سلام الكواكبيصفحات سورية

الانتقام من الماضي/ سلام الكواكبي

 

 

يتساءل بعض القلقين على مستقبل أوروبا، هذا الحلم الاقتصادي الذي توسع ليصبح سياسياً، عن نجاعة الانفتاح الذي تم من خلاله ضمّ دول شرق القارة الأوروبية، خصوصاً التي نجحت في التخلّص من السيطرة السوفييتية، بعد انهيار اتحادها كقصر من ورق. وتكثر المؤشرات على انقسام واضح بين دول غرب أوروبا والدول القابعة في مشرقها، أو حتى في وسطها، من خلال عدة بنود سياسية واقتصادية كما أخلاقية.

حيث يتحالف اليمين المتطرّف المجري مع مثيله البولندي في معاداة السياسات الأوروبية الداخلية، كما الخارجية. وقد كانت القمة التي جمعت في بداية هذا العام رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان ومثله الأعلى جاروزلو كازينسكي، زعيم حزب “الحق والعدالة” المنتخب في أكتوبر/ تشرين أول الماضي على رأس الحكومة البولندية، مؤشراً أساسياً لبلورة هذا التناقض البنيوي في النظر إلى المسألة السياسية. وقد اختار الزعيمان المتطرّفان مكاناً رمزياً لقمتهما هذه على نقطة حدود، في مؤشّر إلى أهمية هذا البعد “الحدودي”، والذي بنيا على تعزيزه كل خطاباتهما الانتخابية القائمة على التخويف من انهيار هذه الحدود وزوالها.

وعلى الرغم من أن حزب فيكتور أوربان اليميني ينتمي، نظرياً، إلى مجموعة الأحزاب الديمقراطية المسيحية في البرلمان الأوروبي، إلا أنه يتجاوز اليمينية الوسطية التي يتحلّى بها مجمل أفراد المجموعة، ليقع في تصنيفات التطرّف، بمقاييسه الشعبوية والمعادية للأجانب، إضافة إلى مواقفه شديدة المحافظة، وذات الحمولة السيادية السمجة. وهو، منذ عام، يرفع من جرعة مزاوداته المستمرة على من هم في أقصى يمينه، كالوطنيين الذين وصلوا، في تطرّفهم، إلى حد أن اليمين المتطرف الفرنسي، ممثلاً بالجبهة الوطنية، يعتبر أنهم غير قابلين للمعاشرة.

لقد أضحت المنافسة الداخلية سياسياً في بعض دول شرق أوروبا، كالمجر وبولندا، محصورة بين اليمين وأقصى اليمين. وإذا حللنا خطاب هذا اليمين، من منظور أوروبي ديمقراطي المرجعية، نجده يتموقع في أقصاه، فما بالنا إنْ عرّجنا على خطاب أقصى اليمين في عرفهم؟ سنجد ما يتجاوز الفكر النازي، كما العقيدة الفاشية، بمراحل، مع إسقاطاتٍ تعتمد على عودة المسألة الدينية للظهور مسيحياً، تأثراً بالأحداث العالمية التي تعتمد التطرّف الديني إسلامياً كمرجعية. وكنموذج لمزاودات هذا اليمين “الوسطي”، مجرياً وبولندياً، يجري اتهام المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، باتباع سياسات يسارية، خصوصاً في ما يتعلق بانفتاحها بخصوص مسألة اللاجئين. وهما اللذان يعتبران صراحةً، كما العديد من نظرائهم مواربةً، بأن فتح حدودهما لموجات اللاجئين، وبعيداً قبل اتفاق العار الأوروبي ـ التركي، هو من الأمور غير القابلة للتصور حتى.

على الرغم من ذلك، هناك ما يُفرّق الحليفين الجديدين، أوربان وكازينسكي، وهو الموقف من روسيا وقيادتها. فالأول الذي يُعجب، أيما إعجاب، بفلاديمير بوتين، ويحاول تقليده مع جرعاتٍ عنفية أقل، لا يلتقي مع كراهية الثاني للمذكور التي تصل إلى حد اتهامه بالمسؤولية عن مقتل شقيقه في حادثة طيارة قبل سنوات.

وإن وجد هذان الزعيمان اليمينيان في دولة ديمقراطية غربية، لتم تصنيفهما، بدون أي تردّد،

“السياسات المنعزلة لدول شرق أوروبا مسمار جديد يُدق في فراش مرض الاتحاد الأوروبي” جماعات متطرفة، ولتم إخضاعهما إلى رقابةٍ حثيثةٍ من مؤسسات الدولة المعنية باحترام المبادئ الحقوقية الأساسية، والحفاظ على دولة القانون. فحكومتاهما قامتا بتقليص الحريات الإعلامية، وأشرفتا بشكل منهجي على الحد من استقلال السلطة القضائية، والقيام بتعيينات سياسية في المحكمة العليا، كما أنهما مارستا رقابة صارمة على السلطة المالية، من خلال تعزيز الإشراف على المصرف المركزي في بلديهما، بعيداً عن المفاهيم الليبرالية القائمة في أوروبا.

واللافت أن الحس “الوطني” المتطرّف لدى هذه الفئة من الزعامات والأحزاب السياسية ظهر إلى العلن، بعد مرور ما يقارب السنوات العشر على انخراط بلدانهم في الاتحاد الأوروبي. ومؤكد أنه لم يكن لبلديهما الحصول على هذه العضوية، إنْ كانت براعم هذا التوجه قد برزت حينذاك. وصار من الصعب أن تمارس عليهما تهديدات بالفصل، مع أن مؤسسات الاتحاد تتدارس جديّاً إمكانات فرض عقوبات محدودة بحقهما.

السياسات المنعزلة لدول شرق أوروبا، والمُمعنة في “وطنيتها” وتبنيها مفاهيم محافظة ومعايير سيادية متطرفة، لا يمكن أن تكون إلا مسماراً جديداً يُدق في فراش مرض الاتحاد الأوروبي، بأبعاده المتشابكة. فهي دولٌ تحمل ثقافةً سياسيةً بعيدةً جداً عن الاندماج الأوروبي في أدنى مقاييسه. وهذا ناجم جزئياً، ولكن بشكل كبير التأثير، عن سنوات الدكتاتورية النسبية التي عاشتها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، حتى تحرّرها من الهيمنة السوفييتية في تسعينيات القرن الماضي. كان التطور السياسي الذي تم إثرها قصير المدة، ومبنياً أساساً على عقيدة الانتقام من الماضي، أكثر من استناده إلى السعي إلى تطوير المستقبل، فالتركة السوفييتية، إدارةً وسياسةً، دفعت بهم إلى التطرف نحو اليمين بأبعاده كافة، وخصوصاً في البعد الخارجي. فكما كانت حكومات هذه الدول فيما سبق “تحرّرها” تدّعي نصرة قضايا الشعوب النامية، وحركات التحرّر الوطني في أصقاع الأرض، جاءت الحكومات الجديدة برد فعلي معاكس، دفعها إلى أن تكون أكثر الحكومات قرباً من السياسات التي ينجم عنها إقصاء قضايا العالم الثالث من المعالجة العادلة، وليست قضية الهجرة نهايتها.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى