حسين العوداتصفحات سورية

الانتفاضات العربية كشفت زيف الأنظمة/ حسين العودات

 

 

بعد أربع سنوات ونيف من الانتفاضات العربية أو ثورات «الربيع» العربية، كما يحلو للبعض أن يسميها، أخذت تيارات سياسية في داخل البلدان العربية، ونخب ثقافية وسياسية وطبقات اجتماعية، تعبر عن اعتقادها أن هذه الثورات أو الانتفاضات لم تجلب معها سوى المآسي والخراب والدمار، وتتمنى ألا تكون قد حصلت. حتى أن شرائح واسعة من الجماهير العربية في البلدان التي حدثت فيها الانتفاضات أخذت تتراجع عن فرحتها بهذه الانتفاضات وتأييدها لها أمام المآسي التي تشهدها ولسان حالها يقول: كان حالنا لا بأس به فتدهور إلى الحضيض، وها نحن ندفع ثمناً غالياً لانتفاضات لم تطور شيئاً بل قادتنا إلى المآسي والفوضى.

إنه لمن البديهي ألا تنجح هذه الانتفاضات أو الثورات نجاحاً كاملاً، لأن ألف باء شروط نجاح الثورة يقتضي تبني أهداف واضحة وأساليب نضال تأخذ معطيات الواقع باعتبارها، إضافة لتنظيمات شعبية وسياسية متينة، كي تكون الثورة قادرة على تغيير الواقع تغييراً شاملاً وجذرياً، وصولاً إلى واقع آخر مختلف، وهذا لم يتوفر في الانتفاضات العربية، لأنها كانت عفوية غالباً وغير منظمة دائماً، ولم تكن سوى تعبير عن رفض الواقع القائم أي رفض الأنظمة الشمولية والديكتاتورية والفاسدة والسارقة، وهذه جميعها ليس لديها أي هم في بناء مجتمعات حديثة أو دول حديثة أو احترام معايير الدولة المعاصرة، إذ إنها أنظمة قمعية ظالمة أمنية لا تتردد في اعتقال مواطنيها عشرات السنين من دون محاكمة، وتعذيبهم حتى الموت، وفي الوقت نفسه المزايدة عليهم برفع الشعارات القومية والزعم بمعاداة الاستعمار والصهيونية والتآمر الخارجي، والتغني بإنجازات وهمية غير موجودة .

لقد نضجت بعض الشروط الموضوعية لهذه الانتفاضات وأينعت في أقطار عربية عدة على رأسها تونس وليبيا ومصر واليمن وسوريا، وكانت تكفي شرارة واحدة في أي من هذه البلدان حتى تشتعل نار الانتفاضة أو الثورة، وهذا ما حصل في الواقع. ولكن لم تنضج على التوازي مع هذه الشروط تنظيمات شعبية ثورية ذات أهداف محددة واقعية، مسلحة بأساليب نضال واعدة. فكانت الانتفاضات تعبيراً عن غضب أكثر مما كانت تهدف لإقامة أنظمة جديدة ديموقراطية عادلة تطبق معايير الدولة الحديثة وتجلب الأمان والرفاه والكرامة لمواطنيها.

هكذا، قامت الانتفاضات والثورات في أكثر من بلد عربي من دون أن تستند إلى أساس ثوري في الأهداف والتنظيم، وقد كانت هذه الانتفاضات في مراحلها الأولى تعبر عن رفض ممارسات النظام ثم تطورت إلى تعدد المطالب وتكثيفها. وأمام تعنت الأنظمة السياسية القائمة وصلفها ورفضها قبول إصلاح الأنظمة وتطويرها، تحولت شعارات الانتفاضات إلى مطلب إسقاط الأنظمة، وصارت مجتمعات هذه البلدان تمور بالاحتجاج وبمطالب الحرية والكرامة والديموقراطية وحقوق الإنسان ورفض الفساد والتشهير به، وكذلك رفض الدولة الأمنية واعتبارها خطراً على الشعب والأمة ووسيلة للابتزاز والنهب.

لم تستطع الانتفاضات العربية تحقيق رغبات المنتفضين وقلب الأنظمة أو على الأقل إصلاحها وتحويلها إلى أنظمة ديموقراطية وعادلة تحقق المساواة بين مواطنيها ومشاركتهم بالثروة والسلطة، أي لم تستطع تحقيق التغييرات الجذرية المطلوبة، وذلك لنقص استكمال شروط الثورة وضعف التنظيمات الجماهيرية وغياب القيادات السياسية المعارضة ذات الخبرة والتجربة القادرة على تولي القيادة بسبب قمعها من قبل أنظمتها وملاحقتها طوال عشرات السنين. لكن الانتفاصات هذه كشفت بوضوح وأكدت فساد أهل الأنظمة والمهيمنين على السلطات التي كانت قائمة. فقد تبين أن أهل السلطة هؤلاء في البلدان العربية هم أكبر الناهبين لأموال الشعب. فالرئيس زين العابدين بن علي مثلاً وزوجته وأهل زوجته وأقرباؤه كانوا يسطون على مال الشعب ويصادرون ما يريدون من دون رقيب أو رادع، ويودعون الأموال التي يسرقونها في البنوك الخارجية. وتبين مثلاً أن الرئيس القذافي وأبناءه وأقرباءه وبعض شركائه في السلطة سطوا على أموال الليبيين ونهبوا عشرات مليارات الدولارات التي أودعت في بنوك واستثمارات خارجية ولا أحد يعرف مصيرها كلها حتى الآن، أو على الأقل لا أحد يعرف مقدارها. وهذا ما تكرر في مصر حيث ثروة أبناء الرئيس السابق وقياديي الحزب الوطني وبعض الفاسدين المفسدين المقربين من السلطة تجاوزت عشرات المليارات. كما أن ثروة الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح قدرت بعشرات مليارات الدولارات نهبها من أموال الشعب اليمني، فيما يقال إن ثروات بعض المتنفذين السوريين من الشركاء في السلطة أو المقربين منها بلغت مبلغاً مماثلاً. وفي الخلاصة، كشفت الانتفاضات أن الأنظمة القائمة في هذه البلدان هي أنظمة يديرها السارقون والأغنياء الجدد والفاسدون على حساب شعوبهم الفقيرة الجائعة. ولعل هذه الاكتشافات وحدها (أي كشف السارقين وناهبي أموال الشعب) كافية لتبرير قيامها. هذا إضافة إلى فضح الانتفاضات، القمع ووسائله، وأعداد المناضلين الذين قتلوا تحت التعذيب، والتضييق على القضاء، وإفساد الحياة العامة وغير ذلك.

كان من البديهي، والحال هذه، أن تشن بقايا الأنظمة المنهارة، والطبقات المتضررة، والشرائح الاجتماعية الخاسرة، هجوماً على هذه الانتفاضات وتحاول تضخيم سلبياتها وأخطائها وتحميلها صعوبات الانتقال والتغيير، ونتائج عنف الأنظمة وصلفها واستماتتها للبقاء في السلطة، وتتجاهل هذه الجهات أو تجهل أن التحولات الكبرى في تاريخ الشعوب تحمل في طياتها آلاماً كبرى أيضاً وتحتاج لسنوات طويلة حتى يستقيم أمر المجتمعات الجديدة واستقرار نظم سياسية جديدة لها، خاصة في هذا العصر، أعني عصر العولمة الذي تتداخل فيه السياسة العالمية ويؤثر بعضها في البعض الآخر، ويستحيل معها أن يتخذ مجتمع قراراً مستقلاً من دون أخذ الظروف الإقليمية والدولية بعين الاعتبار.

مهما بُذلت من جهود لإجهاض الانتفاضات العربية، فإن هذه نجحت في تحقيق بعض المنجزات التي أقلها كشف سرقات وفساد وقمع الأنظمة التي قامت ضدها، وتعرية الدولة الأمنية وظلمها الواقع على الشعب. ومهما فشلت هذه الانتفاضات في إقامة مجتمعات وأنظمة أخرى أكثر عدلاً وشفافية، فإن ذلك لا يلغي أنها نجحت في كشف الأخطاء والكوارث التي سببتها الأنظمة العربية الشمولية، وأساليب الخداع التي مارستها، خاصة لناحية الزعم بأنها معادية للإمبريالية والصهيونية والتدخل الأجنبي، فيما هي ليست في الواقع إلا سلطات قمعية تسعى جاهدة لحكم الناس ونهب ثرواتهم.

السفير

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى