابطهم مع النظام لصالح عامة المجتمع، ونعتقد أن هذا الشعور دفع بالمثقفين والفنانين للنزول إلى الشارع ليقولوا: ها نحن معكم في السراء والضراء. إلى جانب ذلك لم يعد الكردي يصارع كردياً آخر على من يرفع علم كردستان أولاً (في سوريا)، والآن أصبح في الشارع الكردي يتزايدون على بعضهم على رفع العلم الوطني، وحتى إنهم يحرصون على عدم افتعال قضيتهم القومية وأهميتها في المستقبل السياسي في سوريا، ولعل مرد ذلك كي لا يطرأ أي شقاق على الشارع المعارض.

من هنا أستطيع القول، لولا هذه الروحية الوطنية التي يتحلى بها غالبية النشطاء الأكراد لما قبلوا أن يناقشوا مدة «ست ساعات» مع المعارض حسن عبد العظيم على وثيقة التفاهم، التي أراد الكرد من خلالها أن تتوحد المعارضة كلها في إطار واحد، إلا إن صديقنا عبد العظيم نفد صبره وأعلن إطاراً جديداً للمعارضة تحت مسمى «هيئة التنسيق الوطني للتغيير». لم يستطع انتظار جماعة «إعلان دمشق» لتكون ضمن هذا الإطار، الأمر الذي دفع بالكرد إلى الإعلان بأنهم ليسوا جزءاً من هذا الإطار، ولعل سبب ذلك هو لأجل مصلحة المعارضة، فالمعارضة بحاجة إلى إطار واحد متفق عليه من الجميع على قاعدة الحد الأدنى. والسؤال، أليس هذا كله من إفرازات حركة الاحتجاجات السورية التي ما زالت وستبقى الحامل الوطني وتحافظ على صبغتها الوطنية بعيداً عن العصبيات؟

ينشربالتعاون مع مشروع «منبر الحرية»

www.minbaralhurriyya.org

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى