صفحات الرأي

الانحياز في التحليل لا يساعد أصحاب الحق/ إبراهيم غرايبة

 

 

الانحياز في الموقف السياسي، أو القومي، أو الوطني، لا يقتضي انحيازاً في فهم الأحداث ورؤيتها، فالأصل في الفهم أنه عملية علمية، لا تختلف عما يقوم به الباحث في المختبر، وليس بالضرورة أن يبني الباحث، أو من ينظر في المسألة موقفه السياسي، أو الوطني، بناء على نتائج التحليل والفهم، أن تؤيد الحق الفلسطيني، على سبيل المثال، بغض النظر عن وقائع الصراع؛ لا تحتاج في تأييدك هذا أن ترى الصواريخ الفلسطينية تدك المدن والمطارات والمواقع الإسرائيلية وتدمرها، أو أن تصل، في مداها، إلى أبعد نقطة.

والاعتقاد ببطولة المقاومين وصمود الغزيين لا يعني أن يتجاوز تقديرك النصر والخسائر حدود النتائج والوقائع الفعلية. وصحيح أن البطولة والصمود أمران رائعان ومشرفان ومطلوبان، وضروريان أيضا، ولكن ذلك لا يعطيهما في التقييم والفهم أكثر من حجمهما ودورهما في تقدير النتائج والمكاسب والخسائر.

أن تكون بطلاً لا يعني أنك انتصرت، وأن تكون صاحب حق لا يعني أنك متفوق، وأيضاً، لا يعني فهم المسائل كما هي الدعوة إلى عدم الصمود، ولا التخلي عن الحقّ.

إذا رغبت في شيء، أو موقف، تستطيع أن تجد ما يكفي من الحجج والأدلة الصحيحة التي تؤيد ذلك، وإذا رفضت، أو كرهت، شيئاً، أو فكرةً، أو شخصاً، تجد ما يكفي من الحجج والأدلة الصحيحة والمنطقية للإدانة.. كيف، وإلى أي حد، يمكن التحرر من الرغبات في البحث عن الصواب والخطأ؟ كيف، وإلى أي حد يمكن إدراك الرغبة، والانحياز في محاولة الفهم لدى الذات والآخرين؟ .. ثم كيف نميز بعد ذلك الخطأ من الصواب؟ يتفق اليقين عكسياً مع السؤال والبحث، والمنحازون إلى يقينهم، أو ما يرونه يقيناً هم الأقل تفكيراً، ولو توقفوا قليلاً لأجل السؤال البسيط ما الصواب والخطأ.

ماذا لو كنت مخطئاً، لكانوا أقل يقيناً، ويشمل ذلك بالطبع، وبالتأكيد، فهم وتطبيق النصوص الدينية والفتوى، وتأويل الحق النازل من السماء، أو محاولة تنزيله في اللغة والواقع.

وفي حال عدم الانحياز، لا يمكن فهم النصوص والمواقف والأحداث إلا من خلال تجاربنا وقدراتنا الفكرية واللغوية، ومستوى ذكائنا وأدواتنا المنهجية في التحليل والتطبيق.

وفي أحيانٍ كثيرة، تكون نقطة الضعف في فكرةٍ، أو مقولةٍ، أن صاحبها قوي الحجة والمنطق، ويقدر على تقديم الأدلة الصحيحة، وبالطبع، إنه من الناحية المؤسسية والعقلية ستحظى هذه الفكرة بالقبول، أو الإقرار، لكنها في وجدان ناسٍ كثيرين تلقى كثيراً من الحذر والإعراض، ليس لسببٍ، إلا لعدم الرغبة فيها، أو عدم الاطمئنان لصحتها، حتى مع الأدلة والحجج التي تبدو صحيحة ومنطقية.

ما يحير في الشأن العام هو ظاهرة الأذكياء والمتفوقين والناجحين في اختصاصهم ومهنهم وأعمالهم، ولكنهم في الشأن العام غوغائيون، لا يستخدمون أدواتهم المعرفية التي يطبقونها في أعمالهم وتخصصاتهم في فهم الشأن العام وتقييمه. كيف يقدم شخص ذكي خطاباً غوغائيا؟ كيف يخذله ذكاؤه؟ كيف يكون شخص ناجح ومتفوق مهنياً في مجال عمله، أو اختصاصه، ولكنه في الشأن العام متعصب محدود، لا يسمع ولا يرى؟

هل المسألة ترد إلى نقص المعرفة؟ مجرد نقص معرفة؟ هل هي عجز عن استخدام الوسائل والمناهج المعرفية، وكما يتفوق بها في مجاله في الشأن والفكر العام؟ أم المسألة ذكاء واستثمار؟ أم هي نفاق؟ أم تشوه معرفي ونفسي؟ هل هي تعكس عقلاً باطناً أو لاوعياً يرزح تحت الفساد، بمعنى التعويض عن التقصير في العمل العام والفساد والاختلاس في مجال العمل والمهنة، بمطالب وأفكار غوغائية حلمنتيشية، تجعله يبدو بطلاً أو يكفر بها عن فساده وتقصيره وبخله؟ هل تعكس أزمات شخصية وعائلية واجتماعية؟ هل هي مشاعر عميقة وراسخة بكراهية الناس، وعدم احترامهم وعدم الإيمان بنضالهم؟ أم هي مجرد أمراض نفسية، وعيوب طفولية متبقية، حتى مرحلة متقدمة من العمر؟ هل يملك أصحابها إدراكاً واعياً بتناقضهم، أم يحسبون أنهم يحسنون صنعا؟

الغوغائية مرض أو غباء، لا مجال للافتراض غير ذلك، فهي السلوك الشخصي والعام القائم على العجز عن رؤية المسألة كما هي، أو العجز عن الاقتراب من الصواب، اليقين الكاسح في مسألة ظنية أو تحتمل آراء عدة، أو يتعدد فيها الصواب… يمكن تقدير خطورة الحالة، بقياسها على شخص لا يريد أن يرى، وهو يسوق سيارته، جداراً يسد الطريق، أو أنه لا يوجد طريق ابتداء.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى