صفحات المستقبلضحى حسن

الارتطام بالمنفى/ ضحى حسن

 

 

المترو مزدحم على غير العادة. مازالت الوجوه بعد مرور 4 أشهر غريبة. أخرجت هاتفي، رفعت صوت الموسيقى عالياً، أخذت نفساً عميقاً، وغصت في الفيس بوك، أتابع ما هو مألوف.. العادة الجديدة التي أمارسها أثناء تجولي في المدينة. فجأة، انقطعت الموسيقى، غرقت شاشة هاتفي في السواد، فرغ شحنه. بدأت تعلو الأصوات من حولي، أحاديث، ثرثرة، كلمات مبهمة لم أفهم منها شيئاً. يدخل أحدهم إلى المترو، يتحدث بصوت عالٍ، يبدو أنه ثمل للغاية، من الواضح أنه يكرر الجملة ذاتها، على الأقل هذا ما ظننته. يساعده شاب على الجلوس، يتحدث معه، ليصبح الحديث جماعياً بين مجموعة من الركاب والرجل الثمل، ما زلت غير قادرة على فهم شيء مما يقولون إلا بضع كلمات تعلمتها. التفت نحوي أحدهم، قال شيئاً ما، نظرت إليه، أشار إلى يدي، يبدو أنه يسألني عن الوقت، إنها الساعة الثالثة، كاد لساني أن ينطقها بالألمانية، لكنه لم يستطع، أنا لا أتحدث الألمانية، أشير له بيدي، أرفع ثلاثة أصابع، يتدارك الموقف، يقول بالانكليزية «لقد سقطت مفاتيحك على الأرض»..

لم يكن لساني على حال يستطيع فيه تقديم شيءٍ ذي معنى، فالمعرفة الاجتماعية في تواصلها الكلامي كانت فارغة تماماً. لا أملك القدرة بعد على التواصل اللفظي، على الرغم من إدراكي للإشارات والحركات، كما لو أنني في الأشهر الأولى من العمر، إنه لغاية في الغرابة أن أعاني مشاكلاً في النطق في الثلاثين من العمر. في عسر الكلام مع صعوبات ثقيلة في فهم المنطوق، شيءٌ من إمارات المنفى وتداعياته أيضاً.

ليس مجازاً أن للإنسان أكثر من ولادة، بالمعنى الخاص والعام. شاءت لي الأقدار أن أولد مرة أخرى نهاية سنة 2012، بعد أن خرجت من وحدتي الطبيعية، الاغتراب الأول، الإحساس الأول بالفردانية. كانت ولادة عسيرة، ضعيفة، شديدة القلق والخوف. لم يكن الانفصال الأول عن المجموعة التي تشاركت معها الطفولة، المراهقة، الشباب أمراً هيناً، إذ كنا نرتدي لباساً موحداً، نتحدث ضمن أطر محددة، نتصرف، نتعلم، نعيش حسب عرف جمعي وثقافة مشتركة، نحلم ضمن الخيارات الضئيلة المتاحة، كان علينا أن نشبه بعضنا البعض، تعلمنا أن المجموعة تعني الانتماء، ومنها مصدر الأمان، الرضا والقوة. لذلك، كان نمو تلك الروح الفردانية بطيئاً، يمشي بخطى وئيدة، إلى أن تعرضت للاغتراب الثاني، الاغتراب الحقيقي، وهنا أصبحت فرداً  بدل أن أكون جزءً من مجموعة، لكني كنت أعرف أنني مازلت في أوّل النّمو في درب شخصي طويل.

المنفى

مساءً، وبينما كنت أغوص في منفاي الجديد، عبر إجبار نفسي على التأقلم، على الاندماج، على الانفصال، تصلني رسالة من صديق ليخبرني أن النظام السوري اعتقل صديقتي لانا مرداني في دمشق لعملها في إغاثة الأطفال. خرجت مسرعة إلى الشارع، الشارع الغريب، مشيت كثيراً، دون وجهة محددة، حملت هاتفي، فتحت الرسالة، قرأتها مراراً، نظرت حولي.. أنا في مكان بعيد، عاجزة كلياً عن الاقتراب. وضعت هاتفي في جيبي، وإذا بصوت أحدهم، (بالانكليزية) «ضحى، كيفك؟ شو مشي حال أوراق اللجوء؟»، التفت نحو الصوت، الصديق الجديد، أرد «اعتقلو لانا!!»، يسأل «مين لانا؟»، ابتسم، «انسى..، الأوراق عم يمشي حالها، لازم امشي، بنحكي».

لقد تم اقتلاعي من المحيط الاجتماعي، السياسي، الاقتصادي الذي نشأت فيه إلى مكان آخر، لا أتشارك مع سكانه أي تاريخ مجتمعي أو ثقافي. ليس هناك أي لسان يجمعنا. إنهم يدركون، يفكرون، يشعرون، يتصرفون، يقررون بشكل مغاير تماماً، ما أدخلني في غيبوبة معرفية نسبياً. ابتعدت قليلاً عمّا كان يحدث في منطقتي بطريقة كدّت فيها أن أفقد قدرتي على الكتابة. أصبحت أقل حماساً وانفعالاً، بل أكثر من ذلك: كاد هذا المنفى أن ينفي ذاكرتي ذاتها وينسفها. شعرت أن تعلقي الشديد بمحتويات ذاكرتي الشخصية أو ذاكرتنا الجمعية كان في بعض أعراضه سبباً جوهرياً لشعوري العاتي بالغربة، وعائقاً لا يقل أهمية عن باقي العوائق تجاه اندماجي في المكان الجديد، أو محاولة ذلك على الأقل.

للمنفى وجوه كثيرة كأشخاصه الذي حملهم معه وحملوه معهم. في المنفى تتحرّض النصوص على الكتابة عنه وعن الوطن، ما فقدناه وما غنمناه، ما اعتقدنا أننا فقدنا وما توهمنا أننا امتلكناه. في المنفى أسئلة قلقة وخائفة لا تنتهي، كتلك التي نشرت في ملف «الجمهورية» عن المنفى، ما أثار في رأسي أسئلة لا تنتهي، أجوبتها هي أسئلة أخرى، تصب في الـ«نحن»، قبل أي شيء، وقبل كل شيء، عن المنفى والوطن الداخلي في كل فرد منا بشكل مستقل.

يقول أريك فروم في كتابه المجتمع السوي «تعني ولادة الانسان بوصفه انساناً بداية خروجه من موطنه الطبيعي، قطع روابطه الطبيعية. إن هذا القطع مرعب، فإذا فقد الانسان جذوره فأين يكون ومن يكون؟».

لقد طغت الحالة العامة على التجربة الشخصية في نصوص كتّاب المنفى، تلك الحالة التي تمد الفرد بمشاعر الانتماء للمجموعة عبر الذاكرة والتجربة الجمعية، الانتماء الذي يبعث على الأمان المفقود في الوضع الجديد، المجهول، كما لو أن لا يقين في حاضرٍ إلا بما هو متعلق بالماضي وذكرياته عنه.

ألصقت وجهي بالمرآة، ابتعدتُ عنها قليلاً كزوار المتاحف وهم غارقون في تأمل سارح، كررت الحركة ذاتها مراراً، يبدو أن الأعوام الثلاثين التي بلغتها للتو بدأت تترك آثارها ماثلة أمامي في وضوح لم أعهده. كنت قد اتخذت قرارات حاسمة متعلقة بحياتي الشخصية، مهنتي، اعتقاداتي، مواقفي وتوقعاتي لما سأصبح عليه حينما أبلغ الثلاثين عاماً، وهذا ما حدث إلى حد ما.. لكني في الحقيقة لم أبلغ الأشهر الخمس الأولى بعد.

من أكون؟ السؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح في المنفى. حين يدرك المنفي أنه وحيد وأعزل، تنفصل ذاته عن الآخرين بحكم الواقع، يحمل هذا الحال تغييراً فجائياً يشبه ذلك التغيير الأول والأقدم، من الوجود الجنيني الخاص والمغلق إلى الوجود الإنساني العام والمفتوح. المنفى هو قطع حبل السرّة لكثير من الذوات الراشدة.

«من وقت ما وصلت عأوروبا قررت انو بلش حياة جديدة، لأعمل هالشي لازم صير متلون، أتعلم اللغة تبعون، فكر، اتصرف، عيش متلون، أنا انجبرت كون هون، مافي ارجع لبلدي، لهيك قررت انساه، سكر هديك الصفحة، خليني كون واقعي»، محمود، معتقل سابق في سجون النظام السوري.

بينما يحاول محمود التكيف مع ضرورات الموقف، يمارس عملية قمع حادة تجاه كل المشاعر المتعلقة بمرحلة ما قبل اللجوء. يرفض الخوض في نقاشات مرتبطة ببلده، يتحدث باستهزاء عن العواطف والحنين للعائلة، الأصدقاء.. لكن يبدو أن عملية الكبت جعلت من محمود شاباً إنطوائياً، عدوانياً، يعاني أرقاً يتذمر منه بشكل مستمر، وعلى ذلك يمكننا القول أن المادة المكبوتة ليست حالة ساكنة، بل ما تنفك تجمع محتوياتها، لتظهر آثارها جلية في الحياة الشخصية للمنفي على الصعيدين النفسي والجسدي، تلك التداعيات التي يتجاهل  أسبابها في محاولة لحماية ذاته، بعصابية مفرطة.

«تعرفت على مجموعة من السوريين بنضل مع بعض، مابدي ارجع اتأقلم بمكان جديد ولا اتعلم اللغة تبعون، لأني بعرف انو هاي فترة مؤقتة لحتى نرجع»، سارة لاجئة سورية، انتقلت إلى برلين العام الماضي.

لقد كفّت سارة عن فردانيتها لتبقى ضمن المجموعة، روابطها الأصلية، إذ يبدو أنها رأت أن قهر الشعور الذي لا يطاق بالعجز، القلق والخوف في ساحة أكثر تعقيداً واتساعاً مما اعتادت عليه يأتي عبر أن تكون جزءاً من كلٍ أكبر مألوف، تنغمر وتشارك فيه.

رنّ هاتفي، قاطعني بينما كنت أنا ونفسي نعد وجبة الغداء، «وين مختفية صرلك 3 أيام؟»، أجبت باستغراب «3 أيام؟»، «اي 3 أيام، شو عم تعملي صاير شي؟». أنظر حولي، أصمت قليلاً، أرد على السؤال بتردد «لا مافي شي»، يضحك صديقي «عم تتوحدي؟»، أصمت مجدداً «لا،عم اقرا واكتب، اطلع واتسكع، رواء كتير»، يسألني «مين شفتي بهل 3 أيام؟»، أجبته «ما حدا!!».

بعد انتهاء المكالمة، انتابتني نوبة ضحك هيسترية، لأنني في الحقيقة لم أنتبه لمرور الوقت، لم أشعر خلال تلك الأيام الـ 3 بالوحدة، إذ تشاركتُ أنا وأنا نشاطي اليومي. للحظة شعرت بالقوة، بسلام داخلي لم أعرفه يوماً، أحسست بالحرية، تلك الحرية الناتجة عن تصالح الفرد مع وحدته بمعزل عن المحيط الاجتماعي، حينها أدركت كلي.

لكن «كلي» المصاب، المصاب جداً، مازال في مراحل تطوره الأولى، ما يجعله عرضة لهجمات قلق وخوف بشكل متواتر، تفجر فيه نوبات حنين حادة، شوق لما هو مألوف، اعتيادي، رغبة في الاستسلام للعجز، لخوض الحياة في حدود النشاطات الآلية والاضطرارية، محاولة هرب يائسة من أن واقع انفصاله حقيقة لا يستطيع تغييرها.

الارتطام

الساعة العاشرة صباحاً، عليّ أن أحزم أمتعتي مرة أخرى كي أنتقل إلى المنزل الجديد. اليوم سأوقّع عقد إيجار لعام كامل. تصلني رسالة من صديق تحوي صورة ورقة استلمها عبر بريده، حدقت فيها مطولاً، كلمات، الكثير من الكلمات غير المفهومة، أرسلتها إلى صديقة تتقن اللغة الألمانية، اتصلت بي على الفور «مبروك صرتي رسمياً لاجئة في ألمانيا، ما حدا فيو يطالعك من هون». أصمت، أسترق النظر إلى شاشة الكمبيوتر، تلك التي تتهافت فيها أخبار الكوكب الآخر: العثور على 86 جثة متحللة معظمها لمهاجرين سوريين على متن شاحنة في النمسا؛ 50 قتيلاً في دوما على يد قوات النظام السوري؛ نظم آلاف العراقيين مظاهرة حاشدة في ساحة التحرير وسط العاصمة بغداد؛ الأمن اللبناني يفضّ مظاهرات بيروت بقنابل الغاز وخراطيم المياه، ويعتقل عدداً من المتظاهرين.

أسألها «بصير فيني سافر؟»، تضحك، «فيكي تسافري وين ما بدك، بس بدك فيزا على الشرق الأوسط، الفيزا شبه مستحيلة»، أنظر إلى الشاشة، آلاف اللبنانيين يتظاهرون في بيروت ضد «فساد» الطبقة السياسية، تكمل حديثها «خلص انسي هونيك، اليوم انتي مواطنة عندها إقامة، حقوق وحياة جديدة».

قرار الحياة الجديدة لم يكن قراراً شخصياً، وعلى هذا سأبدأ حياة جديدة في بلد لم أختر العيش فيه، تعلّم لغته، قوانينه، تقاليده، ثقافته، رحلة لا مفر من خوضها، وإن اختلف حال المنفى في  أيامنا هذه عن حال المنفى القديم، عن تجربة ذلك المنفي المعزول كلياً، إلا أن هذا لا يسقط فعل النفي عن المنفيين الجدد. بلغ عدد اللاجئين السوريين في المنفى 4 ملايين فرداً تقريباً، أفراد مصابون، محملون بصدمات نفسية وجسدية جراء القمع، الاعتقال، الدمار،القتل والتهجير.. جميعهم ملزمون ببناء حياتهم الجديدة في واقع غريب وقاسٍ، مجبرون على التكيف، كما لو أن ما عاشوه، ما حدث معهم، مجرد حلم وكابوس، بأن شيئاً لم يحدث ولا يحدث في بلادهم، بل أنهم ولدوا للتو في كوكب آخر.

موقع الجمهورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى