صفحات الحوار

الباحثة البريطانية بيلي جين براونلي: الإعلام الجديد قادر على توحيد السوريين.. وتفتيتهم

 

 

بتول خليل

إعادة قراءة الثورات وحركات الاحتجاج العربية والسؤال حول ما تحقق في السنوات الخمس الماضية وما تعذّر تحقيقه والبحث في أسباب ذلك، شكلت أبرز محاور مؤتمر “خمس سنوات على الثورات العربية: عسر التحول الديموقراطي ومآلاته”، الذي استضافته الجامعة الأميركية في بيروت وأتت جلساته ثمرة تعاون بين المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ومعهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية.

وفيما خصصت جلسة للحديث عن دور الاتصال والاعلام في الثورات العربية، التقت “المدن” على هامش المؤتمر، الباحثة وأستاذة سياسات الشرق الأوسط في جامعة “باث” البريطانية، بيلي جين بروانلي، التي تركزت اهتماماتها البحثية، خلال السنوات الخمسة الماضية، على تطوير وسائل الإعلام الجديدة والمجتمع المدني في الشرق الأوسط، مع تركيز خاص على سوريا.

براونلي التي كانت لها مجموعة من الدراسات والأبحاث حول أداء الإعلام في الثورة السورية، حاورتها “المدن” للوقوف عند رؤيتها وتقييمها لإخفاقات ونجاحات الأداء الإعلامي المرافق للأحداث في سوريا، ولسؤالها عن تصورها للسبل التي يجب اتباعها لتصويب التعاطي الإعلامي مع الموضوع السوري.

* خمس سنوات على الثورة السورية، كيف أثّر كل من إعلام المعارضة وإعلام النظام في خدمة تظهير القضية التي يحاربون من أجلها؟ وما هي مستويات دور وسائل الإعلام التابعة للثورة في إظهار الحقيقة للرأي العام المحلي والإقليمي والعالمي مقابل إنكار النظام ومقابل الرسائل الدعائية التي تبثها المنظمات الإرهابية مثل “داعش”، والتي أثبتت أنها تملك القدرة على استقطاب شريحة واسعة من خلال خطابها الإعلامي؟

– المشهد الإعلامي السوري تغيّر على نطاق واسع منذ اللحظة الأولى لبدء الاحتجاجات. فالمنظور الأولي المزدوج الذي كان يختصر المشهد بـ”إعلام النظام مقابل إعلام المعارضة” أصبح اليوم متشظياً. فيما باتت التغطية الإخبارية للأحداث مربكة على أكثر من صعيد،  خصوصاً مع تدخل جهات فاعلة عديدة تفرض قراءتها للأحداث التي يتم تقديمها للجمهور المحلي والعالمي. عدا عن أنه ثبت لنا عبر سنوات الصراع، أنّ الرواية التي يقدمها كل من إعلام النظام والمعارضة، هي في الواقع أكثر تعقيداً مما هي عليه، بل وإنها متعددة الجوانب والأوجه.

وكان لظهور تنظيم “داعش” واستخدامه أدوات إعلامية ورقمية متطورة، أن زاد من تعقيد بانوراما الأخبار وخلق عامل تنافس جديد في المشهد الإعلامي، يمكن النظر إلى نجاحه من خلال قياس نسبة أتباع ومناصري التنظيم عبر الانترنت، وأولئك الذين يتفاعلون مع مواده الدعائية ويقررون الانضمام إلى صفوفه.

وإلى جانب كل ذلك  يضاف الأسلوب الذي تعتمده وسائل الإعلام الاقليمية والعالمية في وصف وتقديم الأزمة السورية، انطلاقاً من أهداف سياسية واستراتيجية تسعى للتأثير في الرأي العام لصالحها، فيما هي تفاقم حدة الأزمة بذلك.

* ما هي مسؤولية الإعلام، بوسائله المتاحة، لناحية أدائه التقييمي، في ما يتعلق بالتنسيق والتعاون بين مختلف وسائل الإعلام والناشطين؟ وهل كان من الممكن للإعلام تقديم أداء أفضل يخدم من خلاله الثورة من خلال تقديمه لتحاليل تستبق الاحداث أو انتهاج أسلوب معين يهدف لتفادي العنف والدم بعيدأ من المسار الخطير الذي أراده النظام للثورة؟

– برأيي التنسيق بين المواطنين الصحافيين والنشطاء السوريين المنتشرين في كافة المناطق كان ملحوظاً بشكل جيّد، لناحية تبادل المعلومات والحيثييات حول الأحداث على الأرض، مع الأخذ في الاعتبار حدة الحرب والتقسيم الذي تسببت به الأزمة السورية، والصعوبات العملية والفعلية التي خلقتها وأرخت بثقلها على مختلف المجالات بما فيها الإعلام. لكن المشكلة الحقيقية تكمن في كيفية تظهير هذه الوقائع في وسائل الإعلام، بحيث كانت ولا تزال تتم قولبتها في إطار معين من قبل مراسلين وصحافيين محترفين يعملون لصالح مؤسسات محلية وإقليمية وعالمية تلتزم بسياسات بلدها أو بأهداف استراتيجية أبعد وأوسع.

وهنا أود أن أشير،على سبيل المثال، إلى التركيز الإعلامي الملحوظ على الأبعاد الطائفية للأزمة السورية إلى جانب شيطنة أقليات محددة. فهناك سعي إلى تكريس الصبغة الطائفية للحرب الأهلية، سواء عبر المصطلحات أو التقارير والمقالات والتحاليل الإعلامية عبر جهات مؤيدة للنظام وداعمة له، أو من قبل جماعات من المعارضة أو جهات اقليمية فاعلة يتم التعويل عليها من قبل أطراف مختلفة خدمة لأهداف ومصالح دعائية وسياسية، مع التشديد على حقيقة أن النظام السوري منذ البداية عمد إلى إلباس الصبغة الطائفية للصراع لتبرير ما يقوم به من معارك، ولإقناع الجميع أن دوره ضروري في توحيد سوريا، عدا عن الجهات الإقليمية الفاعلة في الحرب السورية، وأبرزها السعودية وإيران اللتان أطلقتا حروباً بالوكالة عنهما في المنطقة.

* في رأيك، هل أصبح الإعلام بعد الربيع  العربي أكثر حرية مما كان عليه قبله؟ أم أنه أضحى أسيراً للتجاذبات السياسية، بوقوعه تحت تأثير نفوذ الأطراف الداعمة والممولة له، والتي بالطبع لها سياساتها ومصالحها التي تتعاطى من خلالها مع القضية السورية؟

– لن أقول إنه بعد الربيع العربي لن تصبح وسائل الإعلام حرة ومستقلة، على الرغم من أني أملك بعض الشكوك تجاه الطبيعة الحرة والمستقلة للدول الغربية الديموقراطية.

بيار بورديو قال إن رسامي Quattrocento، ذهبوا في مسار طويل للحصول على الاستقلال عن أسيادهم حتى يكونوا قادرين على البت في موضوع وألوان لوحاتهم. الأمر عينه ينطبق على الصحافيين في المنطقة العربية وفي بقية أنحاء العالم، حيث لا يزالون يقاتلون من خلال الوسائل المختلفة للحصول على الاستقلال الكامل.

يبدو جلياً في سوريا اليوم وجود مشهد إعلامي متعدد الأوجه، يتيح للجمهور إمكانية اختيار الوسيلة الإعلامية التي تمثل آراءه ومواقفه، وهو ما لم يكن متاحاً في السابق. لكن هذا لا يعني وجود وسائل إعلام “مستقلة”، إذ يحتاج  تحقيق ذلك إلى اتباع مسار أطول بكثير.

* في إحدى دراساتك عن المرأة والإعلام في الثورة السورية، ذكرتِ بأن الربيع العربي لم يكن ثورة غيّرت الأنظمة السياسية فحسب، بل كان في أحد جوانبه ثورة جندرية. كيف يظهر ذلك في القضية السورية؟ وكيف تُرجم في التعاطي الإعلامي؟

– نعم الثورة السورية في أحد أوجهها هي ثورة جندرية، لدخول المرأة السورية في جميع مستويات الثورة ولتأثيرها في مختلف مراحل الصراع. كما أن المرأة السورية لا تعيش في الواقع مفاعيل الثورة والأزمات التي تشهدها بلدها فقط، بل إنها تخوض ثورة داخل الثورة عبر محاولات إثبات وجودها في مختلف القطاعات والمجالات التي لم تفتح لها من قبل.

وأود هنا التركيز على دور المرأة في الإعلام، فالنساء السوريات أثبتن وجودهن على جميع المستويات، إن كان لناحية تقديم التقارير من مناطق النزاع، (في بعض الأحيان أكثر من نظرائهن من الرجال) أو لناحية كتابة المقالات وإنتاج أشرطة الفيديو الوثائقية واستخدام وسائل الإعلام الاجتماعية كأداة لإعلام وتمكين المرأة السورية وحثها على الاضطلاع بدور أفضل، سواء في المناطق التي يسيطر عليها النظام أو تلك الخاضعة لسيطرة المعارضة. إضافة إلى مخيمات اللاجئين والأقاليم التي تقع تحت سيطرة الدولة الإسلامية. وعلى سبيل المثال، فقد لعبت مجموعة من الناشطات السوريات، مثل رزان زيتونة ورزان غزاوي أدواراً لافتة كان لها تأثيرها في الكشف عن انتهاكات النظام وفي الدفاع عن حقوق الانسان.

* أحد إفرازات الربيع العربي والثورة السورية على وجه الخصوص، هو الصراع المذهبي الذي أكثر ما برزت معالمه في صفحات مواقع التواصل الاجتماعي. ويعتبر كثيرون أن لهذا الأمر أسباباً موضوعية، كون الصراع الأساسي صراعاً بين السعودية وإيران، تُرجم لأشكال مذهبية في عدد من بلدان الشرق الأوسط، خصوصاً سوريا والعراق. برأيك ما هي أسباب تفاقم حدة هذا الخطاب؟ وهل هو مرشح للتصعيد والاستمرار، أم أن هناك وسائل لخفض منسوب هذا الخطاب وإعادة تحويله لصراع سياسي بحت؟

– رغم وجود عدد من المبادرات الرامية إلى رسم صورة أكثر عدلاً للأزمة السورية، تعتمد على أخبار ومعطيات دقيقة، إلا أن قسماً كبيراً من وكالات الأنباء ووسائل الإعلام ما زال يفتقر للدقة والمهنية والمسؤولية الأخلاقية في التعاطي مع الموضوع السوري، وسط تبنيه المباشر لخطاب الأطراف المتحاربة، أو قولبته بما يخدم أجندات سياسية أو دعائية، سواء بالتركيز على السرد الطائفي وتغذيته ودفعه دائماً إلى الواجهة، أو عبر تشويه صورة بعض الأقليات. وللأسف فإن اعتماد الأداء الإعلامي على هذه العناصر، أثبت أنه يساهم في تفاقم حدة الصراع وخدمة مصالح أطرافه.

* على الرغم من خطورة العمل الصحافي في سوريا، ورغم أن عشرات الصحافيين والعاملين في مجال الإعلام دفعوا ثمن إصرارهم على نقل مجريات الأحداث، فكان أن اختطفوا أو اعتقلوا أو قتلوا، ومع أن هناك تقارير لوسائل إعلامية غربية خدمت الثورة وأطراف المعارضة وأخرى خدمت النظام وحلفائه… وبالرغم من عزلة بشار الأسد.. غير أن الأسد وجد في كبريات الصحف والمؤسسات من سعى إلى مقابلته وكسر الحصار عنه، فيما تمت في المقلب الآخر مقابلة زعيم “جبهة النصرة” أبو محمد الجولاني على سبيل المثال..

في أي إطار تضعين مثل هذه المقابلات؟

– لا أعتقد ان إجراء مقابلات مع بشار الأسد أو الجولاني هو أمر غير مهني، إذ يفترض بوسائل الإعلام أن تنقل أصوات ومواقف الأطراف كافة، وبعد ذلك تترك للجمهور حرية تكوين آرائهم الخاص. ووجود مشهد إعلامي متنوع ومتعدد الأوجه يمنح الجمهور فرصة اختيار وتفضيل الوسيلة الإعلامية الأقرب إلى وجهة نظرهم. لكن ما يحصل من تجاوزات مهنية هو حين يتم توظيف هذه المقابلات لخدمة إيديولوجيات متطرفة أو تحريضية او لخلق حقائق لا تمت للواقع بصلة. ويمكن توجيه هذا النوع من النقد أيضاً إلى وسائل الاعلام العربية وقنوات البث الدولية والروسية، ممن يوظفون المواد والتقارير “الخام” التي تصلهم من النشطاء على الأرض في سياقات لا تخدم سوى أجندات سياسية أو مصالح مستفيدين من تفاقم الصراع واستمراره في سوريا.

* لكن في أي من تلك الخانات تدرجين ما أطلقتِ عليه خلال مشاركتك في المؤتمر بـ”المساعدات الإعلامية” Media Aids، الذي أتى في سياق حديثك عن “الوجه المزدوج للمساعدات الخارجية” في سوريا. وأين هو موقع المساعدات الإعلامية الخارجية في هذه المعادلة؟ وما أهمية وجودها في هذا الصراع؟

– برامج تطوير وسائل الإعلام أصبحت ركيزة أساسية في الاستجابة الدولية للأزمة السورية المستمرة، وذلك في سياق وجود عدد من الجهات الفاعلة في مساعدة وسائل الإعلام العاملة في سوريا، سواء من الحكومات والمنظمات المتعددة الأطراف أو عدد كبير من المنظمات غير الحكومية المحلية والدولية.

وتشكل كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أبرز الجهات الأساسية المانحة في هذا المضمار، والتي تعهد بمشاريع إلى عدد كبير من المنفذين أمثال BBC Media Action، و Internews، و L’Association du Soutien aux Media Libre ASML، وشبكة “أريج” للصحافة الاستقصائية وغيرها. وتهدف هذه البرامج إلى تقديم الدعم والمساعدة التقنية إلى جانب التدريب والدعم المالي لمراكز الإعلام والناشطين في الداخل السوري، من أجل الحفاظ على تدفق الأخبار من المناطق السورية، إلى جانب تعليم السوريين تقديم الأخبار بطريقة مهنية ودفع الإثارة والدعاية جانباً خدمة لقضيتهم في المقام الأول.

*هل يمكن لهذا النوع من البرامج، أو مبادرات أخرى مرتبطة بتجارب إعلامية حديثة ظهرت بعد الثورة السورية، أن تدفع، رغم تعقيدات المشهد السوري، إلى تصحيح المسار وتفادي أخطاء الماضي وتحويلها إلى إيجابيات لتفعيل الدور الإعلامي في المستقبل لما فيه من تفادٍ لانفجارات في بلدان أخرى مرشحة لأن تكون مسرحاً للنزاع، مثل لبنان؟ أم أن الاحتقان السياسي والطائفي  سيبقى مرخياً بثقله على المشهد الإعلامي في سوريا والمنطقة؟

– النزاع السوري أثبت أن الإعلام الجديد لم يخول المواطنين مجابهة النظام الاستبدادي، فيما تحول أيضاً إلى أدوات “تنفيذ” في الصراع، للقتال ولبث الخوف في العدو ونشر الرعب بين صفوفه. ما أسعى إلى قوله هو أن وسائل الاعلام الجديد أثبتت أنها تملك القدرة على توحيد السوريين، في حين أنها قادرة أيضاً على تفتيت النسيج الاجتماعي للبلد.

في اليوم الذي سينتهي فيه الصراع في سوريا، والذي نأمل أن يكون قريباً، سيكون على وسائل الإعلام أن تتولى مهمة صعبة جداً، وهي خياطة الجروح التي سببها العنف نتيجة الانقسامات السياسية والطائفية والدينية التي أثيرت وتم تظهيرها خلال سنوات الحرب الوحشية.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى