صفحات سورية

البرنامج الانتقالي لليسار الثوري في سوريا


مقدمة

تشهد بلادنا، منذ منتصف اذار 2011، سيرورة ثورية، في سياق من الثورات التي تجتاح المنطقة العربية، تهدف من خلالها الثورة الشعبية السورية الى الخلاص من الدكتاتورية ، ومن اجل الحرية و الكرامة و المساواة والعدالة الاجتماعية، و تقدم على هذا الطريق اعظم الآلام و التضحيات الكبيرة ، بسبب العنف و القتل اللذين تتغول فيهما الدكتاتورية، في مواجهتها للاحتجاجات والنضالات السلمية للجماهير السورية.

وبالرغم من عظمة التضحيات هذه ووحشية العنف الدكتاتوري، فإن الجماهير الشعبية السورية مستمرة في ثورتها السلمية حتى تحقيق اهدافها المذكورة بإسقاط نظام الطغمة الحاكمة.

وان كان نافلاً التشديد على مدى الاهمية التي يوليها اليسار الثوري السوري لتحالف القوى الديمقراطية والاجتماعية عموماً في مواجهة الدكتاتورية، بما يتفق مع متطلبات النضال في المرحلة الراهنة، ومن منظور المصالح العامة و التاريخية للجماهير السورية ، في سياق الدينامية الثورية المستمرة، فإن اليسار الثوري في سوريا يؤكد على أنه يتبنى الاهداف الكبرى للثورة الشعبية السورية، من اجل الحرية والديمقراطية والكرامة والعدالة الاجتماعية، و يلتزم بالانخراط في كل النضالات الجماهيرية من اجل هذه الاهداف. واذ يرى ان الدينامية الثورية تندرج في سياق بناء الديمقراطية من الاسفل ، فانه لا يتوانى، في المرحلة الراهنة الانتقالية، عن تبني الدعوة الى بناء دولة ديمقراطية مدنية و تعددية. مع التأكيد على اننا نتبنى فكرياً الدعوة الى اوسع أشكال الديمقراطية التشاركية و الديمقراطية المباشرة، لكي تستطيع الغالبية العظمى من الناس ادارة شؤون حياتها بنفسها و مباشرة. و في الوقت نفسه، فقد برهنت الثورات العربية الجارية المترابطة، بما لا يدع مجالاً للشك، على حقيقة ارتباط النضال الجماهيري الديمقراطي، من الأسفل، بالنضال من اجل التغيير الاجتماعي الجذري، من الأسفل، أيضاً.

تحديات السيرورة الثورية في سوريا

جاء اسم إحدى الجُمَع الأخيرة في سوريا تحت شعار وحدة المعارضة . ومن الواضح أن هذه المسألة باتت تشكل هاجساً شديد الإلحاح لدى كثيرين جداً ، في الساحة السورية ، كما لو كانت هي الوحيدة القادرة على تسريع انهيار النظام ، ووضع حدٍّ للمجازر الدموية البشعة التي يرتكبها يومياً بحق الشعب الثائر . هذا فيما لا يتوقف المطالبون بالوحدة المشار إليها أمام التناقضات الجسيمة بين أطراف هذه المعارضة ومكوِّناتها ، ولا سيما حين نعرف أنه في حين لا تزال المجموعات الثورية، العاملة على الأرض، والتي تقود الحراك ، إلى هذا الحد أو ذاك ، تشدد على التزامها بالمبادىء الثلاثة المعروفة (سلمية الثورة ، والرفض المطلق للتدخل العسكري الأجنبي ، والإصرار على إسقاط النظام وعدم الحوار معه ) ، نلاحظ أن جزءاً من معارضي سلطة آل الأسد ، في الداخل ، مهتمون بالحوار معها ، فيما أن جزءاً ، أيضاً (وبالأخص من المعارضة المقيمة في الخارج) – وهذا هو الأخطر- إنما هم من أنصار عسكرة الانتفاضة الشعبية الحالية، لأجل إيجاد موطئ قدم لهم في الداخل . والأخطر ، أيضاً وأيضاً ، أنهم يحبِّذون التدخل العسكري الخارجي ، ويدعون إليه. وقد بدأت تأثيرات موقفهم هذا تصل إلى الداخل ، مع ظهور أصوات في التنسيقيات المحلية كانت بدأت تطرح الحماية الدولية، لتنتقل أخيراً إلى المطالبة بفرض الحظر الجوي !! أي بالتحديد الشيء نفسه الذي أدى ، في ليبيا ، إلى التدخل المباشر للحلف الأطلسي ، مع عواقب ذلك ، الأكثر من وخيمة ، بالتأكيد . وهو ما يستدعي إعادة النظر كلِّيّاً بشعار الوحدة ، ولا سيما بعد أن شرع يظهر أن المبادىء الثلاثة ، المشار إليها أعلاه ، تتعرض للانتهاك ، وقد تصبح أثراً بعد عين ، في الأسابيع والأشهر القادمة ! ولا سيما بسبب الغضب من وحشية النظام و ممارساته لأشكال من القمع لم يسبق لها مثيل في تاريخ سوريا. علماً بأن ثمة حاجة ، على العكس ، إلى التشهير بدعاة العسكرة – الذين يضعون القمح في طاحونة نظام يستميت الآن للمضي بالأمور إلى هذه الهاوية، وبخاصة إلى ما سوف يلازمها، على الأرجح، من اقتتال مذهبي يسعى لتفجيره بوسائل شتى، عبر تحريضه الطائفي المقيت – وبوجه أخص، إلى التحذير من مخاطر التدخل الخارجي على الثورة، وإلى إعداد المعارضة الجذرية نفسها للتصدي العملي لأي دور عسكري لاحق ، على الأراضي السورية ، للحلف الأطلسي ، أو أي قوى رجعية عربية، أو شرق أوسطية(إسرائيل ، أو تركيا أو غيرهما ) . وذلك ، بالطبع ، من دون التخلي عن الموقف الحاسم ، في الوقت عينه ، ضد الدكتاتورية البعثية.

بناء اليسار الثوري والمهام الانتقالية

في كل حال ، إن بين أسباب هذه البلبلة ، بخصوص مسألة قيادة الحراك الثوري ، القائم ، منذ ستة أشهر ونيِّف ، في سوريا، سبباً أساسياً يتمثل في غياب يسار ثوري منظَّم ، وفاعل، هناك ، بنتيجة الالتحاق التاريخي، الذيلي المقيت، للحركة الشيوعية التقليدية، بالنظام القائم، من جهة ، وتمكُّن هذا الأخيرعبر القمع الوحشي ، من جهة أخرى ، منذ الثمانينيات من القرن الماضي ، من سحق اليسار الثوري، بل و كل قوى المعارضة السياسية. وهو الأمر الذي يضع على أعلى جدول أعمال الثوريين ، في الساحة السورية، إنتاج يسار ماركسي ثوري منظَّم، من خلال الانخراط، على الأرض، في أعمال السيرورة النضالية المحتدمة الآن، وفي الوقت عينه، عبر التحلق حول مهام انتقالية راهنة و مباشرة تشكل جزءاً لا يتجزأ من برنامج انتقالي للمرحلة التاريخية التي افتتحتها السيرورة الثورية الجارية، سوف نورد ، في ما يلي، عناصر أساسية فيه، علماً بأنه قد يتم إغناؤه، لاحقاً، بعناصر أخرى، وفقاً لتطور هذه السيرورة . هذا ويمكن أن نقدِّر، منذ الآن، أن نجاح الجماهير السورية في إطاحة سلطة قائمة منذ أكثر من أربعة عقود، ومدججة بكل وسائل القمع والقهر، لن يتم بين ليلة وضحاها، وقد تطول معركة تلك الجماهير، لأجل تحقيق المطلب المنوه به، ما قد يتيح ما يكفي من الوقت – في سياق مخاض ثوري لا يقتصر على سوريا وحسب، بل يشمل بلداناً عربية أخرى، وقد يشمل لاحقاً كل البلدان العربية – لأجل بناء يسار ثوري فاعل، قادر على تعبئة كادحي شعبه ومعذَّبيه، وكل المتطلعين، ضمنه، إلى الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، على أساس البرنامج المتقدم الذي يرفعه، في مواجهة برامج القوى الأخرى، السياسية والاجتماعية.

من هنا تبرز المهام الانتقالية الراهنة و المباشرة،وهي التالية:

أ.اسقاط النظام و قيام حكومة ثورية مؤقتة تعمل على:

1- تفكيك البنية الأمنية للدولة

2- الدعوة لانتخاب جمعية تأسيسية ، على أساس التمثيل النسبي، تضع دستوراً لدولة مدنية ديمقراطية و تعددية، على أن يكفل هذا الدستور الحريات العامة و حقوق الانسان، ويحقق المساواة التامة بين المواطنين، بغض النظر عن انتمائهم الديني او الفكري او القومي او العرقي او الجنسي…الخ،في الوقت عينه الذي يطرح فيه الأهمية القصوى للجمع بين الديمقراطيتين، السياسية والاجتماعية،والالتزام بمسعى أساسي لإنجاز المهام الوطنية والقومية،سواء منها المتعلقة بتحرير الجولان المحتل، أو تلك المتعلقة بالدعم الفعلي لنضال الشعب الفلسطيني لممارسة حقه في العودة،وفي تقرير مصيره على كامل أرضه التاريخية.

ب. بناء اليسار الثوري في سوريا ، من خلال توحيد افراده و مجموعاته، والعمل على تحويله الى قوة سياسية و اجتماعية فاعلة، وتجميع مكوناته حول برنامج انتقالي ،من شأن النجاح في تعبئة حالة جماهيرية واسعة حوله،فتح الطريق أمام نضج الثورة الديمقراطية السياسية الراهنة إلى ثورة اجتماعية – وطنية شاملة، في مدى زمني غير بعيد، بالتحالف الوثيق مع قوى السيرورة الثورية، في كامل المنطقة العربية.

إن العناصر الأساسية لهذا البرنامج سوف تندرج تحت عناوين عريضة أربعة، يتعلق أوَّلها بالحريات الديمقراطية واستقلال القضاء ونزاهته؛ والثاني بفصل الدين عن الدولة، في إطار حرية المعتقد، وضمان حقوق الاقليات القومية؛ والثالث بالوضع الاقتصادي- الاجتماعي، وتحرر المرأة؛ والرابع بالمسألتين الوطنية والقومية .

أولاً:الحريات الديمقراطية واستقلال القضاء

منذ مجيء حزب البعث إلى السلطة، في العام 1963،جرى توجيه ضربة قاسية إلى الحريات العامة، على اختلافها، ولا سيما انطلاقاً من الهيمنة الوحدانية المطلقة للحزب المذكور، التي جرى تركيزها على الدولة والمجتمع، والمعبَّر عنها حالياً بالمادة الثامنة من الدستور. وهو الأمر، الذي استمر وازداد عنفاً، مع انقلاب حافظ الأسد، في خريف العام 1970. وهو انقلاب أرسى، إلى التوتاليتارية الحزبية، السيطرة العائلية لآل الأسد . وبالطبع، ليست المادة الثامنة وحدها هي ما يجب إلغاؤه، بل كامل الدستور السوري الحالي، مع الحاجة إلى وضع دستور جديد يقيم الديمقراطية السياسية الحقيقية، فضلاً عن الديمقراطية الاجتماعية، ويطلق شتى الحريات المعروفة ،ولا سيما حرية الرأي وإبدائه، وحريات المعتقد، والتجمع، والتظاهر، والإضراب، وتشكيل الأحزاب، والجمعيات، والنقابات المهنية ، والتنقل، وما إلى ذلك . على أن تضع هذا الدستور جمعيةٌ تأسيسية ينتخبها، بصورة نزيهة، على اساس التمثيل النسبي، كلُّ المواطنين والمواطنات، ومن ضمنهم الجنود، من دون أي تمييز بين هؤلاء الناخبين .

وفي سياق هذه العملية، فإن بين المهام التي يتضمنها هذا البرنامج، بالتالي:

حل كل النقابات التابعة للحزب الحاكم، ومن ضمنها، الاتحاد العام للنقابات العمالية، والاتحاد العام للفلاحين، والاتحاد العام لطلبة سوريا، وسائر الاتحادات الأخرى، وفتح المجال أمام إنشاء اتحادات مستقلة، في شتى القطاعات والمهن، والنشاطات الإنسانية، يكون الانتساب إليها حراً، ويتم عملها وفقاً لآليات ديمقراطية بالكامل، بعيداً من أي هيمنة مسبقة لأيٍّ كان .

أن يترافق ذلك مع حل كل أجهزة الأمن الحالية، ومحاسبة المسؤولين فيها عن أي جرائم ضد الإنسانية، مقترفة، وإعادة بناء الأجهزة الضرورية، لحماية أمن المواطنين والمجتمع، لا لقمعهم وإذلالهم، وقهرهم، كما هي الحال ، إلى الآن.

إعادة تأطير الجيش، على أُسس ديمقراطية، ما يضمن أمن الوطن، ويحمي حدوده، فضلاً عن مشاركته، عند الحاجة ، في حماية الأمن القومي للشعوب العربية، وفي معارك هذه الأخيرة لأجل تحررها، ولا سيما للمساهمة الفاعلة في تحرر الشعب الفلسطيني .

ولا بدّ من التشديد أخيراً، في هذا المجال، على مطلب استقلال القضاء التام، والاهتمام باستيفائه كل الآليات والشروط، التي تجعل منه قضاء نزيهاً، ونظيف الكف، يطبق القوانين، بأمانة واستقامة وعدل ،في دولة قانون حقيقية لا يُعتقل فيها الناس من دون جرم، ولا يتعرضون للتعذيب والإذلال، والقتل، في السجون، أو خارجها.

وعلى هذا الأساس، فإن بين أهم بنود برنامج انتقالي في مرحلة ثورية إطلاق سراح كل المعتقلين السياسيين، ومحاكمة مُعتقِليهم، وتقديم التعويضات المادية، والمعنوية إليهم ، فضلاً عن محاكمة كل المسؤولين عن جرائم بحق الشعب السوري، ولا سيما الجرائم ضد الإنسانية .

ثانياً: الفصل بين الدين والدولة، في إطار

حرية المعتقد، وضمان حقوق الأقليات القومية

إن الدين شأن شخصي و مجتمعي لا يجب ان تكون له علاقة بالدولة، لكن على الاخيرة أن توفر الضمان التام لحرية المعتقد والتعبير عنه وحق ممارسة الشعائر الدينية،وعلمنة الدولة والمجتمع، مع التأكيد على مسألة الفصل التام بين الدين والدولة، بحيث يكون التشريع، في شتى الأمور، بما فيه في قضايا الأحوال الشخصية، على اساس مدني، ويتمكن المواطن/ة من تسلُّم أي موقع في الدولة، أو في الإدارة، على أساس المساواة التامة، ومن دون أي تمييز، ديني، أو طائفي، أو قومي، أو ما إلى ذلك .

وعلى صعيد الاقليات القومية، فإن موقفنا واضح تماماً بما يخص الحفاظ على وحدة الوطن ووحدة النضال المشترك للجماهير الثائرة. ولكن بالإضافة الى القناعة الفكرية بذلك، ندعو إلى ضمان الحقوق القومية السياسية ، والاجتماعية، والاقتصادية و الثقافية كافةً للأقليات القومية، الموجودة في سوريا، ولا سيما منها الكردية، والأشورية، والأرمنية و الشركسية .

ثالثاً: الوضع الاقتصادي-الاجتماعي، وتحرر المرأة

لقد كان مجيء البعث للسلطة، في سوريا، في العام 1963، بعد الخطوات الجذرية، التي اتُّخذت، في مصر، ردّاً على الانفصال، وذلك على صعيد الملكية، حيث جرى اعتماد سياسة تأميمات مكثفة، على أساس تعزيز التوجه “الاشتراكي” للسلطة الناصرية . وهو ما ترك تأثيراً في سياسة السلطة السورية الجديدة، آنذاك، التي شددت على أنها – هي الأخرى- حريصة على اعتماد سياسة تجمع، إلى “الحرية والوحدة”، قضية البناء “الاشتراكي ” . لأجل ذلك، أعيد تأميم المشاريع التي كانت أعادتها حكومة الانفصال إلى مالكيها الاصليين، كما جرى خفض سقف الملكيات الزراعية، ما جذَّر، نسبياً، الإصلاح الزراعي، الذي كان قد تم، هو الآخر، خلال الوحدة بين سوريا ومصر. وهو ما حصل حتى في ظل حركة حافظ الأسد، المسماة بالتصحيحية، أيضاً، وفي المرة الأخيرة، في العام 1980. لا بل جرى تعزيز القطاع العام، في السنوات العشر الأولى من حكم الأسد الأب، عبر بناء العديد من المصانع الحكومية، على الرغم مما رافق ذلك من فساد منقطع النظير وسوء تنظيم كبير، أثَّرا في نوعية تلك المصانع، وبالتالي، في مستوى الإنتاج وكمياته، كما الحال إجمالاً في معظم مكونات القطاع العام السوري، وذلك لصالح بيرقراطية فاسدة، أو مفسَدَة، مستفيدة، كان الرأس الأعلى السابق للدولة حريصاً منذ بداية عهده على تشجيعها ، بأشكال شتى، على سلوك هذا الطريق.

وسوف يستمر هذا المنحى سائداً حتى العام1991، حين صدر القانون رقم 10، المسمَّى قانون تشجيع الاستثمار، الذي أتاح توظيف الأموال التي جمعتها تلك البيرقراطية من نهبها ملكية الدولة عموماً، والشعب السوري، بالتالي، في مشاريع خاصة، فضلاً عن توظيف رساميل أجنبية في هذه المشاريع. ما أتاح نمواً واضحاً للقطاع الخاص مذاك على حساب القطاع العام. وهو ما جرى تتويجه، في السنة الماضية2010، خلال المؤتمر العاشر لحزب البعث، بالتخلي عن اللغو القديم، بخصوص “الاقتصاد الاشتراكي”، لصالح الحديث الصريح عن اعتماد ما سُمِّيَ “قانون السوق الاجتماعي” . وهو القانون الذي سرَّع من اتجاه النظام للمزيد من محاصرة المصانع الحكومية، وشتى مشاريع القطاع العام الانتاجية، بحيث تبدو خاسرة، في نهاية المطاف، ويتم بيعها للقطاع الخاص، أو إشراك هذا الأخير في ملكيتها، وإدارتها، بعد أن كان وُضع حدٌّ لاحتكار القطاع العام في العديد من قطاعات الإنتاج، انطلاقاً من القانون رقم 10، المشار إليه أعلاه. وسوف يترافق ذلك، لاحقاً – ولا سيما بعد وصول بشار الاسد إلى السلطة – مع تخلي الدولة عن احتكار التجارة الخارجية، ومع إشاعة تأسيس المصارف الخاصة، بما فيها فروع المصارف الأجنبية.

هذه السياسة انسحبت، أيضاً، لصالح رأس المال، لتشمل الزراعة، عبر صدور قانون صيف العام2009، الذي رفع سقف الملكية الزراعية، بشكل ملحوظ، ومن ذلك لأجل تسهيل تبييض أموال العديد ممن شاركوا، ويشاركون، في نهب الدولة والشعب السوريين، عبر شرائهم مساحات كبرى من الأرض، سواء من المزارعين الصغار المعدمين، أو من الدولة. وهو ما ينعكس مزيداً من الإفقار والبؤس على الملايين من أبناء الشعب ، الذين يضطرون للهجرة ،سواء المؤقتة، أو الدائمة، حين يتمكنون، أو للنزوح إلى ضواحي دمشق و المدن الكبرى الاخرى، بحثاً عن العمل، هم الذين يواجهون ارتفاعاتٍ حادةً في أسعار المعيشة ازدادت عواقبها تفاقماً، ولا سيما بعد أن وضعت الدولة حداً لسياسة الدعم التي كانت معتمدة سابقاً، كما يواجهون أيضاً نسبة بطالة تزعم الإحصاءات الرسمية أنها لا تتجاوز ال19%، فيما هي أعلى من ذلك بكثير(يعتقد البعض أنها لا تقل عن ال30%)، وربما هي من بين أسوأ النُّسَب ، في العالم، وبخاصّة في صفوف الشبيبة ، التي تشارك، اليوم، بالتالي، في الثورة التي نحن بصددها.

وهو وضع تتحمل المرأة السورية عواقبه بصورة مضاعفة ، بسبب غياب المساواة الفعلية ، في السوق، بينها وبين الرجل، عدا كونها تعاني، بوجه خاص، في الأساس، مشكلة يوم العمل المزدوج(حين تنجح في العثور على عمل)، أي العمل في المنزل وخارجه، في آنٍ معاً.

إن المهام البرنامجية الانتقالية، التي يطرحها الثوريون السوريون، ردّاً على هذا الواقع، إنما هي التالية:

أ‌-                    اعتماد السُّلَّم المتحرك للأجور، مع رفع الحد الأدنى للأجور الحالية إلى 25 ألف ليرة سورية، شهرياً.

ب‌-                  وقف الخصخصة بالكامل، واستعادة الدولة ملكية المنشآت المخصخصة سابقاً، من دون تعويضات، وتأميم منشآت عديدة مستحدثة، إما لكونها ناتجة من سياسة تقاسم المغانم من قبل العائلة الحاكمة، والمقربين منها، على طريقة شركة سيرياتل، التي يملكها رامي مخلوف، ابن خال الرئيس، أو لأنها فروع صناعية هامة بالنسبة للوجود الوطني، او تملكها مجموعات برجوازية طفيلية.

ج- إعادة النظر كليا في واقع القطاع العام، باتجاه الاستثمار الحكومي الواسع فيه، واعتماد رقابة صارمة على تسييره، يشارك فيها عماله وموظفوه، ومحاسبة جدية على أي خلل في آليات العمل والتسيير ضمنه. على أن يتم أيضاً اعتماد الرقابة العمالية في المصانع ، والمشاريع الخاصة، بواسطة لجان المصانع والمنشآت، والمشاريع، المنتخبة ديمقراطياً.

د- استعادة السيطرة الحكومية على التجارة الخارجية، و تأميم المصارف.

ه- مصادرة أموال من يثبت أنهم حصلوا عليها من نهب المال العام، ومحاسبتهم قضائياً.

و- اعتماد ضريبة تصاعدية على الدخل، ولا سيما على الارباح الرأسمالية، في شتى القطاعات ، وعلى عمليات البورصة ،وشتى أشكال المضاربات ،بما فيها تلك المتعلقة بالعقارات، على اختلافها. فضلاً عن عدم استيفاء ضريبة على الدخول التي لا تتجاوز الحد الأدنى للأجور.

ز- التأمين الإلزامي للعمل لكل المواطنين البالغين، رجالاً ونساءً.

ح- تأمين الدولة الدعم الكافي للسلع الأساسية للمعيشة.

ط- فرض رقابة النقابات العمالية المستقلة، و جمعيات المستهلكين، على الأسعار.

ي- إعادة النظر في قوانين الإصلاح الزراعي، وتعديلاتها، وبوجه أخص الأخير بينها، الذي تم في العام2010، باتجاه خفض سقوف الملكيات الزراعية إلى ما دون تلك التي كانت معتمدة في تعديل العام 1980، وذلك بنسبة 30%، على الأقل.

ك- الوقف التام لبيع أراضي الدولة، والعمل على تحويلها إلى مزارع جماعية نموذجية ، تتولى إدارتها جمعيات العاملين فيها، وتشرف على عملية تسويق منتجاتها، كما تتولى هي بالذات تحديد نُسَب توزيع المداخيل الناتجة من بيع محاصيلها، على ان يكون المستفيدون أطرافاً ثلاثة:

–                     العاملون في تلك المزارع ، الذين يجب ان لا يقل نصيبهم الإجمالي عن 70% من دخلها، على ان لا تتجاوز الفروق بين مداخيل هؤلاء، عمالاً، وإداريين، ومهندسين ، الواحد إلى ثلاثة، في الحد الاقصى.

–                     الإنفاق الدائم والمتجدد لتطوير تلك المزارع، وتأمين التقانة الضرورية لتحديثها وتحسين إنتاجيتها، فضلاً عن تجهيزها بالبنى التحتية المناسبة، ولا سيما على صعيد الري.

–                     الدولة مالكة الأرض، التي يجب ألا تتجاوز حصتها ال10% من مداخيل تلك المزارع.

على أن تكون بين الأهداف المتوخاة من إنجاح هذه التجربة تشجيع باقي الفلاحين الصغار ، والمتوسطين، على الزراعة الجماعية.

ل- تقديم الدولة كل أشكال الدعم للفلاحين الصغار، ومن ضمنها الخدمات الإرشادية، والقروض بفائدة زهيدة ، وشتى التسهيلات على صعيد تصريف الإنتاج، وصولاً إلى شراء الدولة لهذا الاخير بأسعار تشجيعية، عند الاقتضاء.

م- تشجيع الدولة العملي لإنشاء شتى انواع التعاونيات الزراعية، وتقديم الدعم لها.

ن- تشجيعها لتأسيس لجان المزارعين الصغار، التي تكون بين مهامها، بالاشتراك مع اللجان العمالية، ولجان مستخدمي المصارف، مراقبة عمليات النقل والتسليف والتجارة، المتعلقة بالزراعة، وهي العمليات التي يجب أن تتولى الدولة تقديم أقصى العون ، أيضاً، في صددها، لصغار المزارعين.

س- تأمين الدواء بسعر الكلفة، في إطار سياسة حكومية لتصنيعه، وفقاً لأفضل الشروط النوعية، وضمان الاستشفاء شبه المجاني، في مشافٍ حكومية متطورة، تجهيزاً، واتساعاً، وانتشاراً، كما على صعيد جهازها الطبي.

ع- تأمين رياض الأطفال والمطاعم الشعبية ،التي تتوفر فيها الشروط الصحية الكاملة، والمغاسل العمومية، وذلك لتحرير المرأة من عبودية العمل المنزلي ،قدر الإمكان. على أن يترافق ذلك بتأمين المساواة الكاملة بينها وبين الرجل، في شتى المجالات، ومن ذلك على صعيد الأجور، في حال التساوي في الكفاءات.

ف- تأمين كل مستلزمات التعليم شبه المجاني لجميع التلامذة، في عمر الدراسة، وذلك وصولاً إلى التعليم الجامعي، والمهني العالي، على أسس ديمقراطية تتيح للتلامذة والطلاب أن يكون لهم رأيٌ وازن، عبر روابطهم واتحاداتهم المنتخبة بحرية، في القرارات المتعلقة بحياتهم الدراسية، وفي التأثير في هذه القرارات.

رابعاً: المسألتان الوطنية والقومية

إن إحدى نقاط الضعف الجسيمة، إلى الآن، التي تبدو في حالة الثورات العربية، إنما هي هذا الإغفال الواضح للقضيتين الوطنية والقومية. وفي حالة سوريا، يظهر ذلك، بوجه أخص، بسبب ان النظام الذي تتم الثورة عليه، يتمسك بمزاعم كاذبة ، بالتأكيد، حول دوره “الممانع”، و”المقاوم”، وما إلى ذلك، وحول أن التحرك الشعبي ضده يندرج في مؤامرة غربية لإسقاط هذا الدور. لذا، فإن وظيفة يسار ثوري، في ظروف كهذه، تتمثل في النضال وسط الجماهير الشعبية الثائرة، فيما هو يحمل برنامجاً واضحاً على المستويين الوطني والقومي.

1-                   على المستوى الوطني

إن مهمة اليسار الثوري في سوريا، على هذا المستوى، تقضي بالضغط والتعبئة لأجل تبنِّي مواقف متقدمة ضد الاحتلال الإسرائيلي لهضبة الجولان، ومع دعوة الجيش إلى الانتقال من شوارع المدن والبلدات وأزقتها – حيث يتولى مهام القمع والقتل لشعبه، حمايةً لنظامٍ ظالم ومستبد وشديد الفساد – إلى الجبهة مع العدو الصهيوني المحتل، تمهيداً لاعتماد خطة متكاملة، لإجبار هذا الأخير على الانسحاب من دون قيد أو شرط من الجولان – كما حصل في لبنان في العام 2000 – وذلك بشتى الوسائل الممكنة، ومن ضمنها استيفاء الشروط الضرورية لخوض حرب شعبية، تشارك فيها الشعوب العربية الأخرى بما لديها من إمكانات. إن مطلب تحرير الجولان هو بند أساسي في برنامج اليسار الثوري السوري، وبالتالي الثورة السورية. وهو مدخل مَلَكيٌّ لإخراس أبواق النظام، حول المؤامرة على سلطةٍ ممانعةٍ، ولتفكيك ما بقي من دعم شعبي له، ومن تماسك في جهازه الأمني، وجيشه، فيما هما يغوصان في دم كتلة أساسية من الشعب السوري، يُفترَض أنها تتوسع باستمرار.

2-على المستوى القومي

من حسن حظ الثورة السورية – على رغم كل ما يتعرض له الشعب من مجازر وأعمال إبادة – أنها تأتي في سياق سيرورة ثورية عربية تغيِّر المعادلات، يوماً بعد آخر، مع ما يعنيه ذلك من تغيير متواصل في موازين القوى لغير صالح القوى المعادية، سواء منها العالمية ،او الإقليمية ، أو المحلية.

على هذا الأساس، تنطرح في أعلى جدول أعمال يسار ثوري، في الساحة السورية، استعادة المهام البرنامجية التي طالما رفعتها الحركتان الشيوعية والقومية، في المنطقة العربية، والتي تغتني الآن بإضافات جديدة، على ضوء الربيع الثوري العربي. ومن ذلك:

أ‌-                    التضامن مع شتى الثورات العربية، ومع تأمين شروط استمرارها وتطورها ونضجها إلى ثورات اجتماعية، وتبادل كل أشكال الدعم الممكنة معها، ولا سيما مع الثورة الأكثر نضجاً، الثورة المصرية.

ب‌-                  التضامن الكامل مع الشعب الفلسطيني، ونضاله لاستعادة كامل حقوقه في وطنه، فلسطين، ولا سيما حقه في العودة إلى مدنه وقراه الأصلية، وفي أن يمارس تقرير مصيره؛ وإحباط كل مشاريع التسوية الأميركية –الإسرائيلية، والضغط لإجبار الدول العربية، المقيمة أشكال علاقة متفاوتة مع إسرائيل، على قطع تلك العلاقات، في إطار تعبئة جماهير تلك البلدان لهذه الغاية. وهي جماهير إما منخرطة في سيرورات ثورية، او هي تنضج، يوماً بعد يوم، للانخراط في سيرورات مشابهة.

ت‌-                  استعادة شعار الوحدة العربية، والدعوة مجدداً لوضعه على جدول الأعمال، في شتى ارجاء المنطقة ، ولا سيما بما هو يتناغم مع شعار آخر ينبغي رفعه، والتعبئة على اساسه، الا وهو شعار ضرب الهيمنة الإمبريالية على ثروات شعوبنا، وبخاصَّةٍ تلك المتعلقة بالطاقة، العصب الأساسي، إلى الآن، للاقتصاد العالمي. على أن يترافق شعار الوحدة مع توضيح أنها ينبغي ان تتم بإرادة شعوب المنطقة الذاتية، وعلى أساس علاقاتٍ اتحادية فدرالية تحترم خصوصيات أجزائها، مع الاعتراف في آن معاً بحقوق الأقليات القومية غير العربية، وضمان ممارستها لها، وبخاصَّةٍ الأقلية القومية الكردية ،والأمازيغ.

ث‌-                  إن جزءاً من القوى المشاركة في الحراك الثوري، في أكثر من بلد عربي، ومن ضمنها سوريا، تحاول تحاشي الدخول في مجابهة مع الإمبريالية العالمية، لا بل ثمة بينها من يراهن على الاستفادة من دعمٍ قد تقدمه هذه للمعركة ضد الدكتاتوريات العربية، ولا سيما تلك القائمة في دمشق. في حين أن هذه الثورات، وبينها الثورة السورية، سوف تنتصر بمقدار ما تضع نفسها، بالضبط، في مواجهة حقيقية وصريحة مع هذه القوى المعادية، وتستنهض كل الطاقات الشعبية لأجل أداء قسطها في هذه المواجهة، نحو المضي بهذه الثورات إلى زج كامل إمكاناتها، في الصراع، وتحقيق أقصى ما يمكن ان تتطلع إليه، على صعيد الحرية، والوحدة، ولكن ايضاً العدالة الاجتماعية، في ارقى تجلياتها، المتمثل ببناء الاشتراكية.

ج‌-                   وأخيراً وليس آخراً، فإن أي برنامج انتقالي ثوري، في سوريا، لا يمكن أن يغفل مسألة السلطة. لأجل ذلك، فإن أحد البنود الأهم لهذا البرنامج هو إقامة حكومة ثورية تجمع إلى تمثيلها العمال والفلاحين الفقراء، بوجه أخص، تمثيلها لكتلة من القوى الاجتماعية الكادحة الأخرى، من منتجين صغار، وموظفين ، وجنود، وعمال ذهنيين ، فضلاً عن المهمَّشين والعاطلين عن العمل، رجالاً ونساء.

في الحوار الكبير، الذي يتم اليوم، على مدى منطقة شاسعة، تزيد على الثلاثة عشر مليوناً من الكيلومترات المربعة، وأبعد منها، وتشارك فيه شريحة هائلة من الناس، عبر وسائل الاتصال المعاصرة، ثمة كثيرون متفائلون بانتصارٍ قادمٍ للثورات العربية، والسوريةُ بينها . أما نحن فلسوف نتفاءل بمقدار ما ينجح يسارٌ ثوريٌّ سوري لا يزال يحبو، الآن، في الوقوف منتصباً على قدميه، في الأشهرالقليلة القادمة. وهو سيفعل ذلك بمقدار ما تتحلق حول البرنامج المفصَّل أعلاه شريحةٌ وازنةٌ من المناضلين الشعبيين المنخرطين، حالياً، في سيرورة واعدة، من درعا في أقصى الجنوب الى الحسكة و القامشلي شمالا،وصولاً إلى البوكمال ودير الزور ، في الشمال الشرقي، مروراً، بالتأكيد، بإدلب واللاذقية غرباً، وحمص وحماة وحلب، و…العاصمة دمشق!!!

ت1/أكتوبر 2011

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. تحية لشعب سوريا البطل على التضحيات المادية والمعنوية التي نلاحظه يقدمها ، في سبيل الحرية والانعتاق وفك الارتباط مع الديكتاتورية وبالتالي القطع مع مرحلة الاستبداد وحكم عصابات البعت التي حكمت سوريا لمدة 40 سنة بالحديد والنار ، اكيد ان المرحلة تقتضي من الشعب السوري المزيد من التضحية اكتر من اي وقت مضى ولكن لاخيار غير المواجهة والبحت عن سبل اخرى غير مواجهة الدبابات والكلاشنكوف بصدور عارية لان الديكتاتور ليس في قلبه شفقة ولا رحمة ولا يفهم في المبادئ وحقوق الانسان وحرية التعبير والحق في الاحتجاج والحق في المطالبة بالحقوق ، انما يفهم في الاستغلال و القمع والاعتقال ومراكمة التروة على حساب الشعب وتفقيرة وهلما جرا من اشكال التعديب . وبالتالي فيبقى خيار حمل السلاح كحل استراتيجي تم الرها ن على انشقاقات اكبر عدد من الجيش لينحازوا الى جانب الشعب لان اغلب الجيوش سيجد احد افراد عائلته او اخوته قتلوا خلال هده الابادة المعلنة في حق الشعب السوري . واخيرا مزيد من الصمود والمجد للشهداء والخزي والعار للرجعة والديكتاتورية ومزبلة التاريخ في انتظار كل الديكتاتوريين .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى