صفحات العالم

الاندماج الإقليمي أو البربرية/ قاسم عز الدين

 

 

الحروب الأهلية والطائفية التي تشتعل في بلدان المنطقة، ليست قابلة للمراهنة على حسم عسكري لمصلحة هذا الطرف أو ذاك. فهي تُنذر بدمار مديد وهمجية معمّمة أشبه بحروب الثلاثين سنة التي ذاع صيتها في القارة الأوروبية (1648 ـ 1648). وبما أن المصائب الكبرى لا تأتي فرادى، تبدو المساومات والتسويات الدولية والاقليمية التي يمكنها الحدّ من إوار لهيب المأساة في المدييْن المنظور والأبعد، عصيّة المنال. فموازين القوى وتناقضات المصالح الحيوية لكل من واشنطن والمحاور الاقليمية الثلاثة بامتداداتها (إيران، تركيا، السعودية)، لا تتيح تسويات طويلة بين إيران والبيت الابيض من جهة، أو بين إيران وأحد المحورين التركي أو الخليجي من جهة أخرى. فالمنظومتان الدولية والاقليمية تعصف بهما تناقضات مصالح حيوية عميقة ناتجة من أزمات مستعصية في النموذج النيوليبرالي المعولَم، التي تنتج وتغذي صراعات مريرة عقيمة في إطار النموذج نفسه. والحالة هذه تتفاقم صراعات آسنة من دون أفق، ما لم تفتح أفق تغيير أسبابها في النموذج، وفي هذا الاطار، ترتهن التسويات الكبرى التي يمكنها الحدّ من تراجيديا احتراب العصبيات، بأحد عاملين:

أ ـ إدراك الاطراف المعنيّة مجتمعة بضرورة تغيير رؤاها وأسس سياساتها، نتيجة فقدانها الأمل بالسعي لتحسين مواقعها، أو عدم قدرتها على الاستمرار بالاحتراب لشحّ مواردها البشرية وأدوات المجابهة. وهذا نادراً ما يحصل في تاريخ الاحترابات العصبية حيث «تغذي الحربُ، الحروبَ» كما قال جان بودان (1529 ـ 1596) مؤرخ الحروب الدينية في أوروبا، الذي استنتج أن الاطراف المحتربة لا يسعها أن تعقد تسويات كبرى، وأن معاهدة «وستفاليا» (1648) التي أوقفت الحروب الدينية، أصبحت في متناول اليد حين أُرهقت جميع الاطراف في حروب لا طائل منها، فبات ممكناً صعود أطراف أخرى بموازاتها قابلة لعقد تسوية تاريخية.

ب ـ أن تتلاقى الأطراف على مصلحة مشتركَة لدفع عدوان قاهر يهددها جميعها. وهذا الأمر ليس متاحاً، على خلاف ما يبدو ظاهراً في «مواجهة داعش». فإيران يمكنها أن تقدّم تنازلات في مجمل ملفات الخلافات الاقليمية، إذا ضمنت عملاً مشتركاً للقضاء على «داعش»، من دون غلبة إقليمية تهدّد أمنها القومي ومصالحها العليا. لكن واشنطن تتناقض مع طهران ليس في ملفها النووي، بل في نتائج هذا الملف الذي يستتبعه بالضرورة توسّع النفوذ والمصالح الاقليمية. وعلى هذه القاعدة يتناقض مع ايران محورا تركيا والسعودية، بشأن «داعش» الذي تراه إيران تهديداً وجودياً على خلاف واشنطن وحليفيها التركي والخليجي في رؤية «داعش» تهديداً عارضاً بسبب تناقض توسّع النفوذ في الحقل الاقليمي.

فالقطب الاميركي الذي يشرف على تنظيم الاحتراب، يندفع إلى خوض حروب بالوكالة في إطار استراتيجية إعادة شرذمة وتركيب الجغرافيا السياسية في الشرق الاوسط، لحماية النفوذ والمصالح الاميركية، من الشرق الاوسط إلى أرجاء المعمورة. وهي استراتيجية لا تقتصر على استحواذ سلاح النفط الاقليمي وحماية أمن اسرائيل، بل بات تركيب سلطات محلية من «المكوّنات» الطائفية والعصبية المستندة إلى «كيانات» أو «أقاليم» سياسية، هدفاً استراتيجياً بذاته. وفي هذا السبيل تتوافق الادارة الاميركية مع حليفيها التركي والخليجي، على أن «داعش» هو نتاج توسّع النفوذ الايراني، وليس إرهاباً قائماً بذاته ناتجاً من انهيار الدول والحقل الاقليمي. وتدلّ هذه المقاربة على أن ما يسمى «مواجهة داعش» في تحالف واشنطن التركي والخليجي برغم التباينات، يقتصر على «تغيير» ما هو ناتئ في خرق الخطوط الحمراء التي تجاوزها «داعش» كتنظيم، لكنها تدلّ في المقابل على توظيف حالة «داعش» في صنع معارضات من الطينة نفسها لملء الفراغ نحو إسقاط جغرافية الدولة السورية. وبحسب نموذج إسقاط الدولة العراقية وفق الآليات نفسها وبحسب إعادة تركيبها في أقاليم وكانتونات محتربَة تحت سقف «ديموقراطية العملية السياسية». وبينما يأتلف قوم أميركا على دور ما سماه أوباما «الأغلبية السنّية» في سوريا و «الأقلية السنيّة» في العراق، (عدا إقليم البارزاني الذي بات يضم كركوك وربما الموصل غداً) يتفرّق هذا القوم إلى فخذين متناحرين بشأن تقاسم الورثة في سوريا التي باتت خريطتها شبه ناجزة لمصلحة الحلف السعودي في «الاقليم الجنوبي» الموكَل إلى «جبهة النصرة» وحلفائها في تهديد دمشق وأيضاً «حزب الله» في العرقوب، تحت إشراف اسرائيلي مباشر.

بيد أن تركيا العالقة في أحلام «العثمانية الجديدة» ليس أمامها خيارات كثيرة لتعويض خسارة المراهنة على توسّع نفوذها ومصالحها في المنطقة العربية، سوى التعويل على جماعة «الاخوان المسلمين» والتقاطع مع «داعش» أملاً بإرساء حديقة خلفية «آمنة» في سوريا والعراق. فالمنطقة «العازلة» التي تسعى إليها قد تكون أسهل الخيارات التركية لحماية «النموذج التركي» من ارتدادات تؤدي إلى انهياره في عقر داره. فهو ككل نموذج دولة إذا لم يتوسّع ويتنامى في محيطه الاقليمي يؤول إلى التفسّخ وانهيار الدولة، كما انهارت مصر وغيرها. لذا يحاول أردوغان جرّ «الأطلسي» إلى حماية توسّعه لإسقاط جغرافية الدولة السورية والمراهنة على «استعادة الموصل» التي ظلّت موضع تشكيك تركي في اتفاقية 1926، التي ضمنت وقتها «الامن القومي التركي» بعدم قيام دولة في كردستان العراق وعدم امتدادها الى الموصل. لكن الادارة الاميركية التي «تفرك أذن تركيا» في عين العرب ـ كوباني، تعتمد استراتيجية الاهتراء الاقليمي في استنزاف كل الاطراف في حروب بالوكالة، ولا ترى ضيراً في شرذمة تركيا وايران والسعودية. ولا ريب أن الادارة الاميركية تضحك في سرّها من الذين يظنّون أنها تعضّ أصابعها خوفاً من الفوضى الاقليمية، أو ندماً على سهوها عن مخاطر «داعش».

البحث عن «إدارة النزاعات» بالمراهنة على تسويات عقلانية من دون تغيير الاسباب المسبّبة، يؤكد أن فوضى الغابة التي نعيش، ما زالت في بدايتها. وهي تتجلّى في قراءة أسباب صعود «داعش» كرد فعل «السنّة» على توسّع النفوذ الايراني، أو بسبب تقاطع مصالح الدول الاقليمية والدولية في تمويله وتصدير المعتقدات المتطرفة، في مواجهة المحور الايراني. لكن الفوضى الذئبية التي تضرب جذور المنطقة، هي جزء من فوضى منظومة الغابة الكونية وانعكاس صاخب لنموذجها. فالأسس المؤسسة لهذه الفوضى هي أبعد من الظواهر الناتجة منها وأعمق، فتشمل فلسفة «ما بعد الحداثة» في تكديس البشرية في قفص «القرية الصغيرة» الخاضعة للمنافسة «الحرّة» وتخليع الضوابط الناظمة للمشترك الأعلى بين الجماعة الإنسانية والجماعات القومية الأدنى. فهذا التحوّل في المنظومة الدولية مما رست عليه بعد المجزرة الكونية الثانية الى منظومة النيوليبرالية المعولمة، أنتج تفكيك الحدود الوطنية والاقليمية وإلغاء دور الدولة الناظم للمصالح العليا المشتركَة. وفي المقابل فتح أبواب جهنّم صراعات على السلطة والنفوذ من فوق، واحتراب الهويات العصبية الضيّقة من تحت.

هذا النموذج المعولَم نجح في شطب المسألتين الاجتماعية والوطنية من السياسة، وبات هذا الفكر السياسي النيوليبرالي نموذج ثقافة سياسية سائدة غير قابلة للمساءلة. دليلاً على هذه المعضلة، أخذ معظم شباب الثورات العربية بالنموذج نفسه في إطار ما يسمى «المرحلة الانتقالية» الدستورية كأنهم كهول في تسعينات العمر شاخت فيهم أحلام الشباب وطوباويتها. فهي ثقافة سياسية معمّمة تقفز فوق الانقسامات الاجتماعية التي تسمى «فئوية» بحسب موقع كل فئة اجتماعية في نشاطات الحياة ومساهمتها في انتاج الثروة العامة وأسباب المعاش وسبُل العمران. كما تقفز فوق الوعاء الحاضن لهذه النشاطات في الجغرافيا السياسية الوطنية والاقليمية، ما يؤدي إلى توتير هويات سياسية دنيا (فردية، قبلية وطائفية واثنية، ثقافة القرية الصغيرة…) التي كانت تعلو فوقها ثقافة الهوية السياسية الاجتماعية والوطنية. فهذه الثقافة السياسية المعولمة يتخذها نيوليبراليو «العروبة الجديدة» نبراساً في أقاويلهم بشأن «المواطَنَة» المتحررة من الهوية السياسية الاجتماعية، والمتحررة من هوية الجماعة الوطنية والاقليمية في رؤية «تكامل» هذه الجماعة في السوق الدولية. وهي نفسها تتخذها من جانب آخر تيارات الاسلام السياسي في مقولات الاحسان على الفقراء، بالنظر إلى ما أنعمت البورصات العالمية على الاغنياء من فتات توزيع نهب المواد الاولية والثروات الطبيعية في السوق الدولية.

إن إعادة الاعتبار للمسألتين الاجتماعية والوطنية، في نقض نموذج فوضى الغابة الكونية، تقلب رأساً على عقب صراعات توسّع النفوذ الاقليمي، التي تأخذ لا محالة طابع صراع طائفي واسع وطويل. ولا يبدّل من هذا الأمر تبديلاً كل أحاديث النيات الطيّبة بشأن التعاون والتكامل وأحاديث الحوار والوفاق على تنازلات ومساومات، بل يغيّره حين يجتمع مع الدعاء قطراناً في مسعى تغيير التوازنات السياسية من تحت في دمج مصالح نشاطات الحياة وتوطينها على المستوى الاقليمي، وتنظيم هذا الدمج في دور الدولة على المستوى الوطني، ودور مؤسسات التجمع الاقليمي، على المستوى الأعم.ّ

بين البربرية وحضارة الاندماج الاقليمي، مقولات كثيرة وفلسفات عديدة تدلّ على مؤشراتها بنجاح هنا وإنجاز هناك. لكن الساعة المعطّلة تصيب الوقت في اليوم مرّتين.

السفير

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى