صفحات الرأيعقاب يحيى

الاقليات : حساباتها وعوامل ترددها


عقاب يحيى

كثيراً ما تجاهلنا الكتابة في مفهوم الأقليات، أو تناولها ككتلة، أو فئة للإيمان بأن الانتماءات ما فوق دينية وعرقية ومذهبية هي التي يجب أن تكون المحرّك والهوية والظاهرة السياسية والمجتمعية المعبّرة عن الوعي والمصالح والاتجاه، وأن تلك الموضعات ليست نسيجاً موحّداً، أو حالة موصوفة متجانسة طبقياً، أو صمّاء لا تتفاعل داخلها، ومع غيرها، وبالتالي من الخطأ الكتابة بالجملة عن حالة أقلوية بعينها، أو عن جميع الأقليات الدينية والمذهبية ووضعها في كيس واحد، أو سحب مسطرة تحليلية محددة فيها، تصحّ عليها كلها، وفي مختلف المراحل والأطوار..

لكن واقع الحال أمام جملة المتغيّرات التي أحدثتها عقود الاستبداد والارتكاس، التي حملت في صلبها فشل مشروع النهوض، والحداثة، والتوحيد، وإقامة دولة المواطنة للجميع، وتراجع منسوب الاهتمام بالعمل السياسي، وخنق الأحزاب الحيوية المعارضة، ومطاردة الاتجاهات العلمانية واليسارية بشتى مشاربها، وتجويف الرسمي منها وتحويله إلى قاع صفصف للانتهاز، والانتفاع، ثم إخضاع المجتمع برمته لعملية قولبة على أسس التبعية للحاكم، بكل ما رافق هذه السيرورة من نبش وتغذية ونمو العلاقات القديمة التي أصبحت سياج حماية، وبديلاً، في كثير الأحيان لأطر العمل الحزبي العريض، فنهضت كثير المكونات والهيئات العائلية والدينية والمذهبية والعشائرية وغيرها، وعرف المجتمع حالة ارتداد نحو علاقات ما قبل قومية ووطنية، يشجعها نظام الطغمة الذي يجد من صالحه إيجاد لهّايات، وفزاعات من آخر، وترويج الخوف من بعبع مصنّع يجري تضخيمه ومحاولات تجسيده، وتزكية عوامل الفرقة المجتمعية ومدّها بخصب دعاويه .

هذا الفشل، وتنهيج النكوص نسف موقع ودور الانتماء السياسي، ونبتت مكانه أشكال أخرى أهلية ترتكز إلى عوامل التجميع والحماية ما قبل الأحزاب، أو بالنقيض منها، كنوع من التعبير، والحماية، وإثبات الوجود، والتضامن والتعاون.. ووجد رجال الدين والوجهاء مرتعهم الخصب في هذه التربة الجديدة فنشأت عديد المكوّنات الجديدة، وتمّ إحياء القديم وتشبيبه وتوسيع دوره، وكان للأقليات الدينية والمذهبية نصيبها الوافر .

******

بالمقابل فإن النموذج الرهيب، المخيف الذي قدّمته ” الطليعة المقاتلة” التي تبنتها حركة الإخوان المسلمين وكأنها جناحها العسكري(هناك آراء مختلفة حول تلك العلاقة) في عمليات القتل على الهوية، وتكفير الآخر، والدعوة إلى ” دولة إسلامية” أقرب إلى الخلافة بأفكار أهل الذمة، والجزية، ودار الحرب والسلام,, وغيرها من مقولات ” الحركات الجهادية”.. إنما أسهم في تخويف المكونات الأخرى غير السنية : المسيحيين على العموم، والأقليات الإسلامية غير السنية أيضاً، وبشكل خاص أوساط الطائفة العلوية التي نجح النظام، وإلى قدر كبير، في موضعة الخوف داخلها، واستدراج أوساطها الشعبية، وحتى عديد نخبها المستفيدة من النظام إلى حظيرة التأييد له كحامي حمى، ومصدٍّ من ذلك (العدو) الآخر الذي يطرح التطهير المذهبي .

ويجب الاعتراف أن نظام الاستبداد الفئوي، بتركيبته الأقلوية : فئوياً وطبقياً وسياسياً، واستناده إلى ترسانة شعارات ويافطة البعث، وحاجته إلى تحالفات واسعة مع الآخر : السني وغيره، لا يمكنه أن يكون محافظاً بشعاراته المرفوعة، أو أقلوياً بما يعلنه من أفكار وفلسفات، أو رجعياً، ماضوياً، وسلفياً.. وهو لذلك يطرح شكلاً خليطاً من العلمانية(حتى وإن كانت قشرية ومظهرية)، التي توفر مساحة من الحريات الأوسع للهيئات الدينية للأقليات، بل وحتى للمؤسسات الدينية السنية التي تدور في فلكه، ويرتبط عديد مشايخها وتجارها بأجهزته الأمنية الأخطبوطية، وللمجتمع بعمومه..

*****

إن مقارنة عديد أبناء الأقليات الدينية هذه الوضعية ـ الصورة التي يتيحها ويضخّها وينفخ فيها النظام، بتلك المُفترضة عن بديل(سني) فئوي، متشدد، بكل الحقن والتركيب الحقيقي والمصطنع عن طبيعة ذلك البديل النافي للآخر وحرياته الدينية، وللمواطنة والمساواة، وللتحضر والحريات الفردية، والكثير الكثير من عوامل المقارنة.. إنما ترجّح الكفة لصالح النظام، وتجعل الرأي العام، على العموم، في تلك الأوساط أمْيَل للترقب والحذر تجاه الثورة السورية وعملية التغيير المنشودة، دون إغفال دور وموقع الطبقة الطفيلية الناشطة في المدن والتي عقدت شراكات قوية مع مافيا النظام، وحققت أرباحاً خيالية نتيجة تلك العلاقة، وقوة تأثيرها في محيط مديني ليس بالضيّق. وهي ليست مجال تناولنا هنا .

هذه العوامل ـ مجتمعة ـ تؤدي ـ حتى الآن، وعلى العموم، إلى موقف أقرب للسلبية من الثورة السورية في مختلف الأقليات الدينية : المسيحية والإسلامية، عدا أعداد متفرقة من النخب المعارضة، وبعض الحالات الفردية المبعثرة هنا وهناك التي تشارك في يوميات الثورة وتعلن انضمامها إليها، باستثناء مدينة السلمية، الأمر الذي يدعو إلى وقفة سريعة :

ـ السلمية : لا شكّ أن عوامل متعددة جعلت هذه المدينة(القضاء القديم) بقراها العديدة التابعة لها تشذّ عن الظاهرة العامة للأقليات الدينية والمذهبية، ولعل منسوب الثقافة المرتفع فيها، وتاريخية العمل السياسي لمختلف الأحزاب القومية واليسارية، ووجود أعداد كبيرة من المناضلين الصلبين الذين قاوموا نظام الاستبداد وأمضواً شطراً من عمرهم في المعتقلات، والحرمان، والتهميش والإهمال، والتعددية المذهبية فيها، وضعف بنى العائلية(لا توجد عشائر)، ونسبتها الصغيرة العامة إلى مجموع المكوّنات السورية….جميعها دفعت هذه البلدة التاريخية لأن تكون في مقدّم الثائرين منذ الأيام الأولى للثورة، بكل ما عرفه حراكها من تعاظم وتطور في الأداء والشعارات والأعداد، وفي الالتحام مع مدينة حماة بظواهر رائعة لوحدة المصير، كالتبرع بالدم، والتناغم والتنسيق، ومع حمص الجارة أيضاً، وبما يضع إسفيناً مكيناً لإعلام النظام ومخططه باتهام الثورة بالسلفية، واللون الواحد .

ـ وفيما كان جبل العرب على مدار مراحل النهوض أحد أبرز قلاع العمل الوطني والسياسي الذي تجذّرت وانتشرت فيه عديد الأحزاب القومية واليسارية، وغيرها، فضعفت الروابط السابقة لها.. فإن عقود الارتداد الطويل والعميق، وتشابك العلاقات مع الحالة الدرزية في لبنان وما عرفه من موضعات طائفية، والدور الضاغط الذي تلعبه بعض القيادات الدرزية اللبنانية، والداعية إلى ” الحياد” والفرجة بانتظار نهاية الصراع بين الشعب والنظام..أدّت إلى ضعف حضور وفعالية أبناء الجبل الأشم، الذين اشتهروا بشجاعتهم ونخوتهم، وفيما عدا بعض الرموز والمناضلين الأشداء، الذين عركوا ميادين المعتقلات، والقمع، والحرب في لقمة العيش، وكذا الموقف الرائد والشجاع لسليلة قائد الثورة السورية الكبرى: منتهى سلطان باشا الأطرش، وعديد المحامين والنخب السياسية.. فما زال جبل العرب بثقله الرئيس على لائحة انتظار التحرك ..

ـ أما الحالة المسيحية ـ إن جازت التسمية.. بمكونها التاريخ العريق، وتوزعها المذهبي(الكنيسة الشرقية والغربية)، ودور عديد روّادها في مراحل النهوض القومي ـ التحرري، وما تركوه من بصمات واضحة في تاريخ سورية وبلاد الشام على الخصوص، والمنطقة على وجه العموم، وكذلك في عموم الأحزاب والحركات السياسية المختلفة.. فمما لا شكّ فيه أن عوامل متداخلة تجعل الكتلية الرئيسة الشعبية في موقع المترقّب والمنتظر، وأقرب إلى الحيادية.

وفي حين تقوم بعض النخب (المسيحية) بدور بارز في الحراك السوري ومقارعة الاستبداد منذ سنوات مديدة، إن كان عبر الأحزاب السياسية المنخرطين فيها، أو كنخب وكتّاب وناشطين معروفين.. فإن المناطق المسيحية ما زالت على مقاعد المتفرجين، مع بعض المشاركات الجزئية، والفردية في عدد من المناطق المختلطة ..

وفي هذا المجال فإن الخوف العام من ” المجهول”، أو التباس الدعايات المضادة التي تركّز على إسلامية البديل، ودور رجالات الدين المبرمجين في أجندة النظام وخططه، وتأثير الحالة اللبنانية، في بعض جوانبها، أدّت، حتى اليوم، إلى ضعف الحضور المسيحي الشعبي في أحداث الثورة السورية .

ـ ولعل حالة الطائفة العلوية هي الأكثر تعقيداً وتشابكاً وإثارة لشهية البحث والدراسة التي تحتاج المزيد من التحليل الموضوعي، بالنظر إلى ثقلها العددي من جهة، وموقعها في ارتكازات النظام من جهة ثانية، وعدد المناهضين والمعارضين(المحسوبين عليها) من جهة ثالثة ..

الأكيد الأكيد أنه لم يكن بأذهان(الطلائع) والنخب السياسية التي انتمت لأحزاب قومية ويسارية (وما بينها) أن تُحسب يوماً على الطائفة التي وُلدت فيها، وحُسبت عليها(بغض النظر عن الموقف الذاتي، وعن المسافة بينها وبين مسألة الإيمان، أو الالتزام العقيدي ).. وإن كان مجرى التطورات الارتكاسية فرض على الكثيرين التعاطي مع مفردات مقسورة، والعديد يوضع في موقع الاتهام وكأن عليه إثبات تجاوزه، وتخلصه، وتملصه من كل شبهة، أو علاقة طائفية بما في ذلك ردّات الفعل اليسراوية، وجنوح العديد إلى النوم على التحليلات الطبقوية، ورفض التعامل مع أوضاع اجتماعية لا يقبلها، ويرفض الإقرار بها، أو الاعتراف بالبعد الطائفي للنظام وآليات وخلفيات هذا البعد .

وفي حين أن آلاف المناضلين الأشداء كانوا في مقدّم من تصدى لنظام الاستبداد، وكثيرهم قدّم حياته وعمره في المعتقلات والحرمان، و”الحروب” المركّبة، وفي طليعة النشطاء والحراك، والثورة الشعبية الراهنة، وما زال العديد في ركب النشطاء الذين يسهمون بفعالية في بلورة البديل، وفي رفد الثورة الشبابية ـ الشعبية بما يمكن من عون ومواقف..

إلا أنّ بنية النظام الارتكازية التي لعبت وموضعت الطائفية بما يجعلها ظاهرة لا يمكن تغطيتها بأي غربال أو تبرير، ونجاحه، عبر العقود، خاصة بعد المواجهات الدامية مع الحركة الدينية، في استقطاب الوسط الشعبي إلى جانبه، وتجنيد عديد النخب الثقافية والفنية والإعلامية في أجهزته الأخطبوطية، ناهيك عن الظاهرة البارزة للثقل الطائفي في أجهزة الأمن والمفاصل العسكرية الحساسة، وقذفه المركز بقصص التخويف من القادم ووصمه بالطائفية، وتضخيمه، واستخدامه لتصريح متخلف من هنا، وتصرف طائش، وفردي ذي صفة طائفية مقابلة من هناك، أو اصطياد تصريح لشيخ غارق في كهف الماضي من جهة ثالثة..

هذه الوضعية، وبرغم وعي الثورة السورية لتركيبة المجتمع، ووضوح شعاراتها، وتأكيدها على الوحدة الوطنية في عديد بياناتها وأهازيجها وخطابها.. إلا أن الكتلة الشعبية العامة في هذا الوسط ما زالت متهيّبة مما يجري، وبعضها لا يخفي خوفه من البديل، ناهيك عن محاولات النظام المقصودة للزجّ ببعض الشباب المندفع، المغرر به في عمليات القتل والتشبيح الحاقد ضد الثائرين، أو دور(الكتيبة الإعلامية) المقزز المرتبط معظمها بأجهزة الأمن في إثارة المشاعر، وتأجيج مناخ محقون في بعض الأوساط الشعبية المقابلة.. وهو ما يريده النظام منذ الأيام الأولى بتركيزه على الفتنة، وبقية التأليفات المعروفة .

******

الذي لا شكّ فيه أن ضعف حضور المعارضة الوطنية الديمقراطية ببديلها الحضاري الجامع، إن كان لجهة فعاليتها وموقعها من الثورة، أو لجهة توحيد مواقفها ورؤاها السياسية، أو لجهة تقديم مشروع الدولة المدنية الديمقراطية الواضح المرتكزات والتفاصيل والوسيلة، وإثبات ديمقراطيتها داخلها وفي علاقاتها مع بعضها ومع الآخر، وتكريس التعددية السياسية وغيرها نهجاً وفعلاً، والوضوح الذي لا يعرف الذبذبة، والانتهازية من مطالب الشعب، وسقفه، ومن طريقة التعامل مع النظام(قصة وأرجوحة وزمان وشروط الحوار ـ أو تصور عملية الانتقال، وعملية تفكيك نظام الاستبداد، وقصة الداخل والخارج، والدور الخارجي وحقيقته وموقعه ..إلخ ) ..

إنما يسهم في حالة الانتظار والترقب والحذر والسلبية التي تتسم بها مواقف الأقليات الدينية، والتي يمكن توسيعها وسحبها، أيضاً، على ما يعرف ب”الكتلة الصامتة” التي ما زالت تمثل ثقلاً معتبراً .

ـ والأكيد الأكيد .. أن الحركات الدينية، وفي مقدمها حركة الإخوان المسلمين معنية قبل غيرها بتوضيح رؤاها ومواقفها التفصيلية من الدولة المدنية الديمقراطية، ومقولات الدولة الإسلامية، ومن العلاقة بالمكونات الدينية والمذهبية في البلد ، ونظرتها المستقبلية للتعددية، والانتخابات، وصندوق الاقتراع، وما يحكى عن النسب، وغيرها ..

ـ صحيح أن حركة الإخوان المسلمين قامت بعديد المراجعات النقدية لدورها السابق وموقفها من العنف الذي جرى، وأقرّت التداول السلمي على السلطة، ومبدأ التعددية السياسية وغيره كثير مما ورد في وثائقها وإعلامها وتصريحات قادتها، بما في ذلك استعدادها للعمل المشترك مع كافة ألوان الطيف السوري على قدم المساواة والتكافؤ، وقبولها بمبدأ الدولة المدنية الديمقراطية ..

لكن بالنظر إلى الحصار المفروض عليها، وإلى ضعف وسائل الإعلام الناقلة، وحجم التعبئة والتخويف المضادّين، بما في ذلك حشر تصريحات لجهات سلفية، وجهادية متشددة ونسبها إليها.. فإن الحركة مدعوة إلى بذل مزيد من الجهد الإعلامي لتوضيح حقيقة مواقفها، وإلى إعلان تمسكها الذي لا لبس فيه بالدولة المدنية الديمقراطية، وتطمين الأقليات الدينية والمذهبية بموقع الوحدة الوطنية، ومستقبل سورية القادم الذي سيكون تعددياً ولجميع أبنائها على قدم المساواة في الحقوق والواجبات.. دون ابتذال وتصنّع، كما يفعل البعض، وبما يرتدّ سلباً.

*****

بقي القول أن وضوح مواقف التنسيقيات في بياناتها الرافضة لأي تلوّن طائفي، أو مذهبي، أو عصبوي، أو إيديولوجي، وإصرارها على إقامة نظام الدولة المدنية الديمقراطية كهدف رئيس تلتقي فيه، وعليه كافة أطياف ومكونات الشعب السوري : السياسية والدينية والمذهبية والعرقية وغيرها، والحفاظ على سلمية الثورة، ورفض الجنوح المتطرف في بعض التصريحات والممارسات المنعزلة.. إنما يمثل دعوة مفتوحة لجميع السوريين للمشاركة في تفكيك وإنهاء نظام الاستبداد الذي غلّ وشوّه الحياة السياسية والاجتماعية في عموم الميادين والمجالات.. حين تصبح بلادنا للجميع فعلاً يتساوون فيها حقوقاً وواجبات، وحين يصبح التنوع غنى وخصباً وإبداعا في تطوير بلادنا ..

جلال / عقاب يحيى

كاتب وروائي ـ الجزائر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى