صفحات مميزةعمر قدور

الانعزالية العلوية: السلطة إذ تنشئ طائفتها وتعزلها/ عمر قدور

 

لا حاجة لأدنى عناء كي يتلمس المتابع فورة طائفية غير مسبوقة في الأوساط السورية، أوصاف من نوع «علوي» أو «نصيري» صارت تهيمن على النقاش فتختزله وتمنعه في آن، بل يكاد نعت الطائفية يذهب بدلالته المعممة ليشير إلى الوصفين السابقين حصراً. ذلك يعني في ما يعنيه تنميطاً مطرداً يضع العلويين أسرى دائرة ضيقة لا فكاك منها، أو لا يريدون الفكاك منها الآن أو مستقبلاً. وإذا كان إنكار المستوى الطائفي لدى قسم منهم ولدى النظام يتعامى عما هو موجود فإن اعتباره المستوى الوحيد يبتذل العوامل المركبة للوضع السوري، الداخلية منها والخارجية، ومن المؤكد أنه لا يساهم إطلاقاً في فهم النظام الذي يُراد إسقاطه. من المرجح أيضاً أنه سيمنع نقداً ضرورياً للذات، طالما بقي الانتباه متمركزاً على «الآخر»، وطالما بقي «الطائفي هو الآخر» بتعبير لمّاح لحسام عيتاني.

في هذا الصدد، قد يثير وصف «الانعزالية العلوية» حساسيات واعتراضات، لأنه يحيل إلى ما عُرف إبان الحرب الأهلية اللبنانية بالانعزالية المارونية، لكن الرسائل المتبادلة على الجانبين، بخاصة الإطار الثقافي الذي اعتمده النظام ومثقفوه منذ ثلاث سنوات، وهو يقتفي أثر المقولات المتعلقة بالخصوصية والانسلاخ عن المحيط الجغرافي الحضاري المجاور، تلك الرسائل تعدت الانفعالات العابرة لتؤسس سياقاً. حديث بشار الأسد إلى رجال الدين، قبل شهر من الآن، وقوله: «الأمويون ليسوا سوريين، ولو كانوا قادرين على بناء الحضارة في مكة لما أتوا إلى الشام» لم يكن غير استئناف لتوجه بدأ عام 2005 على خلفية المواجهة مع الدول العربية التي أيدت خروج القوات السورية من لبنان، هذا التوجه بدأ حينها باصطناع وطنية سورية قائمة على العداء للعرب، ثم اختُزلت هذه الوطنية السورية أخيراً لتقتصر على موالي النظام، أو لتقتصر بشكل مضمر على «الأقليات» التي لا تشوبها شبهة «الغازي» الأموي.

أيضاً نبش الوثائق القديمة العائدة لأيام تأسيس سورية الحالية لم يكن مجرداً عن التسييس المباشر، أو عن محاولة جعله راهناً بمعنى أن الخلاف على وجود العلويين ضمن سورية أو الانفصال عنها لا يزال مطروحاً. بمعنى آخر، وجود سورية الحالية رهن بالقرار العلوي، وهي لن تبقى موجودة على نحو لا يكون فيه لبنان موجوداً بلا موارنة. الحديث في الحالتين يهمّش المكونات المتنوعة للبلد ليركز على خصوصية تقتصر على مكوّن واحد، السنّة في الحالتين يصبحون سنّة بلا تمايز لهم عن المحيط السنّي الأوسع. الجدير بالذكر أنه للمرة الأولى، وبالتزامن مع صدور إعلان دمشق وانسحاب القوات السورية من لبنان، بدأ بعض الكتابات بالإشارة إلى تبعية اللاذقية سابقاً لولاية بيروت، وإلى أن ضمها إلى سورية أتى لتأمين منفذ بحري لحلب ودمشق. ما يعني ضمناً أن الساحل السوري أقرب بطبيعته إلى الخصوصية اللبنانية، مع التلميح إلى الانقلاب على الخارطة السياسية الحالية.

على رغم ذلك، لا يجوز تعميم ما يطرحه النظام ومثقفوه على العلويين كافة، ومن الضروري الانتباه إلى القرابات المستحدثة التي يحاول النظام إنشاءها خارج الحدود للتعويض عن القرابة الداخلية المعتادة. فالعلويون، بخلاف معظم الجماعات السورية الأخرى، ليست لهم امتدادات رمزية «مريحة» خارج سورية. النظام البعثي نفسه لم يكن إلى وقت قريب يطرح إطاراً رمزياً أوسع سوى العروبة، الاحتماء المتزايد بالحليف الإيراني والترويج لمحوره مقابل العروبة سيبدو شديد التهافت بالمقارنة مع الرابطة المارونية بالغرب.

هذا يفسر قلة الهجرة خارج البلاد، ويفسر أيضاً جانباً من العزلة يدفع نسبة من العلويين إلى الانصياع لمتطلبات حرب النظام الحالية، وإن كان لا يبرر الاصطفاف الكبير خلف الأخير. على سبيل المثال، هناك تسرب كبير من قوات النظام لأفراد من مختلف الطوائف، فقط لا يريدون المشاركة في الحرب ولو من باب الحرص على أرواحهم والبعض منهم لا يخفي حتى موالاته للنظام، وجود قرابات أو سوابق لمهاجرين أقرباء خارج الحدود ساعد وشجع الكثيرين على التهرب من الخدمة الإلزامية. مرة أخرى هذا لا يبرر المشاركة في جرائم النظام، ولا ينفي وجود طائفيين أو متحمسين للحرب. ثمة دعاية ركز عليها النظام بشدة، مفادها ربط تمكين العلويين وانفتاحهم على باقي المجتمع السوري بوجوده، والحق أن هذه الدعاية أثمرت لدى نسبة كبيرة من العلويين وغير العلويين. وجه الخبث في الدعاية أنها تتجاهل عقداً ونصف سبقا انقلاب البعث كان فيها العلويون يتقدمون كأفراد للمشاركة في الفضاء العام أسوة بباقي السوريين غداة الاستقلال، الأخطر هو ربط تمكين العلويين بالسيطرة على الجيش، وجعلها الخيار الوحيد أمامهم. ما يُشاع الآن عن طائف سوري، بمباركة إيرانية، يُبقي هذه السيطرة على الجيش هو أكبر هدية مسمومة لأنه يعزز عسكرة الطائفة، ويفقر مشاركتها في الفضاء المدني العام.

لن يكون مهماً في هذا السياق أن يخسر أو ينتصر النظام، فهو في كلتا الحالتين ضحّى بالرصيد والمكتسبات المتعلقة باندماج العلويين في الفضاء المجتمعي العام. هي بالأحرى خسارة للجميع، فالعلويون باستثناء محاولات النظام لم يسعوا إلى التمأسس كطائفة، ولم تكن لهم هيكلية مذهبية هرمية أو مدارس تعليمية خاصة أو قوانين أحوال شخصية أسوة بطوائف سورية أخرى. باختصار، لم يكونوا يروا أنفسهم أو يُنظر إليهم كمجموعة ذات سمة واحتياجات خاصتين، ولم يكن انفتاحهم الاجتماعي الواسع ليضعهم في مرتبة «الأقلية» التي تتميز بخصائص سلوكية يغلب عليها التوجس والتقية.

النبرة الطائفية التي تتعالى، من الجانبين، تنبئ بأن الجدران العازلة تزداد سماكة وارتفاعاً، ومن المتوقع تفاقم ذلك إذا بقي النظام، لأن انتصاره ومكافأته لشبيحته بمزيد من التسلط سيكون مرة أخرى على حساب أبناء الطائفة الآخرين. الحق أن العلويين، ربما أكثر من غيرهم، محكومون بالانتماء إلى الفضاء الوطني، الأمر الذي تسببت النخبة العسكرية وقسم كبير من النخبة الثقافية في تدميره والتحايل عليه. سقوط النظام لن يقدّم حلاً وردياً سريعاً، إلا أن ترافقه مع الحد الأدنى من العدالة سيمضي بالجميع إلى المصالحة، ولو تدريجياً. من جهة أخرى، هذا ضروري لتتشجع وتتقدم تلك الأصوات من العلويين لتحاكم «نخبة» جرّت الويلات على الجميع.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى