صفحات الثقافة

البرزخ الفاصل بين الكتابة والمحو/ رشدي المومني

 

 

يمكن اعتبار المحو محاولة موجَّهة ضمن استراتيجية معينة، قوامها الذهاب بالشيء إلى تخوم العدم. ذلك الشيء الذي كان أمامنا، ومنذ هنيهة فقط، حيث كنا قد انتهينا للتو من تدوينه في محاولة ممكنة منَّا لإخراجه إلى فضاء الكينونة. ذلك الشيء الذي أبدا لم يكن أمامهم مرئيا دون أن يكون بالضرورة مجهولا، كما هو الشأن بالنسبة لأي مرئي يبدو مكشوفا أمام العيان، من غير أن يُلزم ذاته بمبارحة مجهوليته. ذلك أن ثمة فرقا شاسعا بين أن يكون الشيء معلوما، دون أن يكون مرئيا، وبين أن يكون مجهولا وغير مرئي. ففي الحالة الأولى، لا يمكن اعتباره في حكم العدم، بسبب عدم رؤيتنا له، ذلك أنه موجود على مستوى الظن، وعلى مستوى التخمين، الذي يعود مصدره إلى سابق رؤيتنا له في مكان /أمكنة ما، ووفق شروط معينة من شروط الوجود، التي قد يكون عليها الآن هناك، غائبا عن الرؤية، وحاضرا في الوجود.

إنه فقط معدوم بالنسبة لحد الرؤية التي هي رؤيتنا نحن، هنا والآن، حيث لن يكون ممكنا تعميم حالة العدم عليه وحالة المحو، إنه في هذا السياق ممحو هنا، ومثبت هناك، حيث ليس لي أن أقول بعدم وجود ما هو موجود في مكان ما غير هذا المكان الذي أنا فيه. بمعنى أن ما أفكر في كتابته موجود أيضا، ضمن حدسنا بحضوره فينا، أي إنه موجود بقوة احتمال تدويننا له، وإخراجنا له من عتمة الحدس به إلى ضوء التدوين المرئي والموثق. إنه وقبل ذلك، يعتبر في حكم العدم التام بالنسبة للآخر، وليس بالنسبة لمن يحدس بوجوده فيه، أي بالنسبة لمن هو في إمكانه تدوينه وكتابته. وهو ما يدعونا إلى القول باستحالة الحديث عن عدم تام ومطلق، فسقوط الشيء في العدم من المستحيلات، لأن ما يتعرض للمحو هنا، سيظل حاضرا هناك، وفي حالة اختفائه التام من الأمكنة، فإنه سيظل مشيرا إلى حضوره السابق، ما يجعله يعود إلى الوجود بشكل مختلف.

في هذا الإطار، وضمن هذا التصور، يصبح الحضور الرمزي، هو الملاذ الفعلي الذي يلجأ إليه الشيء إثر زواله وفنائه ماديا، وهو ما يكشف عن امتلاك الشيء لأكثر من بنية، وأكثر من بقاء. فمهما تعددت مستويات المحو، فإن مستويات التظهير الذي قد تمارسها الكتابة، هي أيضا تظل محتفظة بعنف وبطراوة حضورها، لأن المحو غالبا ما يكون مصابا بغير قليل من العمى، حيث ينصرف عن رؤية بعض التفاصيل التي تمتلك قدرتها على الانبعاث بصيغ جذرية، الشيء الذي يؤدي إلى فقدانه دلالته المعجمية، كي يصبح جاهزا لممارسة وظيفة جديدة مغايرة لوظيفته الأصلية، ومتسمة بطبيعة تلميعية وتحفيزية، هدفها بث الحياة في ما كنا نعتقد أننا محوناه، وأجهزنا عليه.

وفي هذا السياق تحديدا، يمكن الحديث عن الأثر الذي نعتبره البرزخ الفاصل بين المكتوب والممحو، لأنه يتيح للأصل فرصة تجديد حياته، بتواز مع تجديد عملية المحو. وبالتالي، فإن النقاش يمكن أن ينصب على المحو بما هو قراءة، وبما هو إعادة كتابة وانكتاب، خاصة أن الحديث عنه، غالبا ما يخضع للكثير من التعميم، بعيدا عن منطق التماس مع أسراره، ما حوله إلى مجرد شعار غامض، يوهم بحدوث قطيعة نظرية أو معرفية مع نصوص، ومع أنساق معينة. ودون أن نلغي من الحساب كل هذه الاعتبارات، فإننا سنكون مطالبين بالتركيز على آلية اشتغال المحو، بما هي آلية إعادة القراءة وإعادة الكتابة، بمعنى أن قولنا به، هو قول بمنهجية عمل، وباستراتيجية قراءة، قد تكون متمحورة حول أصل ما. قراءة موجهة برؤى معينة للكتابة، للكون وللإبداع، الذي يدخل في حوار نقدي مع النص الأصلي الذي تشتغل من خلاله، وعلى ضوئه عملية المحو، حيث تقوم بتغيير مسار النص، لذلك يعتبر هذا الحوار أيضا شكلا من أشكال المحو الذي يغير وجهة الإضاءة، من الوجهة التي يتموقع فيها الأصل، إلى الوجهة التي يحفر فيها النص مساره. بمعنى أن الأصل يكون كامنا في الظل وغير مرئي، إنه فقط منسي قليلا، وينتظر فرصة عودته بصيغ مختلفة، حيث يأخذ المحو شكل ممارسة إبداعية ثقافية وتثقيفية في آن، كما يأخذ شكل المجال الذي تختبر فيه الذات إمكانياتها في التعرف واكتشاف آلية اشتغال الدلالة، علما بأنه ليس مجرد حركة آلية يراد منها الدفع بنص، أو بكينونة ما إلى العدم، بل هو إلى جانب هذا وذاك، ممارسة معرفية، لأن ما يتم محوه في النص، هو ما ينبغي تجاوزه واستبداله بمكونات أخرى، قابلة لتحقيق امتداد دلالي، منسجم مع شروط التلقي الأكثر تفاعلية، والأكثر إقناعا، حيث لا يجوز التعامل معه بكونه مجرد إلغاء لحضور يتمتع بملابساته الخاصة به، نظرا لأنه ينصب أساسا على ما يحول دون رؤية الجوهر الذي تخفيه الكتابة. فما كتبته أنت أيضا، ربما قد يكون أخفى كتابة أخرى. إن المحو هنا هو بحث عن الأصل الذي ربما تم تشويهه بفعل تتالي الكتابات، إنه الأصل الفعلي القابل لاحتمالات أكثر من صيرورة، إنه بشكل أو بآخر، بحثٌ عن بَكارة الصفحة في علاقتها بالنص الأصلي، حيث سنجد أنفسنا مباشرة في قلب يوتوبيا البحث عن النص، الذي لم يتعرض بعد إلى التشويه. وهو ما يبدو لنا طبيعيا، لأن اللجوء إلى اليوتوبيا هو بمثابة حد أقصى للبحث عن النص المغاير. هنا يصبح الذهاب إلى النص عبر طريق مضاد ومعكوس.

إن الجانب اليوتوبي هنا، يعني جودة تصنيع النص، اي توخي تحقيق أكبر نسبة من التظهير النصي، وهو التظهير الذي يرتقي بالكتابة إلى مدارج الإقناع الجمالي، الناتج عن محوٍ تٌوظَّفُ فيه كل الإمكانيات المعرفية التي تمتلكها القراءة، والخبرة الجمالية والتقنية.

إن المحو هو المحك الذي تتأكد على أساسه معرفة الذات، بما هي بصدد كتابته ومقاربته. إن من لا يمتلك شروط الكتابة، لا يمكن بحال أن يملك شروط المحو، لأنهما معا ينتميان إلى كفاية مشتركة. ربما أيضا، يتعلق الأمر بالبحث الدائم عن الأصل الذي يبدو ظاهريا أنه أمسى منبوذا، والذي لا نعتقد أنه مستعد بشكل أو بآخر للاحتجاب. إن الأصل دائما وفي سياق إصرارنا على تجاوزه ونسيانه، يتخذ شكلا مغايرا، ومضادا لطبيعته من أجل تأمين استمراريته. كما إنه وفي إطار لباقة معينة، يضع أمامنا جذرا من جذوره، أو فرعا من فروعه القابلة للتناسخ وللتكاثر. بهذا المعنى يمكن القول، إن الأصل وفي مختلف المجالات المعرفية، لا يمتلك بحال من الأحوال شكلا ثابتا يمكن الإجهاز عليه أو التخلص منه، حيث يخيل للبعض، أن التخلص من هذا الأصل العام والمشترك، هو الوسيلة الوحيدة للتخلص من ربقة النموذج الأبدي، الذي يلزمك بالإنصات إلى تعاليمه. بما يتضمنه هذا الإنصات من تعطيل ممنهج لأي تفكير ذي طبيعة مستقبلية. فديمومة الأصل يلغي أي إمكانية للتفكير في المغاير اليوم أو غدا، لذلك فإن الإجماع على شكل ثابت، وعلى هوية أصل معين، يُيَسِّر مهمة تفجيره وإبداله، كما يسهل من مأمورية الدفاع عنه وصيانته، وهو ما يجعل منه قوة تحتفظ بحضورها، باعتبار أن الأصل هو جماعٌ غيرُ محددٍ من الأصول المتباينة، من حيث الشكل ومن حيث الجوهر. وحينما يُتَّهَم خطاب فلسفي أو إبداعي، بتصفية حسابه مع أصل ما، فإنه شئنا أم أبينا، يكون تحت هيمنة بديلٍ، وتجلٍّ مغاير من تجلياته، مهما حاول إقناعنا بتنكره له، وبمحوه التام له.

٭ شاعر وكاتب من المغرب

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى