صفحات الرأيناصر الرباط

الانغماسي والمقاتل خارج مرمى النيران/ ناصر الرباط

 

 

ثمة أغنية معبّرة لروجير واترز، مغني الروك المشهور والملتزم سياسياً والعضو السابق في الفرقة الموسيقية العالمية «بينك فلويد»، وعنوانها The Bravery of Being out of Range أو «شجاعة أن تكون خارج مرمى النيران»، يقول فيها: «الحرب ابتدأت، كم أحب هذه القنابل الموجهة بالليزر. إنها فعلاً رائعة لتصحيح كل الأغلاط. تضرب الهدف وتربح اللعبة من على بعد ٣٠٠٠ ميل بشجاعة من يكون خارج مرمى النيران»، في إدانة واضحة للحروب الذكية الجديدة التي طورتها الولايات المتحدة ابتداءً من غزو العراق الأول عام ١٩٩١ وحتى الحرب المستمرة على الإرهاب اليوم، التي يبدو أن شرطها اللازم لكي تبقى الشعوب التي تموّلها ساكتة عنها هو عدم سقوط ضحايا بسببها بين أولئك الذين يشنونها.

هذه الحرب التي تستخدم تكنولوجيا ذكية ومعقدة في تحديد الأهداف وضربها من دون وجود للمُطلِق على أرض المعركة، مثل الطائرات من دون طيار أو الصواريخ الموجّهة، أصبحت علامة دالة على عصر جديد من الحروب الإلكترونية غير المتكافئة بين من يمتلك التكنولوجيا الذكية ويستخدمها ومن لا يمتلكها، وبالتالي لا يمكنه أن يستخدمها. وهي أيضاً تطرح للمراجعة وإعادة النظر كل المفاهيم التي حكمت الحروب الحديثة حتى اليوم، وعلى رأسها قواعد حماية المدنيين في مناطق النزاع المسلّح، المسماة معاهدات جنيف، بما أن تعريف هذه المناطق نفسها لم يعد محدداً جغرافياً أو قانونياً بالضرورة بسبب ذراع التكنولوجيا الطويلة وقدرتها التدميرية الهائلة، وبما أن المدنيين قد أصبحوا في ما يبدو «أضراراً جانبية» فقط وفق العرف العسكري السائد.

وقد امتد نطاق هذه الحرب إلى مكافحة الإرهاب داخل الولايات المتحدة. فوكالات الأنباء تناقلت أن ميكا كزافييه جونسون، قناص دالاس الذي أطلق النار على اثني عشر شرطياً وقتل خمسة منهم في ٧ تموز (يوليو)، قد قتل في النهاية بواسطة قنبلة حملها روبوت (إنسان آلي) وفجرتها الشرطة عن بعد، في واقعة هي الأولى من نوعها في الولايات المتحدة. أي أن الحرب التكنولوجية الذكية قد وصلت إلى الداخل الأميركي لكي تفتح صفحة جديدة في تعامل قوى النظام والقانون مع الجريمة، صفحة يمكن أن تغيّر من نوع الصراع بين السلطة وأعدائها ومفعوله، بحيث يكون الطرف الثاني خاسراً على رغم توافر السلاح لكل من يرغب في استخدامه لأي هدف على نطاق واسع في الولايات المتحدة.

لكن هذا التطور التكنولوجي، الغربي أساساً، يواجهه تطور يمكن أن يقال عنه أنه تطور لاهوتي، إسلامي النكهة على الغالب، ألا وهو ظهور مفهوم الانغماسي، أي المقاتل المهيأ للتضحية بنفسه في سبيل إلحاق خسائر بالطرف المقابل بغض النظر عن الأهمية الاستراتيجية أو الثمن الإنساني لهذه الخسائر. طبعاً ليست هذه هي المرة الأولى في التاريخ الحديث والمعاصر التي نجد فيها ظهور مثل هذا النوع من القتل العشوائي في سبيل قضية غائمة وهدف سياسي غير واضح المعالم. لكن الانغماسي كمفهوم وكمسمى وامتداد عنفه إلى أرجاء العالم كافة جديد. وهو ما يطرح معضلات تعريفية وقانونية وأخلاقية لا توجد لها سوابق يمكن الاعتماد عليها في التعامل مع ظاهرة الانغماسي نفسها.

لكن مفهوم الانغماسي في رأيي لا يمكن فصله عن مفهوم الحرب الذكية كمعاكس لها نقيض لها تماماً في الأسلوب والمقاربة، لكنه معادل لها في تجاهله المبادئ الإنسانية التي أخذت من البشرية قروناً من الآلام والدموع والدماء لكي تصل إلى شكلها الحالي. الانغماسي الذي نشاهده اليوم من سورية والعراق وأفغانستان إلى تركيا وبنغلادش ومالي وبوركينا فاسو ونيجيريا وفرنسا والولايات المتحدة، نوع جديد من المقاتلين. إرهابي بالتعريف بما أنه يتقصد قتل أكبر عدد ممكن من الناس غير المحاربين والذين لاعلاقة له بهم. وهو يتبع تعليمات تأتيه من مرشد لا يعرفه ومن هيئة أعلى لا يعرف عنها الكثير ويتشارك وإياها فقط في الاعتقاد بأحقية صراعه ضد غالبية البشرية التي ضلت الطريق القويم إلى مخطط إلهي، وهي بالتالي تستحق العقاب المطلق. وهو، أو هي في بعض الأحيان، أداة هذا العقاب. هذا مفهوم نجد له صدى نفسياً ديناميكياً في كل ألعاب الحرب الإلكترونية التي تلهي ملايين الشباب حول العالم، والتي تشكل المكافئ التجاري الدراماتيكي للحروب التكنولوجية الحقيقية.

الانغماسي في غالب الأحيان مسلوب الإرادة كإنسان وإن كان شديد العزم كأداة قتل. فهو يستخدم في عملياته أي وسيلة متوافرة له: رشاشات وقنابل يدوية، أحزمة ناسفة، سيارات مفخخة، طائرات ركاب مدنية، وأخيراً في نيس شاحنات تدهس الناس عشوائياً. وهو لا يبالي بما يمكنه تحقيقه من موته، إذ إن العديد من الهجمات الانغماسية في سورية والعراق قد انتهت بعدد قليل من الضحايا، لكنها مع ذلك أدت الهدف منها: الإرهاب والتخويف وترسيخهما في لدن المجموعات البشرية، المدنية في شكل عام، المستهدفة بهذا الإرهاب.

هذه اللامبالاة الانغماسية مبنية على الاعتقاد بأن العمل الإرهابي (أو الاستشهادي وفق الدعاية الداعشية والقاعدية وما تفرع عنها من منظمات تقلدها) هو ما يؤمن خلاص الانغماسي الذي تنتظره حياة آخرة رابحة يكافأ فيها على تنفيذ مهمته وموته في سبيلها. لكنها تبقى أولاً وآخراً لا مبالاة بقيمة الحياة الإنسانية التي توافقت كل الفلسفات البشرية على اعتبارها الأساس الأخلاقي الأول لكل المنظومات الاجتماعية حتى تلك التي حللت القتل بوسائل قانونية. هنا أيضاً تصدمنا حقيقة أخرى من حقائق التناظر المتضاد ما بين الانغماسي والمقاتل خارج مرمى النيران. فلا مبالاة الأول نابعة من الاستهتار بموت الذات، وموت الغير طبعاً، للحصول على الخلاص الذي يحققه الموت نفسه. ولا مبالاة الثاني نابعة من ملل عصري اختلط فيه الواقع بالخيال المبني على الواقع الإلكتروني وعمقته المسافة بين المقاتل وضحاياه واختزالهم إلى ذرات pixels تتشظى على شاشة، بما لا يختلف حقاً ونظرة الانغماسي إلى ضحاياه في ما عدا أن القاتل هنا لا يدفع ثمن جريمته كما الانغماسي.

هل من وسيلة للخروج من دوامة القتل العشوائي هذه التي تفرخ عمليات أكثر وأعنف يومياً؟ هل من مفكرين لاهوتيين وآخرين تكنولوجيين قادرين على اجتراح قواعد للاشتباك جديدة تأخذ في الاعتبار هذه التطورات المؤلمة والدموية؟ وهل هناك سياسيون قادرون على تحمّل الثمن السياسي الباهظ الذي لا بد أن تكلفه إدانة عمليات القتل هذه باسم الوطن أو الدين أو أسلوب الحياة أو الأوامر الإلهية، وضرورة تأطيرها ضمن قواعد قانونية صارمة تنطبق على الجميع بغض النظر عن أصلهم وعرقهم وديانتهم وطبقتهم وأماكن إقامتهم وانتماءاتهم؟

* معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا M.I.T

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى