صفحات العالم

البرزخ/ حسام عيتاني

في الرد على جريمة تفجير الضاحية الجنوبية، ركّزت أجهزة الدولة اللبنانية و»حزب الله» على المعطى الأمني.

كُشفت أسماء المتهمين بزرع العبوة التي استهدفت بئر العبد في تموز (يوليو) الماضي ونشر الحزب مسلحيه يقيمون الحواجز على مداخل الضاحية. في الوسع تبرير هذه الممارسات بضرورة الإمساك بالوضع وطمأنة الجمهور وسط مشاعر الغضب والذعر التي عمّت لبنان. المؤسسات الأمنية، كجزء من الدولة اللبنانية السائرة نحو التفكك، تشارك بدور الكومبارس في هذه المعمعة، منكفئة مرة جديدة أمام «غضب الأهالي»، المحق.

بيد أن الانكشاف الأمني الذي يشمل لبنان من أقصاه الى أقصاه، ليس أساس المشكلة التي يعاني بلدنا منها. العصابات الاجرامية التي ارتكبت مجزرة شارع الرويس الاسبوع الماضي، هي نتيجة وليست سبباً (مع التأكيد على تظهير النتائج لأسباب جديدة في المتاهة اللبنانية). ومن يعتقد ان محاربة التكفيريين ستفضي الى استقرار لبنان واهم جداً. وليس هناك أبعد عن الواقع من وصف النائب ميشال عون لمنفذي الجريمة بـ «الحيوانات التي تتخذ أشكالاً بشرية». فهؤلاء مواطنون كاملو المواطنة ونتاج مناخ وسياسات وتربية سائدة.

الانهيار الامني الذي يعيشه لبنان والمرشح الى التوسع، يجري اليوم تحت عنوان الجماعات التكفيرية. تُسلط الأضواء على أفراد وشبكات وتنظيمات يقال ان بعضها يتحرك ذاتياً فيما تقف أجهزة استخبارات خارجية وراء البعض الآخر. نزعم أن الجماعات هذه ليست سوى رأس جبل الجليد في الأزمة اللبنانية.

لم يبدأ الاستعصاء اللبناني مع اطلاق صاروخين على الضاحية قبل شهور. ولم يبلغ ذروته في مأساة شارع الرويس ومقتلته. الأهم ان ارسال «حزب الله» الآلاف من مقاتليه الى سورية هو حلقة في مسلسل تصاعد الاستعصاء وتعميق الأزمة وليس بداية طريق الخراب كما يرغب إعلام قوى 14 آذار في القول.

كُتب الكثير عن افلاس النظام السياسي اللبناني وعجزه عن تجديد نفسه. وقيل أكثر في ضحالة «النخب» أو الطبقة السياسية. لكن كل هذا اصبح وراءنا. فما نشهده اليوم هو استحالة قيام أي صفقة أو مصالحة لبنانية داخلية بين الفريقين الطائفيين الكبيرين: السنّة والشيعة، فيما توازن القوى المحلية والاقليمية على الحال التي هي عليه اليوم. بكلمات ثانية، انتهى اتفاق «الطائف» واختفت فرص إصلاحه، وبات اللبنانيون وحدهم مع كراهيتهم لبعضهم البعض، من دون وسيط عربي او دولي يعيد تقسيم الكعكة، او يضع أسساً جديدة لوقف اطلاق النار.

في واقع الامر، لم يعد لدى اللبنانيين ما يقولونه غير تبادل الشتائم والاتهامات، في انتظار الفرصة الملائمة لتبادل القذائف والرصاص. حتى التنقل بين المناطق صار يخضع لحسابات طائفية وأمنية. الخطاب الرسمي، من رئاسة الجمهورية نزولاً، لا يزيد عن مجموعة من الجمل الانشائية والدعاوى الشبيهة بما يتقنه رجل دين قروي. أبدع ما يقترحه السياسيون اللبنانيون للخروج من الوضع الحالي هو تشكيل حكومة يعلمون قبل غيرهم أن مآلها السقوط في هوة الانقسام.

انتهت السياسة في لبنان منذ زمن بعيد. تعفنت جثتها وتهرأت لكنها لم تُدفن بعد. لم يعد الفراغ وانعدام السياسة يخيف أحداً. فها هو ظاهر بكل جبروته. الأمن واحد من ضحاياه. اللبنانيون ينظرون الى الخارج منتظرين الخلاص من اقامتهم المديدة في البرزخ. البعض منهم بات يفضل الجحيم على آلام الفراغ والعبث.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى