صبحي حديديصفحات سورية

الاسد في ساعة الذئب: ما الذي تبقى من ‘اهون الشرور’؟


صبحي حديدي

في نصف نهار، أقلّ من عشر ساعات، بواسطة مجرم حرب يمتطي دبابة، أو عنصر أمن انقلب إلى وحش كاسر، أو ‘شبيح’ تجرّد من كلّ صفة بشرية؛ جندل نظام بشار الأسد قرابة 140 شهيداً، في حماة ودير الزور وحمص والبوكمال والحراك، في مسعى يائس للإجهاز على زخم شهر رمضان عموماً، في دلالاته الروحية أوّلاً، والتلويح بالقبضة الأمنية والعنفية الأشرس إزاء استثمار طقوسه، في صلوات التراويح خاصة، من أجل تصعيد حراك الإنتفاضة. ولم تكن صفة اليأس قد طبعت تلك الإجراءات بسبب من جرعات الوحشية التي اكتنفتها على صعيد عسكري وأمني، فحسب؛ بل كانت عودة النظام إلى أجواء التخويف من ‘العصابات المسلحة’ قد اقترنت بتنويع أكثر سخفاً، وأسهل افتضاحاً بالطبع، هو الحديث عن وجود منظمة ‘القاعدة’ في حماة، المدينة والريف، وفي معظم أرجاء جبل الزاوية ومحافظة إدلب.

لا يلجأ مستبدّ، أياً كانت حساباته أو تقديراته لميزان القوى في الصراع، إلى هذه الخلطة المتنافرة من إراقة الدماء البريئة، ثمّ السعي إلى غسلها بوسيلة خطاب ديماغوجي ركيك مستنفَد مستهلك، إلا إذا كان قد بلغ في اليأس مبلغ خطوط الدفاع الأخيرة.

هذه، في عبارة أخرى، هي ساعة الذئب التي يحرّكها مزيج بهيمي من التضوّر والتغوّل وغريزة البقاء، فلا ينفع فيها تحكيم عقل أريب ـ على ندرة وجوده، في صفوف ناصحي النظام، من عرب أو عجم ـ ولا إفلات عقل سقيم من كلّ عقال، ولا رادّ لليأس من الذهاب أبعد فأبعد في الدفاعات اليائسة. وليس عسيراً، كما قد يجزم أبسط مراقب محايد، أن تتضح حدود ساعة الذئب تلك، وأن تتكشّف عن حصاد دامٍ، وحشي وبربري لا ريب، قد يشبع الذئب ساعة، لكنه لا يصنع برهة استذآب إضافية تضمن الساعة التالية، بقدر ما يرسّخ نقيضها المضادّ.

فما الذي كسبه النظام من سفك دماء 140 مواطناً سورياً، خلال ساعات معدودة؟ أغلب الظنّ أنّ أبرز ‘انتصارات’ تلك العمليات الوحشية هي انطلاق أولى التظاهرات الشعبية في حيّ أبو رمانة، الدمشقي الفاره والنخبوي، حيث مقارّ السفارات والهيئات الدولية؛ وأولى التظاهرات التي لامست ساحة الأمويين، حيث وزارة الدفاع، وقيادة القوى الجوية (آمرية الطيران)، ومبنى الإذاعة والتلفزيون؛ وأولى التظاهرات في حيّ المهاجرين، غير بعيد عن القصر الرئاسي التاريخي، وقصر الروضة، ومقرّ العميد حافظ مخلوف في الجسر الأبيض. مواقع ‘انتصار’ أخرى تمثلت في ما شهدته مدينة حلب من تكثيف للتظاهر، هناك حيث كان يتظاهر الحلبيون راكضين بسبب من الحواجز الأمنية الخانقة، والإنتشار السرطاني للمفارز الأمنية وقطعان ‘الشبيحة’، وحيث تفاخر النظام طويلاً حول صمت المدينة الثانية في سورية.

في المستوى الديماغوجي، وبالإضافة إلى توجيه الأبواق إلى نفخ المزيد من المعزوفات حول ‘العصابات المسلحة’ وخلايا تنظيم ‘القاعدة’، لجأ النظام إلى نشر أشرطة فيديو (مصوّرة، يا للبراعة الزائفة، بواسطة أجهزة الهاتف النقال!) تصوّر ممارسات وحشية ضدّ أناس قيل إنهم من عناصر الأمن، نُسبت المسؤولية عنها إلى تنسيقيات حماة ودير الزور… تحديداً! وإذا صحّ التحذير من أنّ خطاب بعض دعاة نصرة الإنتفاضة السورية، في الخارج أوّلاً، علانية تارة وعبر كواليس المؤتمرات والندوات العقيمة طوراً، انطوى بالفعل على ما يشجّع لجوء السوريين إلى عنف مضادّ لعنف السلطة؛ وأنّ بعض الحوادث، في سياق هذا الطراز من العنف، لا يمكن تجنبها في المطلق؛ فإنّ الفشل الذريع كان مصير أشغال السلطة في هذا الميدان، ومثله اشتغالها الحثيث لصبّ الزيت على أية شرارة، فبقي شعار سلمية الإنتفاضة هو الوحيد، وليس الأعلى فحسب، ولا انقلاب عنه إلى سواه، أياً كانت عذابات مجابهة الدبابة بالعلم السوري وحده، وبالصدر العاري إلا من عزيمة المقاومة.

أنساق أخرى من ‘الإنتصارات’ تحققت في مجلس الأمن الدولي، حين عجزت موسكو عن تجرّع كلّ هذه الدماء، خاصة وأنّ الكرملين قد سكت عن الكثير منها طيلة أشهر الإنتفاضة، فصوّتت روسيا على مشروع قرار يدين عنف النظام.

صحيح أنه نصّ هزيل، يساوي بين القاتل والقتيل، ولا عزاء فيه لكلّ مَنْ علّق أو يعلّق الآمال على هذه الهيئة الدولية؛ إلا أنّ النصّ ذاته كان غير مقبول من موسكو قبل المجازر الأخيرة، ويصعب بالتالي اعتباره تطوّراً بلا مغزى. في المستوى ذاته من علاقات النظام بالعالم الخارجي، ولكن في المحيط العربي هذه المرّة، أطلق النظام أتباعه الموالين المحليين في الأردن ولبنان، كما أوفد إلى عمّان وبيروت قطعاناً من ‘الشبيحة’ المتخصصين بالسلاح الأبيض، لتفريق اعتصامات التضامن مع الشعب السوري. أمّا مغادرة سفير النظام في القاهرة، يوسف الأحمد، وهو محارب قديم في صفوف السلطة وليس دبلوماسياً عادياً، فإنّ دلالاتها ترفع شارة نصر للمئات من الأشقاء المصريين الذين تظاهروا مراراً أمام السفارة، تأييداً للإنتفاضة السورية؛ كما تبعث برسالة، قصيرة ولكنها بليغة، إلى بيروقراطي منافق وساكت عن الحقّ مثل نبيل العربي، الأمين العام للجامعة العربية.

لكنّ ساعة الذئب هي، من جوانب أخرى، جردة حساب متجددة لوريث لاح ذات يوم أنه ‘أهون الشرور’ على سورية ما بعد حافظ الأسد، والفتى الذي أوحى بالثقة أكثر من ‘الأعمام’ الذين حكموا مع أبيه، في مسائل الإصلاح ومحاربة الفساد بصفة خاصة. ولم يكن هذا رأي غالبية أنصار النظام وحدهم، بل كان أيضاً تقدير فئات من المعارضة السورية، وساجل دفاعاً عنه بعض مثقفيها ومفكريها، ممّن يقفون اليوم في صفّ الشعب بوضوح أقصى (وهذه واحدة من حسنات الإنتفاضة، غنيّ عن القول). البعض الآخر (ويشرّفني، من باب المسؤولية في الأقلّ، أنني كنت في عدادهم)، ساجل في الصفّ النقيض: بشار الأسد ليس أهون الشرور بل أكثرها إنذاراً بالأخطار على سورية المعاصرة.

ذلك لأنّ توريثه يسنّ قاعدة بغيضة مرفوضة، لا تشمل ‘جمهورية آل الأسد’، كما تحدّث معلّقون اعتبروا بأنّ الجمهورية لم تكن موجودة أصلاً، بل ترتدّ إلى عقود خلت، فتنسحب على تاريخ ‘الجمهورية السورية’، تلك الصيغة السياسية الراقية التي اختارها الشعب السوري فور الإستقلال، وقبل زمن طويل من صعود حزب البعث بجميع تياراته، واستيلاء البيت الأسدي على السلطة. وتلك جمهورية أخذها الشعب السوري أخذاً، بنضالات متعددة الأشكال، ولم تُمنح له هبة من أحد، بل دفع ثمنها غالياً، وتشبث بنجاحاتها وإخفاقاتها، وتعلّم من تجاربها سلوكيات سياسية ديمقراطية وتعددية لم تفرّق بين مواطن وآخر على أيّ أساس قومي أو ديني أو مذهبي أو مناطقي.

وساعة الذئب هذه تذكرة بأنّ الشعب السوري لم يتوجه إلى صناديق الإقتراع، في تموز (يوليو) 2000، للتصويت على اختيار بشار الأسد، إستناداً إلى إرادة الشعب الحرّة، بل جرى قسر الناس على التوجّه إليها بموجب إرادة استبداد عسكرية ـ أمنية، هي الإرادة العتيقة ذاتها التي أجبرت المواطنين السوريين على ممارسة الطقس الروتيني ذاته كلّ سبع سنوات منذ العام 1971 حين جرى التصويت على الأسد الأب. وإذا كانت نسبة التصويت لم تهبط مرّة واحدة عن الرقم الشهير 99، فإنّ الرقم الذي قيل إنّ الأسد الابن حاز عليه (97,29 بالمئة) كان المؤشّر الأوّل والأبكر على أنّ الوريث لن يختلف عن المورِّث في تزوير الإرادة الشعبية.

ولم يكن الوريث أفضل الحلول (وتلك كانت التسمية الأخرى لتعبير ‘أهون الشرور’)، كما ساجل بعض السفسطائيين، بل كان في واقع الأمر المرشح الأوحد، المفروض بقوّة البطش وإعمال القبضة الأمنية واحتقار الشعب والدستور، ذاك الذي سنّته السلطة ذاتها، تفصيلاً على ما يناسبها من مقاسات. المرشح الأفضل الوحيد هو ذاك الذي يختاره الناخبون، من بين لائحة مرشحين، في اقتراع سرّي سليم وحرّ وديمقراطي؛ وما دام هذا الشرط قد غاب عن اقتراعَيْ 2000 و2007، فإنّ المرشح الوحيد الذي فُرض على الشعب هو أسوأ المرشحين منطقياً، أو هو ‘المرشح ـ اللامرشح’، إذا جاز هذا النحت اللغوي الذي تبيحه الطرافة السوداء، في هذه الأيام السوداء.

وطيلة ثلاثة عقود ظلّ الأسد الأب يعمل 16 ساعة كلّ يوم، كما أفادنا البريطاني باتريك سيل، مؤلف السيرة الأخلص للأسد ونظامه، من أجل بناء بنية في الحكم تتراتب بدقّة شبكة العنكبوت، حيث تُنسج الخيوط المعقدة يميناً ويساراً، أفقياً وشاقولياً، من المربع إلى المستطيل إلى الدائرة، لكي تنتهي جميعها عند المركز الأوحد الذي يقيم في قلب الشبكة، ويصنع القرار النهائي، ويرسم السياسة الأخيرة. صعد الكثيرون منذ العام 1970، حين انقلب الأسد على رفاقه في حزب البعث واستولى على السلطة، وهبط الكثيرون: ضباط أمن وضباط جيش، قادة حزبيون وقادة بيروقراطيون، لصوص ومرتزقة وشرفاء وبلهاء، أخوة وأبناء أخوة وأخوات، من كلّ الطوائف والمذاهب والمشارب.

لكنّ هذه الخصيصة لم تنقلب إلى نعمة تساند نظام الوريث، بل تقلّبت بين نقمة هنا، وعبئاً هناك، حين توجّب على الوريث أن يستبدل بنفسه عدداً من كبار أفراد الحرس القديم، وأن يُعلي شأن أفراد من الحرس الفتي، في غمرة ظروف مباغتة أو غير مواتية، كانت على رأسها حقيقة أنّ مرض الأسد الأب لم يمهله وقتاً يكفي لترتيب البيت كما يريد له أن يُرتّب، تحت رقابته اللصيقة وقبضته الفولاذية. ولقد وجد الأب بعض الوقت لإزاحة البعض، دون أن يسعفه الزمن في اختيار، أو تدريب وتربية، بدلاء مجرَّبين وشديدي الولاء للوريث، فتوجّب على الأخير أن يختار بنفسه، وأن ينقلب السحر في هذا على السحرة.

المثال الأبرز هو ‘سرايا الدفاع’، وحدات البطش التي تعيّن على الأسد الأب تفتيتها وإعادة تركيبها وتبديل اسمها وتفريق شمل ضباطها، بعد أن بلغ النزاع مع قائدها، وشقيقه، رفعت الأسد، مرحلة المواجهة. ثمّ، في السنوات الأولى من التوريث، تعيّن أن يكون قائد هذه الوحدات الفعلي، إسوة بالقيادة الفعلية للحرس الجمهوري، شابّ في مقتبل العمر، ليست له من خصيصة عسكرية أو قيادية سوى أنه يُدعى ماهر الأسد! ولأنّ علاقته بالسياسة أقرب إلى الدرجة صفر، وعلاقته بالمؤسسة العسكرية لا يسندها أي تاريخ أو تزكيها أية تجربة، فضلاً عن انغماسه في خدمة شبكات المال التي يتشارك فيها أكثر من اهتمامه بالشؤون العسكرية واللوجستية، فقد انتهت اثنتان من كبريات المؤسسات التي تحمي ‘الحركة التصحيحية’ إلى إمرة ضابط عصابي ولمفاوي ودموي المزاج، هو الذي يدير أعمال الحلّ الأمني اليوم.

هذا هو المشهد الذي يتسيّده ‘أهون الشرور’، رأس الإستبداد والآمر الأول بأشدّ ممارسات العنف وحشية، وبالتالي فإنه اليوم ليس أفدحها خطراً على حياة سورية، فحسب؛ بل ينبغي أن يكون ختام الشرور، حيث تسير عقارب ساعة الذئب إلى ثوانيها الأخيرة، ويبتدىء الشعب ساعة الحساب الأولى. لكلّ فرعونه، كما يعلّمنا التاريخ، ولن يكون قفص آل الأسد أقلّ صناعة للتاريخ من ذاك الذي احتوى آل مبارك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى