مراجعات كتب

«البدائيون» والإثنوغرافيا والعقلانية الاقتصادية في القرن العشرين/ محمد تركي الربيعو

 

 

شهدت سبعينيات القرن التاسع عشر إعادة صياغة لنظرية جون ستيوارت ميل (الليبرالية النفعية) إلى ما بات يعرف بالنموذج الكلاسيكي الجديد الذي ما زال يسود علم الاقتصاد إلى يومنا هذا. وكانت هذه الصياغة كلاسيكية من حيث أنها واصلت احتفاءها بالسوق بوصفه المصدر الرئيسي لزيادة الرفاه الاقتصادي، غير أنها استبدلت النظرة التقليدية إلى القيمة الاقتصادية بوصفها ملكية تتصارع عليها الطبقات المختلفة، برؤية تركز على الحسابات الذاتية للأفراد في النشاط الاقتصادي باعتبارها حسابات عقلانية تسعى إلى تعظيم منفعتهم الخاصة.

وعُرِفت هذه الرؤية الجديدة للنوايا المنفعية للأفراد بمصطلح «الانسان الاقتصادي» الذي لا تُحرِّض أعماله ونشاطاته الاقتصادية أو الاجتماعية سوى المصلحة الذاتية الفردية، وهو ما يعني على مستوى العلوم الإنسانية صعوداً لفكرة «الفردانية المنهجية» التي تحجب أي دور للعوامل السياسية أو السوسيولوجية في النشاط الاقتصادي وتبقي فحسب على رؤية نفعية وعقلانية لهذا السلوك.

في مقابل هذه الصياغة الجديدة، كان بعض الانثروبولوجيين أمثال لويس مورغان وإميل دوركهايم يرفضون هذا التقليد النفعي الجديد لأنه لم يكن قادراً وفقاً لرؤيتهم على إدراك كيفية تشكل التفضيلات التي تشكل السلوك الاقتصادي للأفراد في المجتمع، وكيف أن هذه التفضيلات لا تخضع دائماً لنوايا نفعية وعقلانية، بل هي في ظروف عديدة قد تكون نابعة من اعتبارات اجتماعية أو دينية. ولذلك أخذ هؤلاء الباحثون في سبيل مواجهة هذه الرؤية التبسيطية للسلوك الاقتصادي يولون الأهمية للبحث الاثنوغرافي كساحة بحثية مضادة قادرة على فهم دوافع السلوك المعقد في مجالات الإنتاج والتوزيع والتبادل والاستهلاك، مما ساهم لاحقاً بحسب الأنـــثروبولوجيين كريس هان (جامعة برلين) وكيث هات (جامعة لندن) في إزاحة فكرة «الانسان الاقتصادي» لصــــالح براديغــــم جديد يولي اهتماماً أكبر بالمحلي بدل الركون لنموذج عالمي، انطلاقاً من أن نتائج العديد من الدراسات الاثنـــوغرافية التي قام بها هؤلاء الانثربولوجيون قد أظهرت لهم أن سلوك الأفراد الاقتصادي وخياراتهم قد لا تكون نتيجة ما يقومون به من حسابات نفعية، ولكنها تأتي أيضاً نتيجة لسياقات عائلية ودينية واجتماعية متعددة.

وأما كيف؟ ومتى استطاع الأنثربولوجيون الوصول إلى هذه النتيجة المتعلقة بدفن فكرة المخلوق الاقتصادي النفعي؟، فيحاول الأنثربولوجيان السابقان أن يرسما لنا من خلال كتابهما «الأنثروبولوجيا الاقتصادية: التاريخ والإثنوغرافيا والنقد» ترجمة عبد الله فاضل/المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» صورةً عامة عن بعض هذه المساهمات الريادية داخل الحقل الأكاديمي لبعض الدول (ألمانيا والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا) والتي باتت تعرف لاحقاً بدراسات الانثروبولوجيا الاقتصادية.

ووفقاً للكتاب، فقد لعب النمساوي ريتشارد ثورنفالد درواً بارزاً في خلق الجنين المتمثل في الأنثروبولوجيا الاقتصادية في البلدان الناطقة بالألمانية. مع ذلك فقد أغفلت مساهماته المؤثرة والقائمة على أبحاث إثنوغرافية ميدانية داخل العالم الناطق بالإنكليزية نتيجة تهميش الأعمال الأكاديمية الألمانية بعد عام 1945. وكان ثورنفالد ينظر إلى علم الاقتصاد بوصفه شأناً اجتماعياً، كما كان حذراً في التفريق بين الاقتصادات التي ينقصها المال والاّلات وتلك التي يهمين عليها المال والاّلات.

وبعد بعثات في غينيا الجديدة أثناء الحرب العالمية الأولى، كان ثورنفالد أول من أظهر العملية التبادلية بمعنى «خذ واعطِ» بوصفها مبدأً أساسياً من مبادئ التنظيم الاجتماعي في تلك المجتمعات. في الفترة نفسها كان برونيسلاف مالينوفسكي يبرز بوصفه أحد مؤسسي هذا الحقل الجديد في بريطانيا، وتحديداً من خلال دراساته في جزر تروبرياند (غينيا الجديدة)، لكنه على عكس ثورنفالد أخذ يشدد منهجياً على العمل الميداني الكثيف في موضع واحد وعلى تصوير الفاعلين الإنسانيين الأفراد تصويراً تفصيلياً.

وقد مثل مالينوفسكي تحدّياً للاقتصاديين وذلك بإصراره على أن ميل سكان تروبرياند في تحويل البضائع إلى هبات يدحض فكرة «الإنسان الاقتصادي النفعي» بوصفه نموذجاً إنسانياً عالمياً. كما بين في عمله مستكشفو غرب الأطلسي كيف أن الجزر قد تمكنت من إقامة نظام متطور للتجارة في ما بينها من دون أسواق أو نقود أو دول، وعلى أساس الكرم، لا على أساس الجشع. كما قدم في كتاب آخر له الحدائق المرجانية وسحرها وصفاً تفصيلياً لحدائق السكان المحليين المزروعة بنبات «اليا». وهو وصف سعى من خلاله للفت الانتباه إلى دور التعاويذ السحرية في الإنتاج. إذ كان سكان تروبرياند ينتجون من اليام أكثر بكثير مما يستطيعون استهلاكه، وكانت كميات كبيرة تعطى شعائرياً على شكل يوريغوبو (حصة غذائية سنوية) إلى أقربائهم من جانب الأم، كما كانوا يتباهون كثيراً بمظهر حدائقهم، وبذلك كانوا يدحضون أي فكرة حول أن «المتوحشين» قد قصروا جهدهم على الحد الأدنى اللازم للبقاء. في الوقت ذاته، كان الكثير من العمل، كما بينت دراسة مالينوفسكي لطقوس «الكولا»، يجري فردياً، تاركاً في العادة حيزاً ما للخيار الفردي.

وفي النهاية، قدم مالينوفسكي وصفاً تفصيلياً لنظام تملك الأرض، مجادلاً بأن الطرائق التي حاز بها سكان تروبرياند أراضيهم واستعملوها ليست فردية أو جماعية بل الاثنان معاً. وفي الواقع، كانت علاقات الملكية هذه مفتاح تنظيمهم الاجتماعي برمته. وبذلك مثلت هذه الخلاصة ـ وفقاً للكتاب ـ قطعاً مع النظريات التطورية التي افترضت صعوداً راسخاً في الملكية الخاصة.

في مكان آخر كان ريف المكسيك حقلاً ملائماً ومحفزاً للانثربولوجيين الامريكيين الذين كانت تنقصهم إمبراطورية خارجية كبيرة ممتلئة بالقبائل، فبذلوا اهتماماً خاصاً بالجماعات الهندية الأصلية، وبرز في هذه الأثناء جورج فوستر كرائد في تناول التقاليد البدائية والشعبية في المكسيك في اثنين من كتبه، إذ قدم من خلالهما معالجة متطورة للسياق الاجتماعي والثقافي الذي تتخذ فيه القرارات الاقتصادية. لاحقاً غدا معروفاً بفضل أطروحته صورة الخير المحدود لدى الفلاح، وهي أطروحة تدور فكرتها حول أن الأشياء الخيرة في الحياة نادرة، إذ يرجّح أن يكون ما يكسبه شخص خسارة لآخر. وبدا أن هذا يقدم شرحاً ثقافياً معقولاً لرفض الفلاحين في المكسيك وفي أماكن أخرى، أن يتبنوا الفرص الاقتصادية الجديدة.

وفقاً للكتاب، فقد بقي الأنثروبولوجيون طوال هذه الفترة يهتمون بدراسة المجتمعات «البدائية» أو ما قبل الصناعية وذلك في سياق نقدهم لفكرة العقلانية الاقتصادية، غير أن هذا الوضع أخذ يشهد تحولاً مع بداية الثمانينيات عندما أخذ علماء الأنثروبولوجيا الاقتصادية يسعون إلى دراسة الرأسمالية الغربية دراسة إثنوغرافية نقدية. وقد عززت ثلاثة تطورات تاريخية هذه النقلة: نهاية الحرب الباردة التي رحب بها بعضهم في الجانب المنتصر وعدها «نهاية التاريخ»، وصعود الصين والهند بوصفهما قوتين رأسماليتين، ما مثل تحدياً آسيوياً جدياً للهيمنة الغربية، والثورة الرقمية في الاتصالات التي يعد الانترنت رمزها الأوضح. وفي هذا السياق راح بعض الأنثروبولوجيين يركزون في دراساتهم الميدانية على دراسة «ثقافة الاستهلاك»، انطلاقاً من وجهة نظر أخذت تعتقد أن الجماهير الغربية ما عادت تساهم الآن في الرأسمالية بوصفها منتجة بل بوصفها مستهلكة أساساً. ولذلك كان التحدي بالنسبة لهم تفسير ما يدفع الناس في الاقتصاديات الحديثة إلى شراء الأشياء على نحو يسوقهم أحياناً إلى مشكلات وتضحيات كبيرة دون أن تكون هناك حاجة فعلية لها. وقد توصل بعضهم من خلال دراساتهم الاثنوغرافية داخل عالم الاستهلاك الرأسمالي، إلى أن نماذج الاستهلاك تساعد الذات في بناء هوية اجتماعية وثقافية وأحياناً سياسية، ولذلك تصبح الاختلافات في الأشياء التي نملكها لغة اجتماعية، وفي هذا السياق بين مثلاً كل من دانييل ميللر وصوفي شيفاليه في دراساتهما حول الاستهلاك في عالم الإنترنت والهواتف الجوالة، أو في مجالات أخرى كالملابس من سراويل الجينز في لندن إلى الساري في الهند، بأن المجالين العام والخاص يتفاعلان عن طريق الأشياء التي تدخل البيت أو يقتنيها الشخص، كما أن الناس يعيدون بناء ذواتهم وهوياتهم المتخيلة عن طريق الممارسات الاستهلاكية التي تجمع بين العام والخاص، بين الجماعي والفردي. وبذلك أخذت هذه الدراسات تعزز من فكرة «أنسنة» السلوك الاقتصادي بدل التقليد النفعي والعقلاني الذي بقي يصر على تعريف الفعل الاقتصادي باختصار بأنه السعي وراء المصالح الفردية.

٭ كاتب سوري

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى