صفحات الثقافة

الاختزال في الثورتين السوريّة والمصريّة/ سحر مندور

ما اتضح حتى الساعة هو قيام التشكيلات العسكرية الإسلامية باختزال المشهد المعارض والنقديّ في سوريا، ساحقةً بين قدميها مئات الآلاف من المشرّدين في العالم، تختصرهم صورتان: الضحية المطلقة الخالية من موقف، والمغلوب على أمرها في عجزٍ عن الوقوف بمستوى الموقف. في هذا السياق، يصبح نظام “البعث” المقاتل الوحيد المؤهل لمصارعة “وحش الشرّ”، ووحش الشرّ يأتي بالإجرام مجرّداً من خطابٍ قابلٍ للتداول حتى.

في المقابل، يشغر الجيش المصريّ اليوم، ممثلاً بالجنرال المحبوب ذي مقولة “ده انتو نور عنينا” عبد الفتاح السيسي، موقع البياض في صورة مصر. البياض الذي لا بد أن يكون مغسولاً ناصعاً لمقارعة “العدوّ” الذي لا بد أن يجسّد الشرّ الدامس، “الإخوان المسلمين”. وكون جماعة “الإخوان” خلّفت وراءها الكثير من الكراهية والفضائح والهبوط، ناهيك عن فساد المال واستشراء العنف وتخلّف الفكر، استحال معارضو الاختيار بين الجيش و”الإخوان” جماعةً تختصرها صورتان: المتهم ضمناً بوطنيته وعلناً بميله إلى “الإخوان”، والطائش المتفلّت من المسؤولية مالئ الهواء بزعقات تعكّر النشوة.

في سوريا، الحال الدموية تشلّ الذهن. في مصر، الحياة الاجتماعية والسياسية ناشطة، تواجه مرحلة احتفالية تصادرها الجماهير، توقّعها كثيرون، وتسبّبت بإحباط كثيرين. والاختلاف جذريٌّ بين دمار سوريا وواقع مصر، لكن التقارب حادّ بين المطرودين من جنّة الإجماع أو الكثرة، في التجربتين. وهؤلاء المطرودون هم الأشدّ قلقاً وتعجيزاً، بينما القوة العسكرية والقوة الدينية تشدّان بالناس إلى يوميات القمع المشتهى.

الصورة “الرسمية”

يشهد اليوم المصريّ حالة إجماعٍ لا جدوى من الاصطدام بها، ولا مفر من الخضوع لها، مراقبتها، تعلّم دروسها، والحفاظ على موقعٍ يراكم ليشكّل جسر عبورٍ مستقبلي من المجتمع الذي لا يصدّق وجود الأمان خارج العسكر، إلى مجتمعٍ يصدّق أنه هو مصدر السلطات ومصدر أمانه. وحتى نضوج المعطيات الموضوعية لهذا العبور، يكمن التحدّي في إيجاد ميزانٍ للتعامل مع الموجة الاستئثارية الاحتفالية السائدة، حتى يتعب عصبها الانفعالي.

في سوريا، الكتل المغايرة أنتجت كيانات سياسية لم تقوَ على التماسك ولا على الخروج بخطابٍ متجانس، في ظل الإسراف في استخدام العنف. هؤلاء الذين تجرأوا بعد أربعة عقود من حكم الحزب الواحد على المطالبة بهواء مختلف في بلدٍ يحاصره جدارٌ حديدي، شُرذموا اليوم بين البلاد. وأفل الخطاب الذي لا يملك عتاداً عسكرياً ملائماً لحجم المعركة، خاصةً عندما انتقلت “المعركة” إلى طاولات التفاوض السريّة وشبه السريّة.

الثائرون من أجل حياةٍ أفضل وجدوا كتلةً ضخمة تحلّ بديلاً عنهم، بخطابٍ يعادي وجودهم حتى. في سوريا، الجماعات المسلحة الإسلامية صادرت موقع المعارض لنظام “البعث”، حتى بات بشّار الأسد “حامياً” لحقوق كثيرين اليوم، يكاد يوسم بقول معمّر القذافي “أنا الثورة”. في مصر، وبعدما حُكم على “الإخوان المسلمين” بسرقة الثورة، أصبح الجيش حامي الثورة، مُخَلّصها ومُخْلصها الوحيد، حتى باتت الصورة وكأن الثورة في 25 يناير هدفت إلى التخلّص من “الجماعة”، وليس من مقوّمات نظام حسني مبارك. الأفكار في الناحيتين صودرت من قبل الكتل الإسلامية المهشَّمة الخطاب، فهشّمت معها مساحة التفكير.

ومشكلة هذا الخطاب المغاير للثنائيات لا تكمن في صدقيته، وإنما في منهج عمله. فهو مطالبٌ بامتلاك القدرة على الخروج الفوري ببدائل عمّا يمكن للجيش/النظام أن يعدَ به. وهذا طبعاً مستحيل، لكونه أساساً فعل عزلٍ لمجموعة من المعترضين وتوكيلها فوراً مسؤولية إدارة دولة في مقابل جيشٍ/نظامٍ يمتلك الوسائل كافة منذ عقود، والناس بقوّته معجبون. هو الاستمرار، والمغايرون يطالبون بسلطة الرأي على خياراته، يطالبون برأي لا يُمنع ولا يُدان، بالحق بالنقاش وتحديداً في اللحظات المحورية. فتخيّرهم الأكثرية بين الصمت وبين تقديم البديل لامتلاك هذا الحق بالكلام. وهذا منطقٌ عسكري تشرّبه الناس على مرّ العقود، وهو منطقٌ واقعي أيضاً، يتعامل مع النتيجة مهما كانت أسبابها. وأصحاب الخطاب الحقوقي أقليّة. حيثما حلّوا، هم اليوم أقلية، إن في العدد مصرياً، أو في القدرة سورياً. أقليّة، ولا يُسمَعون.

لكن، في واقع الحال، وفي زوايا العقل العربي، يعرف الجميع أن هاتين الثورتين امتلكتا خطاباً محقّاً، أتاحت له الجهوزية المجتمعية المصرية رواجاً واحتراماً ومراكمة، بينما جعله الانهيار السريع في سوريا لحناً حزيناً حادّاً كالسكين، يأتيه طعمٌ حميدٌ من نقائه، ويأتيه طعمٌ مرّ من العجز، الفشل.

اليوم، بدأت المياه تأخذ مجراها في مصر، والدماء تأخذ مجراها في سوريا. وقد باشر المصريون المعارضون لثنائية قطبية بين عقيدةٍ وعقيدة، الاستفاقة من إحباطهم، والتشكّل على وقع وضوح الصورة بعد أشهر قليلة من تضارب النقاشات حول طبيعة المرحلة الآتية. أما سوريا فيبدو أن شبابها الذين لجأوا هنا وهناك محمّلين بالطاقة المكبوتة، قد بدأوا يتآلفون مع صفة المؤقت التي تلازم حيواتهم الآن. لا هم يلتفتون إلى غدهم، ولا هم يغادرون أمسهم، وهي صفة المرحلة.

المؤقت والمستحيل

تراهم بدأوا باستعادة التوازن، على أقل تقدير. وبينما يتوازنون، هم هنا. تسمعهم يروون ما تعرفه قلّة، تسمعه يتكرر من لسانٍ إلى لسان. يروون عن الطفولة، الحزب، الاستدعاءات، التقارير، التواقيع، الملفات، منذ نعومة الأظافر، الخوف والرعب والمراكمة والتواجد دائماً حذر، اللطمات والإهانات كأسلوب حياة وتربية ونمو، أن تكون يعني أن تكون دائماً حذراً. هؤلاء الشباب يروون ما كتمته العقود عن حماه، عن حمص، عن حلب، وطبعاً عن الجامعة والوظيفة والطعام والأغاني، يروون عن الوطن ونهاياته وبداياته. هؤلاء، لن يختفوا من سوريا، ولا مجايلوهم قابلون للذوبان في مصر. هؤلاء الذين يشبهون كلٌ منا في رغبته بالعيش محترماً حرّاً منهمكاً في هواياته وأعماله، مدخوله يكفي القليل من أحلامه، صحّته لا تساوَم. يضحك لأسباب غير عدائية، ويبكي أيضاً، يعيش إمكانيات غير الخطر والصعب. هي صفات لا نعرف لها تاريخاً هنا في بلادنا، وهي صفات ننفيها إلى عوالم أولى، أو ندينها ككذبة، كديكور. لكنها حقيقة، حاصلة، يعيشها آخرون في ذات الزمان والمكان، يتناقشون من أقصى الرأي إلى أقصى الرأي ويتبارون بالأفكار، يُسيّرون ويُخيّرون وليسوا مثاليين ولا حياتهم هي المثال، لكنهم يعيشون مستوى آخر من نوعية الحياة، وتلك حقيقة نعرفها في أجسادنا وأعصابنا. ونحن هنا، ونحن نريد طعمها، فكيف يختفي الخطاب؟

الأمل ليس وليد الخيال، فالشعب السوري قد سجّل لطمة على وجه النظام الذي أرخى بثقله على الناس لأربعين سنة. لن ينسى السوريون هذه اللطمة، ولن تسقط تحت الجثث في برّاد الموتى، وإنما ستراكم.. كأولى تظاهرات مصر ضد التوريث وضد الأب، منذ عشر سنوات تقريباً. هل مَن يذكر ضعفها وطموحها الغريب؟ لسوريا سياقٌ آخر طبعاً، لكن صورة الخروج من جلباب “القائد الخالد” ستترك أثراً على الجدار، في كل عينٍ وبيت وذاكرة.

والأمل ليس وليد الخيال في مصر التي علّمتنا دروساً في المراكمة، وبناء التشكيلات المجتمعية على أساس المطلب والقطاع، حتى يفضي تكدّسها وتشبيكها إلى إحداث تغيير. وصلابة ترابط الجيش مع السلطة السياسية في مصر يملي على التغيير صبراً يحتاجه لتنضج ظروفه. والصابرون واضحون في أصل الصورة اليوم، لن تتأخر الأحداث في طرح ضرورة الالتفات إليهم.. فقرين السلطة العسكرية هو منع الاعتراض، وقرين الاعتراض في مصر هو الصبر.

لا بد أنها سنوات صعبة، ولا مفر من عيشها. لكنها أحداثٌ حاصلة، ولا مفر من المساهمة في تشكيل تتماتها. فلنكن واقعيين، مثلما قال غيفارا، ولنمض في طلب ما يبدو لنا اليوم مستحيلاً. وهي سكّة صعبة، لا تقل صعوبةً عن البديل المًعيش. وهي سكّة طويلة، لكن لا بديل عنها.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى