صبحي حديديصفحات مميزة

الانتفاضة السورية: مكتوفة في اليمّ.. ممنوعة من البلل!


صبحي حديدي

أصدقاء الشعب السوري ـ ونقصد الخلّص منهم، وليس المخادعين المنافقين الكذبة ـ صاروا اليوم يستشعرون من المخاطر على مآلات الانتفاضة، إذْ توشك على إتمام سنة من عمرها، أكثر ممّا كانت عليه مخاوفهم في الأشهر الأولى.

وثمة، في تسعة أعشار ما يسوقونه من لائحة أخطاء أو عثرات أو حتى انحرافات، بعض صواب المنطق السليم؛ الذي، في المقابل، لا يظلّ سليماً تماماً إلا إذا خضع لتمحيص جدلي لكلّ تفصيل في بنود اللائحة، بحيث يتحقق الحدّ الأدنى من ميزان الإنصاف: ما للانتفاضة، وما عليها، سواء بسواء. وليست مفارقة، لأنها أصلاً روح التوازن الجدلي وفضيلته الكبرى، أنّ بعض ما يُساق على سبيل ملامة الانتفاضة، يمكن في مستوى آخر من النقاش أن ينقلب إلى مديح لها؛ والعكس قابل، أيضاً، للتحقق والصلاحية.

الانطباع الأبرز، والأكثر شيوعاً في الواقع، حتى إذا كان التصريح عن محتواه الفعلي مدعاة حرج أو تهرّب أو نفي، هو ذاك الذي يريد من الانتفاضة أن تكون مثالاً رفيعاً أعلى يندر أن عرفه التاريخ، أو لعلّه الأمثولة النضالية والأخلاقية والسياسية والاجتماعية والثقافية… التي لم تعرفها أمّة من الأمم، ويتوجّب على الشعب السوري أن يجترحها اليوم، وأن يدخل بها التاريخ من أوسع أبوابه (من أشدّها دموية وهمجية وعنفاً وجريمة، أيضاً!). لا أحد، بالطبع، سيقرّ بأنّ هذا هو مطلبه من الانتفاضة السورية، إذْ من الجليّ أنّ الأمر سيبدو أشبه بطلب المستحيل، وهنا وجه الحرج؛ أو حتى طلب مستحيلٍ مفصّل تفصيلاً، على قياس الأماني والآمال، وليس استناداً إلى الواقع الفعلي على الأرض، وهنا وجه التهرّب من التصريح، أو نفيه من الأساس.

بيد أنّ الانتفاضة فعل شعبي معقد، أكثر بكثير مما يظنّ الأصدقاء، وأشدّ انطواء على سيرورات شتى مركبة، لا ينفع معها تطبيق أيّ مبدأ مانوي، لا يرى سوى الأبيض أو الأسود، السلمية أو العسكرة، الاستقلال عن القوى الخارجية أو الارتهان لها، والتمسك بسراط الوحدة الوطنية أو الانحراف نحو تخندقات طائفية أو دينية أو إثنية أو مناطقية. ولأنها فعل شعبي معقد، فهي بالتالي فعل اجتماعي بامتياز، تتجاوز تعقيداته كلّ، وأية، ‘خطاطة’ مثالية تمّت تنقيتها من الأوشاب جميعها؛ كما يجوز القول إنها فعل يمكن أن ينقض، في كثير أو قليل، أية ‘وصفة’ مسبقة الصنع، مسبقة التصوّر، مسبقة التخيّل، خالية تماماً من العثرات والأخطاء والانحرافات. هذه انتفاضة بنت الطوبى وليست بنت الواقع في أية حال، وطوباويتها ليست عصية على الانكشاف خلال برهة وجيزة، واختبارات بسيطة؛ فكيف إذا اختُبرت طيلة سنة كاملة، وكيف إذا استُخدمت في الاختبار كلّ صنوف الأسلحة، من الدبابة إلى الحوامة فالقاذفة والزورق الحربي، مروراً براجمة الصواريخ والمدفعية الثقيلة والقنابل الانشطارية والمسمارية والغازات المحرّمة دولياً؟

كذلك فإنّ الانتفاضة، بوصفها فعلاً شعبياً اجتماعياً، على وجه الدقة، ليست ثمرة توافق مطلق في المصالح والغايات والأساليب والعقائد، حتى إذا كانت شعاراتها الأبرز (إسقاط النظام، بعد الاقتناع نهائياً بأنّ المركّب الأمني ـ العسكري ـ الاستثماري الحاكم ليس راغباً في الإصلاح الحقيقي، وليس قادراً عليه أصلاً؛ والتطلع إلى سورية حرّة ديمقراطية تعددية مدنية، لكلّ أبنائها، على اختلاف انتماءاتهم العقائدية أو الدينية أو الإثنية)، تحظى بإجماع شبه مطلق. ولهذا فإنّ التظاهرة الواحدة يمكن أن تضمّ اليساري واليميني والإسلامي والمسيحي والليبرالي؛ المسيّس المنتمي مثل المستقلّ الوافد حديثاً إلى السياسة؛ المعتدل أو المتشدد أو الوسطي، المؤمن بسلمية الانتفاضة، مثل ذاك المطالب بحرب العصابات؛ والمقتنع بأنّ الولايات المتحدة تتآمر علينا، مثل ذاك الذي يعتبرها خشبة نجاة…

هذا هو مجتمع الانتفاضة الفعلي، ولا تنفع أية كيمياء طوباوية في تنقيته إلى صبغة واحدة (بافتراض أنّ التاريخ نجح، ذات يوم، في ابتكار تلك الكيمياء!)؛ كما لا يجوز فرزه إلى سلسلة ‘ألوان’، طاغية غامقة هنا، أو كامدة فاتحة هناك؛ على نحو يختزل الزخم الشعبي المعقد ـ والمركّب جداً، كما يتوجب التشديد دائماً ـ إلى ‘فئات’ و’شوارع’ و’أطراف’… يخضع، كلّ منها، للقاعدة المانوية ذاتها، التي تضع الأبيض على نقيض الأسود، والمؤمن بسلمية الانتفاضة في وجه حامل الكلاشنيكوف. وسواء كان هذا على خطأ، أو ذاك على صواب، أو العكس، أو كانت معادلة الاتفاق أو الاختلاف في منزلة بين منزلتين، فإنّ القواعد المانوية هي أسوأ معايير وزن الوطنية عند زيد أو عمرو، وأقلّها اكتراثاً بروح الجدل، خاصة إذا نُظر إلى الانتفاضة على نحو مجرّد تماماً، بمعزل عن الزمن وتحولاته، ودون وضع سياسات النظام الدفاعية في قلب المعادلة، وفي كفّة الميزان.

مَنْ، بين أصدقاء الانتفاضة المتخوفين اليوم من تطوراتها، ينكر أن لجوء البعض إلى حمل السلاح، ودفع أثمان باهظة لشرائه (الطلقة تكلف 180 ليرة سورية، فما بالك بالبندقية أو المسدس)، إنما يتمّ على سبيل الدفاع عن النفس، وعن العرض والأطفال والنساء والشيوخ، وليس لقتال مجرمي الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري؟ ومَن الذي يتجاسر فيمنح نفسه رفاه وعظ البشر بأن لا يدافعوا عن أنفسهم، ضدّ بغاة همج وحوش كاسرة، بوسائل أخرى غير الصدور العارية، والهتافات الوطنية، والشعارات السلمية؟ ومنذا الذي يتناسى أنّ هذا الخيار لم يولد مع الانتفاضة، ساعة انطلاقتها، بل كان نتيجة منطقية لتغوّل النظام، وانتقاله (المنهجي، المنظّم، والمخطط له) من معدلّ عشرة شهداء في اليوم، إلى عشرين، فثلاثين، فأربعين… وصولاً إلى تخطي رقم الـ100 والـ200 والـ300؟

وفي الأصل، ألم يكن دفع الانتفاضة السلمية إلى هذا الشكل أو ذاك من التسلح، هو أحد الخيارات الدفاعية للنظام، على المستوى الستراتيجي وليس التكتيكي؛ لكي يثبت نظريته حول ‘العصابات المسلحة’، ولكي يُرعب الغرب من مستقبل التغيير الديمقراطي؟

والعنف المضادّ، حتى بالمعنى الذي تناوله مناضل منظّر مثل فرانز فانون بصدد حرب التحرير في الجزائر، هل هو خيار أحادي الجانب، تلجأ إليه حركات المقاومة الشعبية مباشرة، وليس على سبيل إقامة توازن ـ عسكري أيضاً، مثل ذاك السياسي ـ مع الطغمة الدكتاتورية؟ صحيح أنّ المرء كان يتمنى لو لم يذهب النظام إلى تلك المرحلة الوحشية من استخدام العنف، وبالتالي لم يُجبر البعض على حمل السلاح دفاعاً عن النفس؛ ولكن كيف يمكن لأي ضمير أن يُلقي بالمواطن السوري الأعزل في اليمّ، مكتوفاً، وأن يطلب منه أن لا يبتلّ بالماء؟ وهل البلل هنا، في محصلته المنطقية الصرفة، حيث لا يملك المكتوف حولاً ولا طولاً، بمثابة انحراف عن أخلاق… السباحة؟

إلى جانب مسائل العسكرة والتسلح، يثير الكثيرون من أصدقاء الانتفاضة مشكلة تشرذم المعارضة السورية، بما يوحي أنها لو توحدت فإنّ النظام سيضعف أكثر، أو تخور قواه؛ وأنّ الانتفاضة، في المقابل، سوف يشتدّ عودها، وترتقي، وتتقدّم أكثر في برامجها السياسية والنضالية. صحيح، في القياس المنطقي المبسط، أنّ الوحدة خير من الانقسام، ولكن هل كانت المعارضة/ المعارضات السورية هي مُطْلِقة الانتفاضة في المقام الأوّل، لكي تنقلب إلى رافعة لها اليوم؟

وهل قيادة الانتفاضة الفعلية هي المجلس الوطني السوري، بمحاسنه ومساوئه، سواء على مستوى هيئاته، أم على مستوى الأفراد فيه، وخاصة ‘نجوم’ الفضائيات وفرسان معارك الديكة واختيال الطواويس؟

الجواب هو النفي، بالطبع، وغالبية المعارضين هرولوا خلف الانتفاضة عند انطلاقتها، فمنهم من لحق بها وانضمّ إلى ركبها، صادقاً أو كاذباً؛ ومنهم من تعثر، أو تقطعت به السبل، فتخلّف، ولكنه ركب الموجة مع ذلك، لأنه رفض أن يقرّ بعجزه.

ثمّ، في جانب آخر جدلي بدوره، لماذا يتوجب أن تتوحد المعارضة/ المعارضات بالمعنى التنظيمي والمؤسساتي، فتتطابق أساليب عملها، وتتماثل خياراتها التكتيكية، وتتوحد مواقفها… إذا كانت لتوّها متفقة ـ إنْ صدقت، بالطبع ـ حول ضرورة التغيير الديمقراطي، سواء عن طريق إسقاط النظام، أو سقوطه من تلقاء ذاته؟ وما الفارق، في نهاية المطاف الفعلي، بين مجموعة معارضة مقرّبة من تركيا، أو الولايات المتحدة، أو فرنسا، أو بريطانيا؛ وأخرى مقرّبة من إيران، أو روسيا، أو الصين؟ ومتى كان لهذا التقرّب، على الجانبين، أثر فعلي مباشر في ضبط إيقاع الحراك الشعبي عند ذراه الكبرى، كما حين تظاهر ستة ملايين سوري في نهار واحد، ذات يوم غير بعيد؟ هنا، أيضاً، يُراد للانتفاضة السورية أن تكون صافية نقية طاهرة، تقول ـ بصوت واحد موحد متحد، كأنه ببغاء ـ لا لأمريكا! لا لروسيا! لا لإيران! لا لمجلس الأمن الدولي! لا للجامعة العربية!

المجتمع ليس هكذا، غني عن القول، والسياسة أبعد ما تكون عن هذه الطهارة الزائفة، والتعددية الواسعة التي تميّز الحراك الشعبي تنتج بدورها تعددية واسعة في الأهداف والرؤى والأساليب، حيث يمكن للمصالح أن تتقاطع، وللعقائد أن تتنازع. هذه هي سنّة الحياة، وليس أهل الانتفاضة أقلّ ذكاء من أهل النظام في استيعاب طبائع الاتفاق والاختلاف، وحسن استغلالها، واستثمارها؛ وكذلك، وهو الأهمّ ربما، اختبارها على الأرض فعلياً، في غمرة التضحيات الجسام والشهداء الذين يتقاطرون بالعشرات، كلّ يوم.

السلاح معضلة، والتجييش الطائفي والتخويف من الحرب الأهلية معضلة أخرى، وهزال الهيئات التي تزعم القيادة معضلة ثالثة، وتعليق الآمال على أعداء النظام اليوم/ أصدقائه حتى الأمس القريب معضلة رابعة، وموقع سورية الجيو ـ سياسي الخاصّ والحساس معضلة خامسة… ولكن، مَنْ كان ينتظر لانتفاضة في هذا البلد بالذات، ضدّ هذا النظام تحديداً، وسط هذه التعقيدات كلها، أن تسير كما السكين في قالب زبدة؟

تبقى تذكرة بسيطة بأنّ الذين اعتصموا أمام السفارة الليبية في دمشق، قبل سنة ونيف، ثمّ تظاهروا من قلب المسجد الأموي، قبل أن تعمّد درعا الانتفاضة بدماء أولى الشهداء، ويواصلون الانتصار على آلة النظام في كلّ دقيقة، وليس ساعة بساعة… هؤلاء انتفضوا قبل تشكيل المجلس الوطني، وقبل سفسطة لاءات هيئة التنسيق، واختلاط حابل المعارضات الخارجية بنابل استطالاتها لدى المعارضات الداخلية، وتعاظم النقيق والنعيب والنعيق حول ‘توسطات’ السياسة و’إصلاح’ النظام دون تقويض أركانه، والفوارق بين ‘التفاوض’ و’الحوار’، و’طائفية’ الجيش الحرّ، وصيانة ‘سيادة’ الدولة…

هو زبد يذهب جفاء كلّ يوم، لانّ دماء الشهداء أثقل وزناً، وأبلغ رسالة، وأبعد أثراً؛ وجدير بأصدقاء الانتفاضة السورية أنّ يتبصروا ما الذي يتبقى لينفع السوريين في الأرض… وفي الجوار، طولاً وعرضاً، أيضاً!

‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى