صبحي حديديصفحات سورية

‘البعثي السوبرمان’: نصف قرن من سفاح الفكر وتحلل الرخويات

صبحي حديدي

المرء الزائر للموقع الرسمي لحزب البعث العربي الاشتراكي سوف يلاحظ أنّ العدد الأحدث من ‘المناضل’، مجلة الحزب الداخلية، مزدوج يحمل الرقمين 416 ـ 417، ويعود إلى سنة 2012. فإذا ذهب إلى الافتتاحية، التي كتبها فواز صياغ رئيس التحرير، فسيقرأ التالي: ‘ما الذي جنته جماهير الأمة العربية بعد عامين مما سمي بثورات ‘الربيع العربي’ حسب تعبيرات الغرب الاستعماري والقوى الرجعية والسلفية السائرة في ركابه والمرتمية في أحضانه؟ لو استعرضنا أوضاع الدول التي اجتاحتها عاصفة ذلك ‘الربيع’ المشؤوم لوجدناه قد ترك فيها ندوباً عميقة وخريفاً بائساً، شمل مناحي الحياة المتعددة منها: السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والفكرية، والثقافية. إذ عبث بنسيجها الاجتماعي وفكك عرى الترابط والوحدة بين أبناء البلد الواحد، وتغلغل حتى العظم في لحمتها الوطنية فكاد أن يفرق الأخ عن أخيه، والابن عن أبيه، والزوج عن زوجه’.

هل هذا هو الحزب الذي يرفع شعار ‘أمة عربية واحدة/ ذات رسالة خالدة’، وأهدافه هي مثلّث ‘وحدة، حرية، اشتراكية’؟ هو ذاته، بصرف النظر عمّا يقوله الرفيق صياغ، إذْ سرعان ما نقرأ لقاء رفيق بعثي آخر، هو عبد الله الأحمر، الأمين العام المساعد للحزب، مع ‘وفد شعبي أردني’ ترأسه فؤاد دبور، أمين عام حزب البعث العربي التقدمي في الأردن: ‘القوى الاستعمارية أدركت أن تنفيذ مخططاتها في المنطقة العربية لن يتحقق بوجود سورية الدولة القوية الممانعة، لذلك عملت على توظيف كل إمكاناتها السياسية والاقتصادية لضربها وتفتيتها’؛ لافتاً إلى ‘دور الإعلام الوطني السوري في كشف وتفنيد فبركات الإعلام المغرض الذي يشوه الحقائق ويبرر أعمال المجموعات الإرهابية المسلحة من تخريب وحرق لمؤسسات الدولة، فضلاً عن أعمال القتل بحق المواطنين السوريين’.

القيادة القومية للحزب، احتفاء بالذكرى الخمسين لـ’ ثورة الثامن من آذار المجيدة’، التي تحلّ اليوم 8/3/2013، أصدرت بياناً قالت فيه: ‘تهلّ علينا ذكرى الثورة التي فجرها حزب البعث العربي الاشتراكي وجماهير حزبنا وشعبنا تواجه مؤامرة شرسة واستهدافاً غير مسبوق لأمنها واستقرارها هدفه إضعافها وتدميرها، وهي اليوم أكثر قوة وتمسكاً بمبادئ الثورة والحزب وأهداف الأمة العربية القومية، وأشد صموداً وصلابة في وجه المؤامرة وإصراراً على مواجهة المخطط الأمريكي ـ الصهيوني الرامي الى تمزيق الأمة ونهب ثرواتها والسيطرة على مقدراتها’. الأبعاد القومية لا تنتهي هنا، بالطبع، إذْ تدعو القيادة ‘كل البعثيين أينما وجدوا على الأرض العربية، وكل قوى التقدم والتحرر في الوطن العربي، لتحمل مسؤولياتهم في الدفاع عن سورية وشعبها وموقفها المقاوم والوقوف الى جانبها لدحر الهجمة المعادية، لأن انتصار سورية هو انتصار للعرب ولكل أنصار الحرية والتقدم’!

ولكي لا يساور أحد الشك بأنّ مفردات الخطاب البعثي لم تتزحزح قيد أنملة عن الترسانة العتيقة ذاتها، المتخشبة الجوفاء المهترئة المستهلَكة، تكفي قراءة الفقرات الأخرى من البيان، التي تفصّل القول في أنّ ‘القطر العربي السوري يواجه أخطر هجمة استعمارية صهيونية في تاريخه الحديث’، حيث الأهداف الخبيثة تتجاوز ‘تدمير ما بنته الجماهير خلال العقود الماضية من عمر سورية الحديث’، لتشمل تمزيق الوحدة الوطنية للشعب، وإثارة الفتن والنعرات وتدمير صيغة العيش المشترك التي عرفت بها سورية منذ أقدم العصور وتشكل النموذج الذي يحتذى به بالنسبة لشعوب العالم الأخرى’. ومَن المستفيد الأول، هنا؟ ‘الدوائر الصهيونية’، غنيّ عن القول؛ التي ‘عبّرت عن ارتياحها لنتائج الأزمة باعتبار أنها حققت ما عجزت عنه آلة الدمار والخراب الاسرائيلية على مدار عقود مضت دون أن تطلق رصاصة واحدة’!

بيد أنّ التسمية الأخرى لهذه المناسبة الخمسينية هي الانقلاب العسكري الذي جاء بحزب البعث إلى السلطة في سورية، حين فُرضت، ثمّ تضخمت على نحو سرطاني حال الطوارىء، فصارت تتيح سنّ المزيد من القوانين القمعية العرفية والاستثنائية المحدِّدة للحريات، وإنشاء المحاكم الخاصة الاستثنائية، وزجّ الآلاف في السجون، وممارسة أبشع طرائق التعذيب الوحشية. تلك كانت 41 سنة من الاستبداد المتضاعف، الذي اقترن بالفساد والنهب مع انقلاب حافظ الأسد على رفاقه، خريف 1970؛ وكذلك إرساء مبدأ التوريث، وتنصيب بشار الأسد خليفة لأبيه، بعد ساعات أعقبت وفاة الأخير، في حزيران (يونيو) سنة 2000. أرقام المعتقلين، والمفقودين، وقتلى المجازر الجماعية، سوف تبلغ عشرات الآلاف، قبل أن تقفز معدلاتها بصفة جنونية بعد انطلاقة الانتفاضة، في آذار (مارس) 2011.

هذا السجلّ الشائن يُنسب، في معظمه، إلى ‘الحركة التصحيحية’ وآل الأسد؛ لكنه، في الحصيلة، سجلّ نظام البعث الذي حكم منذ العام 1963، بمختلف أجنحته ‘اليمينية’ و’اليسارية’، أيّام الفريق أمين الحافظ مثل الفريق حافظ الأسد، وفي رعاية ميشيل عفلق مثل صلاح جديد: هذا هو سجلّ حزب البعث الحاكم، باختصار تقتضيه الحقيقة، وبأمانة هي أضعف الإيمان تجاه ذكرى وحقّ وحقوق مئات الآلاف من الضحايا. وليست مواقف البعثيين الراهنة، في سورية كما في الأردن أو العراق أو اليمن أو أي ‘قيادة قطرية’ بعثية أخرى تدين بالولاء لآل الأسد، إلا زفرات جثة آيلة إلى تفسخ، لم تعد خارج التاريخ والمعيش الشعبي العربي، فحسب؛ بل هي فقدت حتى قيمة المستحاثة التي تؤشّر على تاريخ ما، لرخويات متحللة (أحد البعثيين اليمنيين، على سبيل المثال، ينبّه الإنسانية إلى أنّ التضامن مع الأسد ‘نابع من انتمائنا القومي… ضدّ أحفاد بني صهيون’)!

وفي الموسوعة البريطانية، مادّة ‘حزب البعث’، نقرأ ما يلي: ‘حزب سياسي عربي يدعو إلى قيام أمّة عربية اشتراكية واحدة. للحزب فروع في العديد من بلدان الشرق الأوسط، وهو حاكم في سورية والعراق. تأسس الحزب سنة 1943 في دمشق علي يد ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار، وأقرّ دستوره سنة 1947، واندمج مع الحزب العربي الاشتراكي لتشكيل حزب البعث العربي الاشتراكي’. الأرجح، بالطبع، أنّ أية طبعة جديدة من الموسوعة البريطانية سوف تتضمن إدخال تعديلين حاسمين على معلومات هذه المادّة: أنّ الحزب لم يعد حاكماً في العراق، وأنّ مفردة ‘اشتراكية’ فقدت كلّ مدلولاتها في عقيدة الحزب الراهنة… ما تبقى منها في كلّ حال!

زكي الأرسوزي (1908 ـ 1968)، خرّيج الفلسفات الفرنسية مطالع القرن الماضي، وأحد الآباء الروحيين المؤسسين للحزب، كان يقول: ‘العربي سيّد القدر’، ولسوف ينشأ كيان عربي جبار موحد، عندما يستردّ هذا العربي هويته التي ضيّعها على امتداد آلاف السنين. أكرم الحوراني (1911 ـ 1996) قاد انتفاضة الفلاحين في ريف حماة ضد الإقطاعيين، وعقد مؤتمراً للفلاحين في حلب، أيلول (سبتمبر) 1951، حضره مئات من الفلاحين، وصار سابقة على نطاق تنظيم الطبقات الفلاحية العالم العربي. ميشيل عفلق (1910 ـ 1989)، أبرز الأسماء في لائحة المؤسسين، عاد من دراسته في جامعة السوربون بمزيج عجيب من فيخته ونيتشه: من الأوّل ميتافيزيقا الأمّة الألمانية، ومن الثاني فلسفة القوّة التي سيسقطها على شخصية البعثي السوبرمان!

بدأ هذا الحزب، إذاً، في سياق من سفاح عجيب بين الفلسفات والطبقات والشعارات، وهو اليوم يلفظ أنفاسه بطيئاً وسط سياقات مناسبة من سفاح عجيب آخر يزاوج فلسفة السوق والاستبداد، والجمهورية الوراثية بالوطن ـ المزرعة! ومن مجازر حماه 1982 في سورية (قرابة 15 ألف قتيل على الأقل)، إلى مجزرة حلبجة في العراق (جريمة الحرب التي قد تكون أفظع مجزرة كيماوية ضدّ المدنيين في تاريخ البشرية)؛ ومن احتلال لبنان وضرب المخيمات الفلسطينية والتفرّج على الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، إلى احتلال الكويت، والقتال تحت راية ‘عاصفة الصحراء’؛ وصولاً إلى الحصيلة الراهنة في سورية، حاضنة تأسيس الحزب: 71,205 ضحايا، بينهم 4,898 طفلاً، و3,893، و1,000,669 لاجئاً… ثمة، في هذا كله، منطق صارم يربط البدايات بالمآلات، ويفضي إلى النهايات.

وبين النهايات الأحدث كان تأجيل المؤتمر القطري الحادي عشر، إلى أجل غير مسمى؛ وقبله أُريد للمؤتمر العاشر، أواسط سنة 2005، أن يكون ‘القفزة الكبيرة في هذا البلد’، حسب تعبير الأسد نفسه، في خطابه أمام مجلس الشعب يوم 5 آذار تلك السنة، ويتضح اليوم أنه لم يكن قفزة بأيّ معنى، حتى إلى وراء! وكان المؤتمر ذاك قد شدّد، في الشؤون الداخلية وحدها، على ‘تنظيم علاقة الحزب بالسلطة’، ودوره في ‘رسم السياسات والتوجهات العامة للدولة والمجتمع’، و’تحديد احتياجات التنمية’. وفي مسائل ‘تطوير النظام السياسي وتوسيع دائرة العملية السياسية’، أوصى المندوبون بـ’مراجعة أحكام دستور الجمهورية العربية السورية بما يتناسب مع التوجهات والتوصيات الصادرة عن المؤتمر’؛ وأكدوا ‘أهمية دعم أجهزة السلطة القضائية واستقلاليتها’، و’تكليف الحكومة بوضع آليات ناجعة لمكافحة الفساد، والحدّ من ظاهرة الهدر في المال العام’.

وفي جانب آخر، اعتُبر بيضة القبان في وعود الأسد الإصلاحية، أكد المؤتمر على ‘أهمية إصدار قانون أحزاب يضمن المشاركة الوطنية في الحياة السياسية وذلك على قاعدة تعزيز الوحدة الوطنية’؛ و’مراجعة قانون الانتخاب لمجلس الشعب والإدارة المحلية’؛ و’تعزيز مبدأ سيادة القانون، وتطبيقه على الجميع’، و’اعتبار المواطنة هي الأساس في علاقة المواطن بالمجتمع والدولة’. توصيات إضافية طالبت بمراجعة قانون الطوارىء، وحصر أحكامه بالجرائم التي تمسّ أمن الدولة، وإلغاء المرسومين التشريعيين رقم 6 لعام 1965 المتعلق بمناهضة أهداف الثورة، ورقم 4 لعام 1965 المتعلق بعرقلة تنفيذ التشريعات الاشتراكية، وإلغاء القانون رقم 53 لعام 1979 المتعلق بأمن الحزب، إعادة النظر في قانون المطبوعات، بما يتيح إصدار قانون جديد للإعلام بأنواعه كلها. ليس هذ فقط، بل ذهب المؤتمر إلى حدّ التأكيد على ضرورة حل مشكلة إحصاء عام 1962 في محافظة الحسكة (الذي حرم قرابة 70 ألف مواطن كردي من الجنسية، أو صنّفهم في خانة الـ’مكتوم’)؛ وتطوير المنطقة الشرقية، وتنميتها.

وليس المرء بحاجة إلى سرد الأدلة على أنّ التوصيات لم تذهب أدراج الرياح فحسب، بل انحطّ اداء السلطة في هذه الملفات، وفي كثير سواها، إلى درك أسفل لم يكن يقبل المقارنة حتى بأسوأ أواليات القمع والفساد والنهب والتخريب طيلة عقود ‘الحركة التصحيحية’ الثلاثة. وفي غمرة تخبط السلطة، خلال أشهر الانتفاضة، تكفلت المهازل الانتخابية المتعاقبة، والتصويت على ‘دستور’ جديد، وانتخابات البعث الداخلية ذاتها (أواخر 2011 وأوائل 2012) بانتفاء الحاجة إلى الحزب، وتجريده موضوعياً حتى من وسائل الترغيب والترهيب التي كان يعتمدها في إجبار السوريين على الانتساب.

وإذْ يعرب الحزب عن مقته الشديد لانتفاضات العرب، فإنّ العربي، ‘سيّد القدر’ دون سواه، صار اليوم سيّد ‘الربيع المشؤوم’؛ لا يترك على جبهة التاريخ إلا الندوب العميقة، والخريف البائس’!

‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى