محمد تركي الربيعومراجعات كتب

الانتهاك الصامت للحياة اليومية والتحولات السياسية»: هل من علاقة حتمية؟/ محمد تركي الربيعو

 

 

في كتاب «الحياة سياسة: كيف يغير بسطاء الناس الشرق الأوسط»، يبين لنا آصف بيات كيف أن حرمان الناس العاديين، فقراء وشبابا ونساء من الوسائل السياسية للتغيير الاجتماعي والاقتصادي داخل المجال العام، كالقدرة الانتخابية والتعبير عن المطامح السياسية وغيرها، يدفع هذه الفئات إلى انتهاج أساليب مقاومة بديلة للتعبير عن عدم الرضا والرغبة بالتغيير، من خلال «الانتهاك الصامت لكل ما هو معتاد» من قواعد اجتماعية وأخلاقية فرضتها السلطة بمعناها الأوسع، الذي يظهر في أشكال مختلفة من مشي وتسكع و»تفحيط» أثناء قيادة السيارات، إلى ارتداء سراويل الجينز والحجاب الجديد أثناء قيادة السيارات وتجارة التجزئة (الباعة الذين يحتلون بعض الأرصفة العامة ببضائعهم) وغيرها الكثير. ومن خلال هذه الانتهاكات وتكرارها تشكل هذه الفئات هويات جديدة وصورا من التضامن غير مرتبطة ببعد أيديولوجي معين. كما أنها تساهم في اختراق القواعد العامة التي رسمتها السلطة وتحالفاتها داخل المجال العام.

ولعل ما يميز هذه «اللاحركات الاجتماعية» كما نعتها بيات ميلها إلى أن تتوجه بالفعل وليس بالتنظير، ولذلك فإن طابع الانتهاك لديها لا يُرصد عبر تحولات على مستوى الخطاب، بل عبر فعل انتهاكي ينتج تأثيرات على مستوى المعايير والقواعد العامة للسلوك الاجتماعي أو التنظيمي داخل المجتمع، وكواحد من الأمثلة العديدة التي رصدها بيات؛ ظاهرة انتهاك النساء الإيرانيات للسياسات الجسدية/الدينية داخل شوارع طهران. إذ سعت النساء مع انتهاء فترة الحرب العراقية الإيرانية، وفشل المشروع الإسلامي الإيراني على المستوى اليومي، إلى إجراء تحولات جوهرية وكسر التمايزات الجندرية من خلال انتهاك قواعد «الجسد الإيراني المتخيل» الذي سعت السلطات الإيرانية إلى فرضه بعيد الثورة الإيرانية 1979.

ورغم إشارات بيات العديدة إلى أن هذا الفعل المقاوم داخل المجال العام الإيراني لا يعني بتاتاً حتمية تحول هذا الفعل الانتهاكي إلى فعل سياسي، إلا أنه وفي ظل الاندفاع إلى تفسير الانتفاضات التي شهدتها المنطقة منذ عام 2009 (ما عرف بالثورة الخضراء في إيران)، وفي بعض مدن العالم العربي، سرعان ما فسر بعض الباحثين (ومن بينهم كاتب هذا المقال) رؤية بيات وغيرها من التحليلات والدراسات الإثنوغرافية الساعية إلى رصد مظاهر الانتهاك اليومية، بوصفها كانت سباقة وكاشفة عن حالة كمون سياسي وليس انتهاكيا فحسب، كما اقتنعوا بأن هذه المظاهر هي التي كانت بمثابة الشرارات الأولى لما شهدناه لاحقاً من انتفاضات اجتماعية وسياسية. ما أدى لاحقاً إلى قراءة تاريخ المنطقة وتاريخ ما حدث بأثر استرجاعي، وبالتالي النظر إلى هذا التاريخ من منظور مقولة فوكو الشهيرة «حيث توجد سلطة، لا بد من وجود مقاومة». وهنا لا ننكر أهمية المدخل الفوكودي الجديد وتفجيره للرؤية الباردة لمجتمعاتنا وحيواتها، كما نجد مثلاً في حالة كتاب المؤرخ البريطاني تشارلز تريب «السلطة والشعب: مسارات المقاومة في الشرق الأوسط»، الذي بين فيه كيف أن كتابة تاريخ الشرق الأوسط، ظلت تعاني من هيمنة التركيز على سياسات المغامرة الإمبريالية والدولة وأجهزة السلطة، كما بقيت المقاومة في الغالب تصور باعتبارها شيئاً عرضياً وليس منتظماً، ورغم جدية هذا الطرح، فإن الإشكالية في هذه الرؤية والرؤى السابقة تمثلت في حتمية النظر إلى المقاومة اللامرئية (احتجاجات البسطاء)، باعتبارها هي من دفع بالحراك الاجتماعي لاحقاً في عام 2011، أي بمعنى أنه في ظل السياقات السلطوية، كانت هناك قناعة تسود الأجندة البحثية مفادها، أن الأفراد يترددون في الكشف عن خياراتهم السياسية، الأمر الذي يجبرهم على اصطناع الولاء وفي الآن انتهاك قواعد السلطة بأساليب غير مرئية ووفق مبدأ شبيه بما دعاه تيم كوران بـ»تزييف الخيارات». وعندما ترهل النظام الاستبدادي، أصبح بإمكان هؤلاء الأفراد التعبير عن أفكارهم وانتهاكهم للسلطة بلغة أكثر سياسة مقارنة باللغة الاجتماعية أو الدينية للفعل الانتهاكي السابق، مستفيدين في الوقت نفسه من أشكال التضامن السابقة التي تشكلت أنثروبولوجياً.

وبالعودة إلى كتاب تشارلز تريب السابق، نجد أنه نحا باتجاه شبيه لهذه المقاربة من خلال تأكيده على أهمية دراسة سياسات المقاومة التي شهدها الشرق الأوسط في العقود الماضية، كعنصر رئيسي من عناصر فهم السلطة السياسية في مجال النزاع، لأن «فهم الديناميات الرئيسة للسياسة النزاعية يعني إبداء الاهتمام بالمفردات التي تخلق أساس التضامن الجديد، والأداءات التي تتملص من التنظيم اليومي للسلطة وتتحداه. حتى في عدم وجود حركة أو قضية واضحة أو علامة دالة عليها، فإن تبديد الوهم مع السلطة والتدمير المباشر وغير المباشر لها يمكن أن يزدهر ويلتحم في ظل ظروف معينة لتحدي السلطة المادية للنظام والدولة».

ورغم وجاهة هذه الفكرة، بيد أنها ساهمت في تشكيل رؤية تبسيطية لانتهاكات البسطاء، خاصة على مستوى ثنائية المقاومة والسلطة، لأن بعض الممارسات تفلت من هذه الثنائية ( كما سنرى لاحقاً في المقال)، كما أن ظهور أشكال الانتهاكات السابقة، لا يعني بالضرورة أنها كانت تعبر عن دوافع سياسية مخفية بلبوس اجتماعي، إذ يمارس الباحث بتبنيه هذه الرؤية دور المخبر الأمني، من خلال النظر إلى أي شكل من أشكال هذه الانتهاكات على أنها تعبر عن فعل سياسي، كما أن هذه الرؤية كثيراً ما تجاهلت فكرة الفرصة السياسية، والأهم أنها غيبت فكرة الفعل السياسي المقاوم لصالح فكرة الانتهاكات الاجتماعية، بوصف تلك المقاومة كانت ميتة أو أشبه بمسرحيات سلطوية. وبالتالي كانت عودة الاهتمام بـ»الديناميات المنسية» الاجتماعية للحياة اليومية، تجري على حساب رؤية سكونية لفعل المقاومة السياسي. وهذه الملاحظة يمكن رصدها في كتاب تريب الذي أبدى في مقدمته تأثراً كبيراً برؤية ليزا وادين، مؤلفة كتاب «السيطرة الغامضة» الذي تطرقت من خلاله لفكرة سيسيولوجيا النكتة والمقاومة الرمزية للنظام السوري، بينما لا يولي اهتماماً في الكتاب لأي شكل من أشكال المقاومة السياسية للفترات التي سبقت الانتفاضات العربية (باستثناء التطرق مثلاً في التجربة المصرية إلى حركات العمال بدون أي إشارة إلى حركة كفاية وشعارها الجذاب الذي استطاع إحياء وخلق تضامنيات وهويات سياسية جديدة، كما أنه خصص أكثر من نصف الكتاب لسياسات الجسد وأشكال المقاومة الرمزية «الغرافيتي وغيرها»).

هل ماتت السياسة حقاً قبيل الربيع العربي؟

 

ولعل هذه النقطة الأخيرة حول سكونية الفعل السياسي قبيل الثورات، والتركيز فحسب على الانتهاكات اليومية بوصفها خيارات مزيفة ذات مضمون سياسي، هي ما سعى ناثان ج. براون (أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو) إلى نقضها في دراسته «الثورة الدستورية والمجال العام» إذ يرى براون أن الإشكالية التي يطرحها حول حتمية «مفهوم تزييف الخيارات» التي طبقها كوران في السابق على الاتحاد السوفييتي، لا يمكن أن تنطبق على بعض المجتمعات شبه السلطوية في العالم العربي مثل مصر، التي شهدت في العقد الأخير فرصا عديدة للتعبير عن الأفضليات السياسية مقارنة بما يقترحه كوران من تزييف الخيارات خوفاً من عنف السلطة. فمؤلف كتاب «أنا أكره حسني مبارك» -الذي كان يباع علناً خلال العقد الأول من القرن الجديد- أوضح خياراته السياسية علانية وبجرأة. وكذلك كل من طالع أي صحيفة مصرية مستقلة في السنوات السابقة للانتفاضة المصرية (المصري اليوم مثلاً). وبالتالي فإن القول بموت السياسة، يعني اللجوء إلى تفسير حتمي واحد للانتفاضات بوصفها تمثل امتداداً لتلك الانتهاكات اليومية (المستترة سياسياً)، وبالتالي إهمال فكرة المقاومة السياسية العلنية التي أخذت تظهر على الساحة المصرية مع منتصف التسعينيات في ظل بروز خطاب سياسي أكثر تطوراً وحرية، حيث عقدت المناقشات وورش العمل والمنتديات والمؤتمرات حول مجموعة كبيرة من القضايا السياسية. ونقلت القنوات التلفزيونية الفضائية محتوى تلك المناقشات إلى المقاهي والمنازل في جميع أنحاء العالم العربي، حتى أن النقاش العام حول السياسة بدا على مدى العقد الماضي ينافس تلك الجدالات التقليدية في مجال الرياضة. وقد استمر هذا المشهد في بدايات القرن الواحد والعشرين، إذ أخذ التعبير عن الرؤى السياسية يجري بمصطلحات سياسية ودستورية في المقام الأول. كما أن الصحافة أحدثت تأثيرها الخاص من خلال تشخيص العلل السياسية في مصر من منظور دستوري، وأخذت تُظهِر للعديد من المصريين الرابط بين مشاكلهم الحياتية والقضايا الأساسية للحكم. وهكذا بحلول عام 2011، عندما تحدث الشارع في مصر فإنه تحدثت بلغة أستاذ خبير في القانون الدستوري. بالتالي، فإن ما يظهره براون من خلال دراسته هذه، هو أن ما حدث في العالم العربي لا يمكن تفسيره فحسب من خلال إغفال الجوانب الأخرى (كما يبين) لصالح رؤية أنثربولوجية أو سوسيولوجية حتمية وسريعة تتمثل في إعطاء الانتهاكات أبعاداً تتجاوز مضمونها اليومي.

هل كل فعل انتهاكي هو فعل سياسي بالأساس؟

ولعل الفكرة الأخيرة والمتعلقة بمسألة تفسير أي فعل انتهاكي داخل الحياة اليومية، هي ما كانت محط اهتمام وبحث ميداني عميق من الباحثة الأنثربولوحية الفرنسية إميلي لورونار في أثناء تحليلها للانتهاكات العامة للباس عند الفتيات السعوديات في مدينة الرياض. إذ تبين للباحثة أنه على الرغم من أن الانتهاكات الصامتة لليومي وتكرارها كما في حالة لباس الفتيات في الجامعات والمولات قد أخذ يشكل خرقاً للنظام الرسمي ولسياسات الجسد التي رسمتها السلطة مع حلفائها، حيث تذكر تهاني (طالبة جامعية) أن الحارسات داخل الجامعات كنا ينتقدن الطالبات على ارتداء الكعب العالي غير المسموح به، على عكس حال عامي 2008 و2009 إذ كانت تلك الملاحظات فيها نادرة جداً. إلا أن بحثها الميداني كشف لها أن بعض الممارسات اليومية لا يمكن تحليلها باعتبارها خضوعاً لعلاقة السلطة ولا باعتبارها ممارسة مقاومة، فهي تفلت من هذا وذاك. كما أن ما تبين للورنار هو أن تأويل خرق القواعد العامة باعتبارها طريقة للاحتجاج السياسي ضد النظام العام ما هي إلا تأويلات متسرعة. صحيح أن الفتيات السعوديات يمثلن «فئة من السكان ممنوعة من التعبير»، فلا توجد جمعية واحدة مثلاً يمكن أن تسمح لهن بالتعبير عن مطالبهن السياسية، وبالتالي فهن لا يحصلن إلا على القليل من الوسائل للتعبير عن سخطهن. بيد أن هذا لا يعني – وفقاً للباحثة – أن نفسر في ظل هذا الواقع انتهاكاتهن اليومية للقواعد العامة على أنها أفضل طريقة متاحة لهن للتعبير عن معارضتهن للأنظمة التي يخضعن لها، لأن ذلك يمكن أن يؤدي إلى مخاطر المغالاة في تقدير أبعاد تصرفاتهن، ودفعهن في وجهة نقدية لا يمتلكنها دائماً.

ولدعم هذا التوجه البحثي الذي نجده في النص، تشير لورونار إلى انتقادات صبا محمود التي توجهت بها إلى بعض الكاتبات النسويات اللواتي قمن بتأويل كل شيء وفق مفاهيم «المقاومات» ولامتهن على عدم الأخذ بجدية المعنى الذي تعطيه المستجوبات لتصرفهن. فمثلاً نجد أن العديد من المستجوَبات اللواتي ينتهكن القواعد العامة بلباسهن، رغم امتلاكهن سياسات خطابية متعددة لتبرير هذه الانتهاكات، إلا أن ما يلفت نظر لورنار هنا هو أن معظمهن اعتمدن خطاباً نقدياً – نوعاً ما – تجاه الليبراليات لاعتقادهن أنهن يذهبن بعيداً في تأثرهن بالغرب، ولأنهن يدافعن عن مطالب لا معنى لها، وليس لها الأولوية بالنسبة للسعوديات. كما أن الكثير من المستجوبات كثيراً ما عرّفن أنفسهن أثناء الحوار (بدون أن تطلب ذلك) بأنهن لسن «ليبراليات» ولا «متشددات»، وهو تعريف يتناغم مع مصطلحات الخطاب السلطوي الرسمي حول «التصدي للإرهاب» والدفاع عن التسامح وعن الوسطية (بدون أن يعني ذلك أنهن جزء من الخطاب الرسمي السعودي) إضافة لذلك، فإن مؤسسات الدولة المختلفة لا توصف من قبل أغلب المستجوَبات بأنها قمعية بالأساس. فكثيرات منهن شرحن لها كيف أن الملك الراحل عبد الله (أثناء إعداد الدراسة) وقف مع «المرأة» ولكن المجتمع عطل مبادراته، وهو رأي يتطابق مع أكثر الخطابات انتشاراً والأقل نقداً للنظام. وبالتالي فإن ما يمكن استنتاجه من دراسة لورنار العميقة ، هو أنه لا يمكننا أن ننظر إلى أساليب الانتهاكات العامة أو سياسة البسطاء بوصفها أفعالا سياسية بالأساس، فانتهاك القواعد الرسمية للباس والجسد الأنثوي السعودي – كما بينت الباحثة – في المولات والمدارس السعودية، مثل مقاومات موضعية وهشة في مؤسسات محددة تميّزها المستجوَبات بوضوح في خطابهن، عن الملك والحكومة. وإذا كانت الانتهاكات التي قامت بها الفتيات السعوديات تشكك في النظام العام المؤسّس على قراءة صارمة للمبادئ الإسلامية، فإن قليلات منهن عبرن عن الرغبة بمزيد من الحقوق ذات المضمون السياسي.

٭ كاتب سوري

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى