مراجعات كتب

الانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ

 عرض: عبد السلام رزاق

لاشك أن ظاهرة الربيع العربي بما هي ظاهرة مستحدثة وغير مسبوقة في السياق السياسي العربي الحديث، خلفت الكثير من الجدل، وذلك بالنظر إلى طبيعة الأسئلة التي أفرزتها، والنتائج الآنية التي تمخضت عنها. ولما كان الربيع العربي يتميز برأي الكثيرين بخاصية الفجائية، فإننا قد لا نستغرب حين نلحظ هذا الكم الهائل من الكتب والدراسات التي سعى أصحابها إلى رصد ظاهرة الربيع العربي وتحليلها معرفيا وسياسيا، والوقوف على إجاباتها الراهنة ورهاناتها المستقبلية.

في هذا السياق، يندرج كتاب “الانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ” لمؤلفه الكاتب السوري هاشم صالح. فهو كتاب ينتمي لعينة الكتب السجالية التي لم تكتف بالانخراط في قراءة ظاهرة الربيع العربي، والبحث في نقاط التماثل والتباين بين بلد عربي آخر، بل إنه مضى أبعد من ذلك عبر تقديم مراجة لعدد هام من الكتابات والنظريات الغربية والعربية التي تعاطت مع الربيع العربي. كل ذلك بهدف تقديم قراءة تنزع نحو الشمولية لما يعتبر أهم حدث سياسي عرفته دول العالم العربي في الألفية الجديدة. وقد جاء الكتاب موزعا على مقدمة وسبعة عشر فصلا وخاتمة. وفي الوقت الذي أخذت فيه المقدمة شكل جواب عن سؤال استفهامي حول الانتفاضات العربية “هل هي حدث تاريخي أم زوبعة في فنجان؟”، تناول الفصل الأول مدلول الانتفاضات العربية باعتبارها ولادة جديدة للعرب وتصفية لحسابات معرفية مع الماضي. وفي حين خصص المؤلف الفصل الثاني للتقعيد النظري والفلسفي للانتفاضات العربية كحدث استثنائي في السياق السياسي العربي من منظور فلسفة كل من هيغل ونيتشه، فقد سعى في الفصلين الثالث والرابع للبحث في جذور الانسداد التاريخي والانغلاق اللاهوتي في الثقافة الإسلامية، والذين ينظر إليهما باعتبارهما العائقين المركزيين أمام أي عملية تحول في مسيرة العرب. أما الفصول التالية (الرابع والخامس والسادس) فقد وقع تخصيصها تباعا لبحث أهم المعوقات التي تحول دون الخروج من دائرة الانسداد والانغلاق في الظرف الراهن، والمتمثلة حسب أطروحة الكتاب في إشكاليات الطائفية ومحاكم التفتيش ونظرية المؤامرة. وفيما أفرد هاشم صالح فصولا خاصة لكل من محمد أركون وإدوارد سعيد ودورهما -غير المباشر-في “أنسنة” الانتفاضات العربية، ومدها بالزخم المعرفي الذي تحتاجه، فإنه منح مساحة واسعة للتنوير الفرنسي والألماني وإمكانية مساهمتهما في بلورة مستقبل عربي لا يقف عند الفعل السياسي المحدد في الزمان والمكان، بل يمضي نحو مشروع ثقافي أرحب قادر على صياغة المشروع التنويري العربي.

فعبر منظور يراوح بين التنظير والتفسير، وعلى طول فصول للكتاب، سعى هاشم صالح إلى تفسير البنية الداخلية للانتفاضات العربية وقراءة نتائجهاعلى ضوء السياق الداخلي للمجتمعات العربية، ومدى تفاعل ذات المجتمعات مع رياح التغيير الذي شهدته المجتمعات الغربية على مدى تاريخها الحديث.

في تفسير ظاهرة الربيع العربي

منذ الصفحات الأولى للكتاب، لم يتردد هاشم صالح في التأكيد على أن الربيع العربي يشكل “حدثا تاريخيا” غير مسبوق في السياق التاريخي العربي الحديث، بالنظر إلى حالة “الانسداد التاريخي” الذي عرفته المجتمعات العربية طوال القرون السالفة. لكنه مع ذلك، يقر بأنه ليس بالحدث الحاسم في الثقافة الإنسانية مادام لم يستطع أن يشكل “قطيعة معرفية” في الثقافة السياسية والمجتمعية السائدة للمواطن العربي، تنتقل به من وضع سابق إلى وضع لاحق. ولتفسير هذا الحكم، يستدعي هاشم صالح خلفيته الفلسفية المتمثلة في المنظور الهيغلي للتاريخ لتفسير مفهوم “الحدث التاريخي” انطلاقا من النتائج المستخلصة من قراءة ذات المفهوم “الحدث التاريخي” على ضوء تجارب الشعوب الأوروبية. فإذا كانت النتائج الحاسمة التي خلفتها الثورة الفرنسية تمثلت في تصفية حساباتها القديمة مع المنظور القروسطوي لدور رجال الدين، وكسر هيمنة الكنيسة على الحياة المدنية، وبداية مرحلة ما يعرف بـ”الأنوارية الأوروبية”، فإن هاشم صالح خلص إلى أن المحصلة الراهنة لسنوات الربيع العربي تمثلت بالأساس في سيطرة “التيار الإخواني – السلفي” على السلطة. وأن “انتفاضات الربيع العربي انتهت بربيع إخواني”.

إن هذه المحصلة غير المنتظرة- بنظر الباحث- تدفع بالقارئ للاقتناع بأن “حالة الانسداد التاريخي” الذي عرفه العرب على مدى قرون خلت، تمثل معطى موضوعيا لصيقا بالإنسان العربي. كما أن ذات النتيجة قد تخلف حالة من الانسداد المضاعف، مادام التاريخ العربي يسير بالمعكوس ونتائجه تأتي دوما مفارقة للمسار الطبيعي العام للثورات الإنسانية.

لكن وفي مسعى لتجاوز هذا الوضع المأزوم والخروج من الانسداد التاريخي، يستدعي هاشم صالح مفهوما هيغليا آخر هو مفهوم “عامل الحث السلبي لجدلية التاريخ” ليوضح أن الربيع العربي بنتائجه غير المنتظرة، لا يعدو أن يكون مرحلة أولية في المسار العام لحركية التاريخ عند العرب. وأنها مرحلة إجبارية للانتقال نحو الثورة العربية الحقيقية. كل ذلك من خلال ضرورة هضم الماضي وتصفية الحساب مع رموزه وطروحاته قبل المضي قدما نحو المستقبل. على أن الهضم هنا لا يعني – بالضرورة – الإنكار أو التخلي عن الماضي، بل تصفية الحساب مع قراءات وتأويلات فقهية للدين والتاريخ. بهذا المعنى يكون العامل السلبي للتاريخ ممثلا في سيطرة التيار الإخواني السلفي محفزا موضوعيا وتاريخيا لاكتشاف العامل الإيجابي، والذي يجب أن يكون الثورة العربية الحقيقية التي هي قيد التشكل.

إن الثورة الحقيقية التي يتحدث عنها الكتاب لا يمكنها أن تتحقق غدا، ونتائجها لن تبرز للعيان إلا بعد فترة تاريخية ليست بالقصيرة. كيف لا، والثورة الفرنسية التي تعتبر النموذج الإنساني الأمثل لتحقيق غايات الشعوب الأوروبية احتاجت أكثر من قرن كامل ليقطف الإنسان الفرنسي والأوروبي ثمارها الحضارية.

ولتلافي انزلاقات تاريخية متوقعة في السياقين السياسيين العربي والإسلامي، يعقد هاشم صالح مقارنة بين الثورة الإيرانية والربيع العربي. فالقاسم المشترك بين الحدثين معا كان هو طلب الحرية والانعتاق من الاستبداد، ومن أطلق شرارة الثورتين معا هم الشباب المستقل، مدعوما بالمثقفين الليبراليين واليساريين. في حين أن من قطف الثمار، ووصل إلى سدة الحكم هم رجال الدين/الملالي في إيران، والتيار الإخواني السلفي في العالم العربي. ولأن الثورة الإيرانية سبقت تاريخيا، عمد هاشم صالح إلى  تقديم جملة مؤشرات للتأكيد على أن الثورة الإيرانية تحت حكم الملالي تشهد يوما بعد يوم تآكلا على مستوى أطروحاتها المعرفية وانحسارا في مدى قبولها في الشارع الإيراني.

وكأننا بهذا التماثل بين التجربتين يسعى صاحب الكتاب إلى إقناع قارئه بأن دينامية انتفاضات الربيع العربي لا يمكنها أن تخرج عن الإطار العام الذي رسمته الثورة الإيرانية، وأنها محكومة بذات النتائج الحتمية التي عرفتها تلك الثورة، ما دام السياق الحضاري العربي والإسلامي–برأيه- يعاني ظاهرة “الجهل المقدس” الذي يميز الأصوليات الإسلامية المعاصرة.

بهذه الدرجة الموغلة في تقديم الأحكام الصارمة والتي لا تخلو من وثوقية، يرهن هاشم صالح مستقبل  انتفاضات الربيع العربي بالوضع الآني للثورة الإيرانية. وهذا أمر يصعب قبوله نظريا وعمليا لاعتبارات كثيرة نجملها في ما يلي:

    إن شرارة الربيع العربي بما هي ظاهرة اجتماعية سياسية لم تكمل بعد سنتها الثالثة، ما يعني أنها من منظور حياة الشعوب والحضارات لا تشكل إلا بداية البدايات، أو لنقل مرحلة التشكل الأولي، والذي غالبا ما يشهد صراعا محموما بين الأطروحات والأطروحات المضادة، ويحتاج حيزا زمنيا كافيا لبلورة الإطار الأنسب للإجابة على أسئلة المرحلة. وعندما تبرز هذه النتائج على السطح تحتاج إلى حيز زمني معلوم لتكسب مشروعيتها العملية على مستوى الثقافة السياسية والاجتماعية السائدة.

    من غير المقبول الانطلاق من تجربة فردية مخصوصة -الثورة الإيرانية- وتعميم نتائجها على أكثر من بلد عربي – دول الربيع العربي. فمن الواضح أن الربيع العربي مقولة عامة لا تخلو من تعميم. كما أن تجارب الشعوب في بلدان الربيع العربي حمّالة أوجه، ونتائجها متباينة من بلد لآخر. وكل تجربة لها من الخصوصية التي يجعلها مختلفة عن تجارب الدول والشعوب الأخرى. وذلك على الرغم من  بعض الملامح العامة التي قد يشترك فيها أكثر من بلد.

    قد يكون هاشم صالح وضع أصبعه على مكمن الداء في التجربة السياسية والحضارية العربية. وقد يكون نجح أيضا في نحت مقولات ومفاهيم لتفسير هذه التجربة. لكن ذلك لا يمكنه أن يكون سببا كافيا لاستعجال نتائج الربيع العربي.

العرب والانسداد التاريخي

إن الوضع المأزوم للعرب في الظرف الراهن يجد تفسيره حسب هاشم صالح، في مفهوم “الانسداد التاريخي” الذي يعني عدم القدرة على تشخيص الوضع القائم والتعاطي الفعلي مع مكامن الخلل والبحث عن حلول. وهذا هو العمل الذي ندب هشام صالح نفسه للقيام به. فالعرب برأيه يعانون من انسدادين تاريخيين:

    أولهما انسداد خارجي مرتبط بالعجز عن حل القضية الفلسطينية: ذلك أنه بعد مائة سنة من البحث عن حل، لم يتم التوصل بعد إلى حل، لا حربا ولا سلما. وطوال هذه المدة كانت الأنظمة العربية تتذرع بأنه لا ديمقراطية ولا حرية ولا تنمية إلا بعد تحرير فلسطين. لكن يبدو أن الربيع العربي غير المعادلة رأسا على عقب. وجعل الأفراد الذي كانوا تابعين في السابق يملون اليوم طلباتهم التي كانت مغيبة سلفا. وأن “سلطة الشارع” باعتبارها “قوة ضاغطة” جديدة صارت تطالب بالديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية. والأهم أنها أضحت تضع فوارق حاسمة بين الحرية الداخلية للفرد العربي وقضية تحرير فلسطين.

    أما الانسداد الداخلي: فيتمثل في العجز عن حسم التعاطي الجديد مع التراث، من خلال بلورة منظور جديد لتأويل التراث العربي الإسلامي، يقوم على العقلانية والانفتاح على الفلسفة العربية والغربية. على أن المراد من مفهوم التراث هنا هو كل إنتاج الفقهاء والمفكرين والفلاسفة المسلمين. وهنا مكمن الإشكال المركزي. فالحساسية في مسألة التعاطي العقلاني والحر مع التراث ناجمة عن صفة القداسة التي ظلت لصيقة بكل المنتوج الفقهي الإسلامي، ما يصعب معه التناول العقلاني لهذا المنتوج. وكل من تجرأ على القيام بأي تفسير أو تأويل في هذا الحقل المغلق  ينعت بالزندقة والإلحاد.

إن هاشم صالح الذي لا يتوانى كل مرة في التصريح بعلمانيته الطافحة، وانبهاره بالنموذج الأنواري الغربي، لم يتردد في وضع ضوابط ومحددات منهجية للخروج من حالة الانسداد التاريخي وتفكيك مقولة الجهل المقدس وذلك من خلال:

    أولا، الدعوة إلى “إسلام  تنويري” وهذا التوجه يقتضي برأيه التمييز بين القرآن الكريم باعتباره نصا مقدسا ومتعاليا على التجارب البشرية وبين “التراث الفقهي” باعتباره  اجتهادات فردية قد تحتمل معاني متعددة، وقد تختلف من سياق لآخر، والأهم هو أنها قد تحتمل الصدق والكذب.

    ثانيا، تقديم معنى “تنويري وتقدمي” للربيع العربي من خلال الاستفادة من الثورات الإنسانية خاصة الثورة الفرنسية. وكذا الإصلاح الثقافي والسياسي الذي قدمته أعمال الفلاسفة الغربيين خاصة ديكارت وهيغل وكانط، إلى جانب حركة الإصلاح الديني التي قام بها مارتن لوثر في ألمانيا.

بهذا المعنى يكون “المعنى التنويري والنقدي للربيع العربي” هو المطلب الآني والمستقبلي للشعوب العربية. وهذا المغنم الحضاري لن يتحقق إلا من خلال ربيع ثقافي ومعرفي للشعوب العربية كأرضية سابقة ولازمة لأي ربيع سياسي مقبل. وهذه المعادلة برأي هاشم صالح لن تتحق إلا من خلال:

    تفكيك اللاهوت الإسلامي.

    تحقيق مفهوم الدولة المدنية.

والمقصود بتفكيك اللاهوت الإسلامي لا يعني الدين الإسلامي وجوهره الروحاني أو المساس بأركانه المعلومة، بل المراد هنا هو تقديم قراءات تنويرية للاجتهادات الفقهية الإسلامية. وهذا الأمر يبدو مطلبا ملحا سيما أن الإنسان العربي يعيش حالة توزع حضاري، فهو مشدود للإرث الأصولي الفقهي لأنه هو الزاد المعرفي الأساس للتجربة الحضارية العربية. وهو في الآن ذاته محاصر بأوجه الحداثة من كل الجهات. إن هذا الوضع المربك هو الذي حتم برأي صاحب الكتاب تفكيك اللاهوت الإسلامي كشرط مركزي للخروج من الانسداد التاريخي. وكأمثلة حية لتفكيك اللاهوت الإسلامي، يستدعي هاشم صالح ويمحص بعض الاجتهادات الفقهية لبعض قادة حركات الإسلام السياسي الحديث:

    فالشيخ يوسف القرضاوي الذي يحمله مسؤولية معنوية عن بعض ما وقع في بعض بلدان الربيع العربي، قدم اجتهادات مضيئة في التعاطي التنويري مع مفهوم “اللاهوت الإسلامي”. فقد كان سباقا لتقديم تفسير تنويري لمفهوم “أهل الذمة” الذي ظل يثير الكثير من ردود الفعل السالبة ضد الإسلام، ويجرح حساسية المسيحيين. فقد خلص القرضاوي إلى أن “أهل الذمة” مفهوم اجتهادي فقهي، لكنه غير قرآني، ومن ثمة يمكن استبداله بمفهوم “المواطنة” كإجراء جديد لتسوية العلاقات الملتبسة بين المسلمين وغير المسلمين، سواء داخل البلدان الإسلامية أو خارجها.

    هذا الإجراء البسيط ظاهريا والصادر عن أحد شيوخ الإسلام السياسي قد يحل إشكالات كبرى في الثقافة الدينية والسياسية اليوم، بدءا من التمييز الصارم بين النص القرآني والاجتهاد الفقهي، وانتهاء بتقديم صورة جديدة ومغايرة للإسلام باعتباره دينا يقوم على التسامح والقبول بالآخر، لا على السيف وسلطة القهر كما يقدم عبر صور نمطية في الشرق والغرب.

    أما الشيخ راشد الغنوشي فيقدم هو الآخر تفسيرا تنويريا لمفهوم الجهاد، من خلال الدعوة إلى تحييد هذا المفهوم كليا في التعاطي مع غير المسلمين. لأنه يقدم فكرة غير حقيقية عن الإسلام، والتي تحيل طوعا للسلم والسلام، “فالسلم هو الأصل في علاقة المسلم مع غير المسلم”. وهنا نكون بصدد تفسير فقهي جديد لحالة طارئة وذلك اعتمادا على النص القرآني: “لا إكراه في الدين”.

هذه الاجتهادات الفقهية الصادرة عن بعض فقهاء الإسلام السياسي لازمة – بنظر المؤلف- لتحقيق الربيع الثقافي، والخروج من دائرة التمركز حول الذات التراثية. وذلك على الرغم من أنها قد تثير حفيظة حركات الإسلام السياسي التي تعيش بنظره حالة انفصام عن الواقع المعيش.

بهذا المنحى التحليلي نكون في قلب معادلة جديدة مفادها أن الربيع العربي يضع مستقبل الإنسان العربي أمام نظرتين للعالم. أولاهما نظرة أصولية، وثانيتهما نظرة حداثية. وأن الانسان العربي مدعو للاختيار أولا والفعل ثانيا، بعيدا عن قيود الماضي وتقديس الأشخاص. فالاجتهادات الفقهية لكل من القرضاوي والغنوشي نماذج تمثيلية وخطوات أولية على درب الربيع الثقافي الذي لن يقوم إلا من خلال تثقيف الشعوب العربية وتهذيبها ومحو الأمية الدينية والسياسية في أوساطها، لكي لا تكرر أخطاء الماضي وهو ما سيقود طوعا إلى الطريق نحو “الأنوارية العربية” التي تتجسد في الديمقراطية والدولة المدنية.

رحلة البحث عن الأنوارية العربية

قد تكون الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية هي الرهان الحقيقي من وراء اندلاع شرارة انتفاضات الربيع العربي، بل إنها قد تشكل التمظهر الحقيقي والشامل لمفهوم الربيع الثقافي المراد تحقيقه. لكن الملاحظ هو أن البوادر الظاهرة للربيع العربي حتى الآن تكاد تكون بعيدة عن الدلالة الحقيقية للديمقراطية، أو لنقل إن هناك مسافة معينة بين الشعوب العربية والديمقراطية. ويمكن إرجاع السبب إلى أن الشعوب لم تأخذ حظها من التثقيف والتهذيب اللذين يشكلان في واقع الأمر أبرز العناصر اللازمة للارتقاء بهذه الشعوب إلى محطة الديمقراطية. ويرى صاحب الكتاب أن الوصول إلى هذه المحطة يقتضي الانتقال عبر مرحلتين حاسمتين:

    أولا، مرحلة التفكيك: وتقتضي العمل على واجهتين: الأولى تقوم على تفكيك الأفكار الأصولية والأطروحات العتيقة، وفق أدوات نقدية لتمييز الصالح منها من الطالح والاستفادة منها على ضوء أسئلة الواقع. أما الواجهة الثانية فتقوم على التعاطي الإيجابي مع أفكار الحداثة الأوروبية وقيم التسامح والحرية واحترام الكرامة الإنسانية، وما يستتبع ذلك من خروج من إطار السياج الدوغمائي والتمترس الطائفي. فالهدف الأساس من هذه المرحلة هو التعاطي النقدي مع الأفكار التي تقدم نفسها وكأنها أفكار مقدسة في حين أنها محض اجتهاد بشري. مع ضرورة الإبقاء على القيم الروحية والأخلاقية العليا للتراث العربي والإسلامي.

    ثانيا، مرحلة التركيب: وتتلخص في إعطاء الشعوب كامل الحرية والمسؤولية للاختيار والتمييز بين المشاريع. لأنها تكون حينها قد دخلت مرحلة النضج السياسي وتذوقت الحرية وأضحت قادرة على ممارسة الديمقراطية.

إن خاصية التكامل التي تجمع بين المرحلتين تقود إلى القول بأن الديمقراطية هي تنشئة مجتمعية قبل أن تكون آلية اقتراع. وأنها ثمرة جهد بشري يقوم على قاعدة البناء والتراكم والتلاقح بين التجارب الإنسانية. في حين أن رهان حركات الإسلام السياسي على “الشورى” لوحدها كخيار وحيد لتدبير الحقل السياسي يبقى رهانا غير واقعي ولا موضوعي، لأنها لا يمكنها في أقصى الأحوال أن تكون أكثر من نواة مصغرة لديمقراطية قابلة للاستثمار والتطوير ضمن الصيرورة العامة للنوع البشري.

وفق هذا السيناريو، فإن هاتين المرحلتين تقودان طوعا إلى تحقيق مفهوم الدولة المدنية التي تمثل تتويجا للفلسفة التنويرية اللازمة للخروج من دائرة الانسداد التاريخي إلى دائرة الحضور والفعل في الصرح الإنساني للحضارة. والدولة المدنية عند هاشم صالح هي دولة علمانية تساوي بين جميع الأفراد المتدينين وغير المتدينين، وتعتمد النظام الديمقراطي الليبرالي القائم على التعددية الحزبية وحرية النقاش. والديمقراطية لا يمكنها أن تتحقق من دون دولة علمانية/ أي دون مساواة كاملة في الحقوق والواجبات بين مختلف الأفراد المشكلين للمجتمع بصرف النظر عن أصولهم الدينية أو العرقية أو المذهبية.

استنتاجات وتساؤلات

قد يكون كتاب “انتفاضات الربيع العربي على ضوء فلسفة التاريخ” رحلة بحث فردية وجماعية عن ثورة/ ربيع عربي لم تتحقق بعد. وقد يسجل للمؤلف توصله إلى التشخيص الناجع لظاهرة الربيع العربي، من خلال التأكيد على أن أحداثه لم تحل معضلة الانسداد التاريخي بقدر ما اكتفت بتفجير جملة المكبوتات السياسية والاجتماعية داخل الجسد العربي، ما يشكل نقطة الانطلاقه الحقيقية نحو المستقبل.

قد يسجل للكتاب أيضا سعة الآفاق المعرفية لصاحبه الذي ظل طوال الكتاب يراوح بين أكثر من نظرية ويستدعي عددا هاما من المفاهيم والأدوات للقبض على أهم مفاصل الظاهرة موضوع الدراسة، الأمر الذي جعل  قراءة الكتاب عبارة عن رحلة سريعة الإيقاع للبحث عن جواب حول الراهن العربي ومستقبل الشعوب العربية. لكن هذا لا يمنع من القول بأن القارئ يستشعر في أكثر من موقع في الكتاب درجة من التحامل تجاه تجارب الإسلام السياسي، ويحملها تبعات الانسداد والسقوط، وكأن هذه الحركات هي المسؤولة عن الوضع القائم. في حين أن منطق الأشياء يؤكد عكس ذلك. فهذه الحركات حديثة النشأة ودورها تزايد في مرحلة الربيع العربي لأن الساحة السياسية كانت تعاني من الفراغ الناجم عن أفول الخطابات القومية والليبرالية والاشتراكية. وبالتالي فهذه الحركات غير مسؤولة عن الوضع القائم، ولن تكون إلا حينما يتم تمكينها من الحضور والفعل في الحقل  السياسي وتتم قراءة وتقييم نتائجها بعد أن تستوفي عهدتها الانتخابية. وهو الأمر الذي لم يتحقق حتى الآن في أي بلد من البلدان العربية.

قد يكون النموذج الحضاري الغربي ناجحا إلى حد بعيد في الاستجابة لواقع الشعوب الغربية والأوروبية، وقد يكون الإعجاب الفكري بهذا النموذج مقبول من حيث هو محفز على البحث عن نموذج عربي لم يتحقق بعد. لكن أن ينظر إلى النموذج الغربي باعتباره النموذج الأكمل والأمثل ويتم إسقاط أسئلته ونتائجه على الواقع العربي، ففي ذلك انتصار للقناعات الفكرية لمؤلف الكتاب على حساب أسئلة الواقع. بل إن إجراء كهذا لا يمكنه إلا أن يؤكد أطروحة المركزية الأوروبية التي لا تخلو من نزعة استعمارية.

معلومات الكتاب

العنوان: الانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ

المؤلف: هاشم صالح

عرض: عبد السلام رزاق – إعلامي بشبكة الجزيرة

الناشر: دار الساقي/ط 1

تاريخ النشر: 2013

عدد الصفحات: 350

_______________________________

* عبد السلام رزاق – إعلامي بشبكة الجزيرة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى