صفحات الرأي

الاعتداء على تمثال أبي العلاء المعري : صفارة إنذار لما هو آتٍ

 

عبد الحميد صيام

في البداية أود أن أؤكد أن قطع رؤوس كل التماثيل في سوريا وغيرها لا يعادل قتل طفل واحد وأنني لو خيرت، أنا والملايين من مثلي، بإنقاذ حياة طفل واحد مقابل تهشيم كل التماثيل لفضلت الخيار الأول بلا تردد. فمن صنع تمثال أبي العلاء المعري يستطيع أن يعمل عشرة تماثيل مثله، أما نقطة دم تسيل من رأس طفل يحاول أن يختبئ في حضن أمه وهو يسمع أصوات المدافع والصواريخ والبراميل المتفجرة تقترب ثم تقترب ويسقط فوقهما صاروخ أو قذيفة فيتضرج الإثنان في دمائهما، تعادل كل تماثيل الدنيا. ثم من قال إن أبا العلاء بحاجة إلى تمثال كي يتذكره الناس؟ إنه أعظم وأكبر وأبقى وأكثر حضورا وانتصارا على الزمن من كل الحكام والسلاطين والوزراء والشبيحة والبلطجية والتكفيريين والظلاميين. فسقط الزند ولزوم ما لا يلزم ورسالة الغفران وعشرات المؤلفات الأخرى كلها لا تموت مع الزمن فلا شيء يهزم رمزية الموت إلا الأعمال الفنية الخالدة كما قال الشاعر الراحل محمود درويش في جداريته العظيمة التي كتبها بعد إحساسه بالموت أثناء عملية القلب في باريس عام 1998: ‘هزمتك يا موت الفنون جميعها، هزمتك الأغاني في بلاد الرافدين/ مسلة المصري/ مقبرة الفراعنة/ النقوش على حجارة معبد/ هزمتْك وانتصرَت’.

الخطير في هذه الحادثة أنها تنذر بالكثير من الأعمال الشبيهة والخطيرة في المستقبل وعلينا أن ننتظر العجائب إذا تمكنت هذه الجماعات الظلامية التكفيرية من السلطة في أي مكان من هذا الوطن العربي كما فعلت في أفغانستان ومالي والصومال. ففي أقل من أسبوع بعد تهشيم تمثال أبي العلاء تم تحطيم تمثال عميد الأدب العربي طه حسين في محافظة المنيا بمصر، كما وضع نقاب على رأس تمثال أم كلثوم في ميدان الثورة بالمنصورة. والشيء المثير للغضب أن مثل هذه الحوادث الخطيرة تمر دونما استهجان واستنكار واسعين مما يشجع بارتكاب المزيد. لقد توقعنا أن يصدر الناطقون باسم الثورة السورية بتشكيلاتها الشريفة في الداخل والخارج بيانات تدين مثل هذا التصرف الأرعن الذي يسيء لكل ما هو جميل في سوريا. وتمنينا لو أن بعض الأصابع أشارت إلى من يشتبه فيهم بالقيام بمثل هذه الحادثة الخطيرة التي تمثل هجوما علينا جميعا وعلى ذاكرتنا الجماعية ومكوناتنا الثقافية والعلمية والتاريخية والتراثية والأدبية.

الأمم الراقية تحافظ على تراثها وتعلي من شأن علمائها ومبدعيها وكتابها وفنانيها رجالا ونساء. تسمي المعاهد والمدارس والجامعات والساحات العامة والحدائق باسمائهم وتتفاخر بهم بين الأمم. أما أن يأتي زمن يتناول جاهل متخلف ساطوره ويقطع رأس تمثال عبقري مثل أبي العلاء أو طه حسين فذاك مؤشر على المستوى الذي انحدرت فيه روح الإبداع والتعددية والتسامح وتقدير العلم والفن ليستبدل ذلك بهمجية التخلف وعقلية التكفير وتجريم الآخرين واستخدام الطلقة بدل الفكرة والحوار بالرصاص بدل الجدال بالقلم واللسان.

لقد لقي أبو العلاء في زمنه والأزمان اللاحقة كل تقدير واحترام رغم أن الكثيرين اختلفوا معه في آرائه الجريئة. درس في حلب وأنطاكية وذاع صيته شاعرا ومفكرا وفيلسوفا. وعندما حل في بغداد عام 398 (هجرية) استقبله العلماء والشعراء والكتاب والوراق وتجمع حوله التلاميذ من النساء والرجال. لم يحاول أحد أن يتعرض له بسوء أو يلحق به الأذى أو يكتم صوته أو يمنعه من نشر كتبه وأفكاره وأشعاره. عاش زاهدا وبسيطا ونباتيا ومنعزلا في بيته في معرة النعمان يؤلف ويكتب ويصنف ويفسر.

مساحة الحرية كانت أوسع من عصرنا هذا. فلم نسمع أن أحدا حاول منع قصائد ‘أبي نواس’ القريبة من الأباحية ولم يتم اعتقال إبن رشد لآرائه الفلسفية الجريئة وردوده على الغزالي في ‘تهافت التهافت’ ولم يتعرض مسؤول أو سلطة أو قاض للمتنبي لأنه صنف نفسه فوق البشر ورأى في عبقريته إعجازا يدعوه لأن ‘يقف فوق أخمصي قدر نفسه بينما يقف تحت أخمصيه الأنام’ ولا البحتري عندما أكد أن مهمته نحت القوافي من مقاطعها وليس مسؤولا إذا لم تفهم البقر، والفرزدق قرّع الخليفة عبد الملك بن مروان لمحاولته تجاهل الإمام زين العابدين علي بن الحسين في موسم الحج فذكره أن هذا ابن فاطمة الذي ختم بجده الأنبياء وقال: ‘وليس قولك من هذا بضائره العرب تعرف من أنكرت والعجم’ فلم يقطع رأسه ولا لسانه. إن أجواء الحرية الفكرية، ولا أتكلم هنا عن الصراعات السياسية، التي انتشرت في دمشق وبغداد وقرطبة والقاهرة هي التي تركت لنا هذا التراث العظيم الذي ملأ الدنيا علما ونورا وإبداعا.

جرائم ترتكب باسم الإسلام

كل هذه الأعمال المشينة والدونية ترتكب باسم الإسلام. تدمير تماثيل بوذا في وادي باميان في أفغانستان (آذار/مارس 2001) تداول على رؤيتها حكام مسلمون لأكثر من ألف عام ولم يجدوا فيها ما يسيء أو يهدد دينهم إلى أن جاء أتباع الملا عمر وخرجوا من كهوف طورا بورا واكتشفوا أن هذه التماثيل تهدد الإسلام والمسلمين وتنذر بغضب من الله إن لم يتم تدميرها. وحركة الجهاد والتوحيد وأنصارها في تمبكتو بشمال مالي هرعوا لتدمير ستة عشر مقاما كلها معالم ومساجد ومزارات لولاة صالحين ونساك مسلمين وأصحاب مراتب علمية وصوفيين وذلك خوفا على الدين الحنيف من الضرر وحماية للنص الذي تعلموه في مدارس الفقه المتطرف. الآن وصلت ثمرات هذا الفكر الظلامي إلى قلب العروبة بجناحيها بلاد الشام ومصر. في الماضي كانوا يطلقون النار على من يخالفهم في الحجة والمنطق كما حدث مع فرج فودة ومحاولة قتل نجيب محفوظ في مصر وحسين مروة ومهدي عامل في لبنان أو التهديد بالقتل والطرد من البلاد كما حدث مع نصر حامد أبو زيد. أما اليوم فالهجمات تتعلق بهدم مكون الأمة الثقافي والتاريخي وهو أشد خطورة من إطلاق الرصاص.

المستقبل المظلم في ظل الفكر التكفيري

ماذا سيحدث لو تمكن هؤلاء المتطرفون من تقلد مواقع القوة والحكم في أجزاء من الوطن العربي؟ دعونا نتخيل معا السيناريوهات التالية: سيعملون على هدم الأهرام وتماثيل الفراعنة وموماياتهم ومعابدهم ومقابرهم. وسيفتون بضرورة التخلص من الآثار اليونانية والرومانية والنبطية والفنيقية والسومرية والبابلية والأشورية والكنعانية. سيهدمون القلاع والمعابد والمسلات والمدرجات والأعمدة والحصون والأبراج والتماثيل. ثم ينثنون على كل التماثيل المنصوبة في الساحات والشوارع للزعماء السياسيين أو التاريخيين أو المبدعين. بدأت أخاف على تمثال سعد زغلول في القاهرة وأبي القاسم الشابي في توزر بتونس وبدر شاكر السياب في جيكور. وربما يوسعون نشاطاتهم الجهادية ليصلوا لتمثال أحمد شوقي في روما وتمثال إبن رشد في قرطبة وجبران خليل جبران في واشنطن العاصمة فيفخخوا هذه التماثيل ويدمروها حتى ولو أدى ذلك لاعتقالهم.

سيمنعون أغاني أم كلثوم وفيروز وشادية وجوليا بطرس ونجاة الصغيرة ووردة لأن صوت المرأة عورة ثم ينثون على المغنين فيمنعون أغاني عبد الحليم ومحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وناظم الغزالي وصباح فخري ووديع الصافي ومحمد عبدو وعبد الوهاب الدكالي. سيحرقون الأشرطة والاسطوانات وأشرطة الفيديو وقد يسمحون فقط للمدائح والتراتيل والإنشاد ويتركون الأمة بلا أغان فالأغاني كلها رجس من عمل الشيطان وعلى الناس أن يتجنبوه. المغنون الجدد قد يخيرون بين السجن أو الاعتزال. ويغلقون دور السينما والمسارح والملاهي والنوادي والمحطات الفضائية غير الدينية من وجهة نظرهم. وقد يفتي شيوخهم بتحريم الرياضة واعتبارها لهوا لا ضرورة له. وسينثنون بعد ذلك إلى الكتب قديمها وحديثها فيقررون على الفور منع تداول كتاب ألف ليلة وليلة وكتب عبد الله بن المقفع وقصائد بشار وعمر بن أبي ربيعة والأخطل وإبن زيدون ويلغون المعلقات السبع وخاصة معلقة طرفة لأن فيها بعض الأوصاف الجسدية ويحرمون تداول قصائد قيس بن الملوح وقيس بن ذريح وكثير عزة. ولن ينجو منهم إبن حزم الأندلسي حيث سيمنعون كتابه ‘طوق الحمامة في الألفة والألاف’ لأن الكتاب دراسة مستوفية في الحب وأنواعه ومراتبه، وأعتقد أن كتاب أبي الفرج الأصبهاني بمجلداته الأربعة والعشرين لن ينجو من مقص الرقيب. أما الكتب المعاصرة فحدث ولا حرج فقد لا تجد في رفوف المكتبات إلا بعض كتب الفتاوى والتفسير والتداوي بالأعشاب والإعجاز في القرآن. وقد يصبح إقتناء رواية لنجيب محفوظ جريمة يعاقب عليها القانون أما دواوين محمود درويش وأحمد فؤاد نجم وعبد الرحمن الشرقاوي ومظفر النواب ونزار قباني فقد تودي بمقتنيها إلى المقصلة.

قد تبدو هذه السيناريوهات ضربا من الخيال أو نوعا من الخيال العلمي. لكن الأمور كما تبدو في أوائلها تشير إلى أواخرها ومن يبدأ مشوار التحطيم بتمثال أبي العلاء وطه حسين لن يتورع في المستقبل من تحطيم كل شيء لا يتواءم وأفكاره الضيقة. ومن لا يصدق فليقرأ بعض التقارير المسربة من حكم هذه المجموعات في مدينة تمبكتو بمالي أو كيسمايو في الصومال. ولنقرأ معا هذا الجزء من تقرير عن ممارسة تنظيم الشباب الإسلامي عند سيطرته على مدينة كيسمايو في الصومال: ‘تقوم حركة الشباب بالتضييق على المواطنين حيث منعت الرقص والموسيقى في حفلات الزفاف وقامت بإغلاق المقاهي ودور السينما ومنع مشاهدة الأفلام السينمائية ومنعت النغمة الموسيقية في الهاتف المحمول ومنعت ممارسة لعبة كرة القدم أو مشاهدتها. كما قامت المحاكم التابعة للحركة بتنفيذ عمليات جلد وإعدام وبتر أطراف في عدة مناطق أغلبها في منطقة كيسمايو الجنوبية والأحياء الخاضعة لسيطرتها في مقديشو وذلك عبر جيش الحسبة الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر الذي است11حدثـته لهذا الغرض’. (العربية نت – 5 آب/أغسطس 2008).

وأخيرا أود أن أذكر هؤلاء الناس بأن الله تعالى شدد على نبيه الكريم (صلوات الله عليه) أن مهمته هي البلاغ فقط ‘وما على الرسول إلا البلاغ المبين’ (النور 54) ومهمته في التذكير لا الإكراه ‘فذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمسيطر’ (الغاشية 21،22) لأن القاعدة القرآنية تنص على: ‘لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي’ (البقرة 256). لقد عوتب الرسول العظيم في القرآن لأنه كان يصاب بالغم والحزن عندما يفشل في إقناع بعض الناس بالإسلام حيث قال تعالى ‘فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا’ (الكهف 6). نتمنى على أمثال هؤلاء الظلاميين أن يفتحوا قلوبهم وعقولهم ويقرأوا هذه الآيات وتفاسيرها الصحيحة بعيدا عن التلقين والصم من أمير الجماعة.

‘ أستاذ جامعي وكاتب عربي مقيم في نيويورك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى