جورج كتنصفحات سورية

الانتفاضة والنظام السوري -الحيطي!-

جورج كتن

اندلاع الاحتجاجات الشعبية في سوريا وتحولها لانتفاضة مستمرة ضد النظام الاستبدادي مفاجأة غير متوقعة للمنخرطين والمهتمين بالشأن السوري من نظام ومعارضة ومحللين محليين ودوليين، وهي مفاجأة الشعب لنفسه بعد طول سبات حتى لقبت سوريا بمملكة الصمت وجمهورية الخوف.

إلا ان الانتفاضة ليست معجزة إلهية غير قابلة للتفسير والبحث عن أسبابها وخلفياتها، فالمعاناة الشعبية قديمة من نظام انتهك طوال عقود الدستور والقوانين وشرائع حقوق الانسان العالمية، وأذاق المواطن السوري الإذلال وأرجعه لحياة القطيع، تسوقه أجهزة أمنية تحفظ امن النظام ودوامه، وليس امن الوطن ومواطنيه، حرة التصرف في شؤونه بأوجهها المختلفة، معفاة من أية محاسبة أو عقاب لارتكابها جرائم ضد من تجرأ على انتقاد الاستبداد والفساد المعمم، الذي أوهن نفسية الأمة بعكس ما يدعيه النظام من أن حرية الرأي هي التي توهنها.

لا أحد من المتابعين كان يستبعد الانتفاضة خلال سنوات قادمة تقصر او تطول ولكن ما جعلها مبكرة عوامل عديدة متضافرة أهمها أن العالم تغير، حيث لم يعد هنالك مهرب من استحقاق الديمقراطية والحريات، ودول مجاورة انتفضت شعوبها وانهارت أنظمتها، وعالم جديد جعل الفضائيات ووسائل الاتصال الحديثة في متناول الجميع، وأجيال شابة امتلكت ناصية هذه الوسائل ووعت ما يحدث في العالم والجوار وتجاوزت الخطاب التقليدي لنخب معارضة غير مواكبة للعصر، ويئست من اي تغيير يقوم به نظام كرر الحديث عن إصلاحات دون تطبيق، واستمر في اعتماد الحل الأمني لمواجهة محاولات مهما كانت محدودة تطالب بتغيير أي من الشؤون العامة.

نظام يمكن أن يوصف بأنه “حيطي”، أي لا يمكن التفاهم معه. وضع رأسه في الرمال نافياً أي تغيير في العالم أو الجوار، ما زال يعيش أجواء الحرب الباردة وشعاراتها الصاخبة حول “المؤامرات الامبريالية” التي تستهدفه!؟، ناشراً الأوهام حول أنه “المقاتل!؟” الاخير في مواجهة طواحين الهواء العالمية، والبديل عن كل البلدان العربية “المتخاذلة” حسب وصفه. وإذا كانت السنين الاولى التي تلت استيلاء حزب البعث على السلطة بانقلاب عسكري قد بررت لبعض مناصريه احتفاظه بها لأهدافه المعلنة “الوحدة والحرية والاشتراكية”، فإنه بعد تآكل هذه الشعارات التي مسح بها الأرض، تحولت قياداته مع الزمن إلى مافيا سياسية تهيمن على البلد لتبقيه “بقرة حلابة” لاستدرار الثروات للطبقة الحاكمة.

التغيير الوحيد الحاصل هو استبدال الايديولوجيا “القومية الاشتراكية” السابقة بأيديولوجيا جديدة حول “الممانعة والمقاومة”، كغطاء وتبرير لاستمرار حكم المافيا. الايديولوجيا الجديدة تآكلت بسرعة، إذ لم يعد سوى قلة تصدقها داخل أو خارج سوريا، واستقرار الحدود مع إسرائيل المحتلة للجولان يفقأ العين طوال 38 عاماً، مما يؤكد ما ذهب إليه مؤخراً أحد أقطاب النظام من أن “استقرار إسرائيل هو من استقرار النظام!”.

الايديولوجيا التي تبدلت شعاراتها لم تتغير وسائلها، اجهزة قمعية تبث الخوف في أوساط المواطنين، فرق عسكرية منتقاة من الموالين، تنظيمات سرية مكلفة بمهمات خاصة منها إغتيالات في الداخل والجوار، هيمنة على مفاصل المجتمع من نقابات واتحادات وجامعات ومدارس وقطاع عام وخاص وإعلام وتقافة وقضاء .. مسخرة لخدمة النظام الحاكم، وسياسة خارجية تمسك بأوراق للمساومة لحماية النظام أو زيادة نفوذه وثروات أفراده. فقد تم بيع الورقة الأوجلانية مقابل مصالح سياسية واقتصادية مع تركيا. كما تم التخلي عن الورقة العراقية بوقف الدعم اللوجستي الخفي لمنظمات الإرهاب العراقية مقابل انهاء العزلة الدولية للنظام وتحسين علاقاته بأميركا والغرب. ويمكن التخلي حالياً عن الورقة اللبنانية أو الفلسطينية مقابل ضمانات لبقائه، هذا إذا بقيت أوراق بعد التغييرات العاصفة في المنطقة، إذ أن الورقة الحماسية بدأت الطيران خارج السرب.

ربما لم يبق للنظام من حليف اكيد سوى شبيهه الإيراني وحزبه اللبناني، فالنظامان “ارجلهما في الفلقة” بعد الانتفاضة الأخيرة المليونية للشعب الايراني، وانتفاضة الشعب السوري التي يواجهها النظام وظهره للحائط بعد ان قطع كل إمكانية لمصالحة أو حوار أو تغيير. فهو يفتقد أية قابلية للتلاؤم مع الأوضاع الجديدة ويتعارض مع المسيرة الإنسانية المعاصرة المتجهة لتوفير الديمقراطية وحقوق الإنسان في كل مكان من العالم.

لم يفهم النظام “الحيطي” بعد أنه يواجه حالياً غالبية الشعب وليس نخب معارضة محدودة كما في السابق. لقد وصل إلى أعلى درجة من القمع يستطيعها، فالإبادة الجماعية على غرار ما حدث في حماة منذ ثلاثين عاماً، غير واردة في عالم جديد لم يعد يسمح لنظام استبدادي بأن يفعل بشعبه ما يشاء بحجة عدم التدخل بشؤونه الداخلية. الإبادة الجماعية ليست شأناً داخلياً في الشرعة الدولية الراهنة، فهناك مجتمع دولي ومجلس امن ومادة سابعة ومحكمة جنايات دولية وعقوبات سياسية واقتصادية، لا يمكن الاستهانة بما توفره من حماية للشعب.

المعادلة بين النظام القمعي والشعب المنتفض تحكمها خاصة ظاهرة الخوف، فقد كسر الشعب حاجزه واطلق انتفاضته المستمرة منذ تسع أسابيع، فووجه بالقتل والرصاص والدبابات وحصار المدن والبلدات والاحياء وعقابها جماعياً بقطع وسائل الحياة والاتصال عنها وتمشيط منازلها ونهبها وإذلال سكانها واعتقالهم وتعذيبهم دون تمييز، في محاولة لإعادة حاجز الخوف المنهار باستخدام جرعة أكبر من القمع، وهي وسيلة تبدو حتى الآن ضعيفة التأثير لم تمنع استمرار الانتفاضة بطرق مختلفة، وجرأة الناس على الانتفاض ترتفع مع المزيد من العنف الذي يولد اعتياداً على اجوائه. مثل هذه الوسائل غير مجدية، إذ حتى لو توقفت الانتفاضة لفترة فستعود لتندلع في مرحلة لاحقة، فالعنف المستخدم يعيق مؤقتاً فعل مسببات الانتفاض ولكن لا ينهي تأثيرها. المواجهة كسر عظم وتجارب التاريخ أثبتت أن الشعوب تنتصر في النهاية.

لقد حققت الانتفاضة حتى الآن خطوات مهمة بالإضافة لكسر حاجز الخوف، عودة الشعب السوري للفعل السياسي فقد بلغ “سن الرشد” حسب تعبير المناضل رياض الترك، الذي رأى قبل اندلاع الانتفاضة بأيام أن “الخوف غير وجهته من طرف الشعب إلى طرف السلطة”.. انتهى عهد تهميش الشعب واعتباره قاصراً تقرر شؤونه طغمة، فقد ابدت الغالبية شجاعة وإصراراً على تقرير مصيرها واسلوب حياتها بنفسها وعدم تركها لأي فرد أو مجموعة، وأظهرت الاستعداد للتضحية بالحياة إن كان ذلك ضرورياً للحصول على حرياتها التي هدرت منذ نصف قرن. كما باتت الغالبية واعية لأولوية الديمقراطية على اي شيء آخر، وأنها الطريق المضمون للحداثة والتنمية والحفاظ على الاستقلال واستعادة الأراضي المحتلة، متجاوزة بعض اطراف المعارضة التقليدية، التي لا تزال تظن أن هناك “خندقاً للمقاومة والصمود؟” يمكن أن يجمعها مع النظام. المعارضة الحقيقية التي ناضلت لعقود تحضيراً لانتفاضة الحرية هي التي تسعى حالياً للاندماج في الحركة الشعبية لتتعلم السياسة من جديد في مدرستها، فلا تتعالى على التعبيرات الشعبية الراهنة.

ما زال ضروريا من أجل تغيير ديمقراطي كسب قطاعات الشعب الحيادية، منها بسبب الخوف مما سيأتي به المستقبل من أثر على نمط حياتها، وأخرى تستمر في إظهار موالاتها للنظام خوفاً من بطشه، أو أنها مستفيدة من بقائه وتخشى الانتقام عند زواله، أو بعض المثقفين “الانقياء؟” الذين تؤرق مشاعرهم “الحساسة” بعض الشعارات المتطرفة المحدودة الانتشار غير الممثلة لمجمل الانتفاضة، وكذلك بعض محبذي “الاستقرار” ولو على خازوق الاستبداد. وربما أن بعض البورجوازية التجارية والصناعية المدجنة المتحالفة مع النظام، تخشى ان تفقد وضعها المميز في حال انهياره.

تحقيق تقدم في كسب الفئات المترددة او الحيادية وحتى بعض الموالية يفترض عدم تنظيم قوائم “عار” تثبت المترددين ولا تشجعهم على الإنشقاق، مما يؤخر تفكك النظام كشرط لانهياره. الفئات المترددة يجب أن تفهم أن النظام أمام مفترق طرق، لكن هناك طريقين سالكين امامه: إما نهاية مباشرة بموافقته على التنحي عن السلطة بأقل الخسائر الممكنة له وللشعب، أو نهاية مؤجلة إلى حين في غرفة إنعاش القمع الدموي ولكن بخسائر أكبر للجميع في المحصلة النهائية.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى