صفحات الناس

البقاع: زهرة الحرب

عمر حرقوص

الحدود اللبنانية السورية الممتدة من مجدل عنجر صعوداً باتجاه عرسال والهرمل وما بينهما من قرى تتداخل مع الجرد، تتهيأ في هذه المرحلة الصعبة والحساسة لتكون ”بوسطة عين الرمانة“ بنسخة ريفية،  يتداخل فيها الشيعي والسني بدلاً من سابقتها التي انفلت فيها العقال بين المسلمين والمسيحيين. حرب صغيرة تكبر كل يوم بحجم مناسب لكي لا يحس الغارقون برائحة الموت القريب أنهم في خضمها. حدود طويلة عاشت تاريخها على التهريب المشترك وزراعة المخدرات وكسر الصخور لبناء المنازل، والزراعات البديلة الخاسرة، تستعد اليوم للحرب الأهلية التي لن تعبر مرور الكرام هذه المرة.

 تمر السيارة بقرى بقاعية هادئة، هنا في مجدل عنجر تسمع بوضوح صوت القذائف المتساقطة على بلدة الزبداني، يروي أبو عبد (اسم مستعار) قصص التهريب الليلي بين لبنان وسوريا. هنا، عاد للبغال دورها في نقل المواد بين لبنان وسوريا كما يقول، فـ”السيارات الرباعية الدفع لم تعد قادرة على العبور بين مواقع الجيش السوري بسبب رفع درجة الاستنفار والكمائن بين التلال الجردية. ولذلك عادت أسعار ”البغال“ للارتفاع من ألفي دولار للبغل من النوع الجيد إلى خمسة آلاف دولار”.

 يتنقل الرجل بين جانبي الحدود كمن يتنقل بين أراضيه الزراعية، يزحف قرب مواقع الجيش السوري حينما يضطر، وهو يعرف كل صخرة في هذه الأرض.. يؤكد أبو عبد أن دخول ”حزب الله“ في الحرب السورية بشكل مباشر خفف كثيراً من حجم عمليات التهريب، لأن أكثر طرق التهريب تمر أمام مواقع يسيطر عليها ”الحزب“.

 صوت القذائف من الداخل السوري يتغير عندما تتجه السيارة شمالاً، أهل بريتال الذين هرّبوا للثورة السورية أغلى ما لديها، أي السلاح، تتعرض منذ فترة لإطلاق صواريخ تسقط على جرودها. أحد المهربين فيها ويدعى حسين ط. يؤكد أن أفضل الأوضاع الاقتصادية التي عاشها مع أصدقائه المهربين توقفت اليوم، ورفاق الأمس في بلدة طفيل اللبنانية وعسال الورد السورية صار مشكوكا بأمرهم. فهم يعتقدون أن الصواريخ التي أصابت جرود بلدتهم مسؤول عنها أبناء طفيل وعسال الورد، لأنها تنطلق من أراضيهم.

 هذا الأمر ينفيه محمد د. جملة وتفصيلاً، ويعتبر أن الصواريخ تنطلق من مناطق قريبة لمواقع ”حزب الله“، مطالباً أهل بريتال الانتباه إلى من يريد إشعال النار بين أخوة التراب. هذا الجو السيء سمح لعدد من الشبان في بريتال توجيه التهمة بالخيانة لمن يتواصل مع أي شخص من طفيل أو من الداخل السوري.

 بلدتا معربون وحام القريبتان من بريتال، توقفتا أيضاً عن عمليات التهريب تخوفاً من إشكالات قد يتعرضون لها في أعالي جرود بلدتيهما أو في جرود بلدة نحلة، فمن جهة تتربص مواقع ”حزب الله“ بالعابرين، يقابلهم مواقع ”الجيش السوري الحر“، والمتوافرة بكثرة على جانبي الحدود تنتظر معركة ما ضد ”الحزب“ والجيش السوري.

 في عرسال، يتحرك الموت مرتاحاً في جنباتها.. صاروخ من طائرة سورية يدمر ما يشاء، يقابله قطع الطريق إليها من قبل بعض الخاطفين المقربين لـ ”حزب الله“ في اللبوة، عرسال في ”بوسطة العام ٢٠١٣“ تشبه إلى حد كبير بلدة القاع في العام ١٩٧٦. يقصفها الجيش السوري، ويقتل أهلها، وبعضهم يخطف، فيما يتحول عدد كبير من أبنائها إلى السلفية الحاملة ساطوراً يريد القضاء على الجميع، منتقماً من التاريخ الذي لم ينصفهم والجغرافيا التي جمعتهم كأبناء طائفة ”سنية“ محاصرين من ”شيعة“ البقاع. تحوّل المقاومون ضد الاحتلال إلى تربية لحاهم وتركوا ”تيار المستقبل“ المعتدل لأنه يدعوهم إلى عدم التسلح، ليدخلوا بإرادتهم في مجاهل السلفية.

 بالنسبة إلى أهالي اللبوة القابضين على مداخل عرسال، فهم يحاولون التخفيف من الأزمات مع ”جيرانهم“،  فطعامهم واحد وألمهم واحد والكثير من أبناء البلدتين سقطوا سوياً مع جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية أيام منظمة العمل الشيوعي والحزب الشيوعي في الجنوب ضد الاحتلال الإسرائيلي. لكنهم اليوم يسكتون حين يرون سيارات الخاطفين القادمين من قرى هرملية قريبة ”تلتقط“ ما تشاء من شبان عرساليين وسوريين للتبادل مع ”هرمليين“ مخطوفين في ”القصير“.

 الطريق الصعبة تمر بقرى عديدة، لكن اهالي القاع و”مشاريعها“ يتخبطون بالخوف المزدوج، صوت القذائف أقرب إليهم من صوت إغلاق باب المنزل، وكذلك الخوف من وقوع ”حرب“ بين النازحين السوريين من حمص والقصير من جهة، والعمال من عشائر ”الشوايا“ من جهة أخرى، والذين يؤيدون النظام السوري. وللقاع ذاكرة لم تندمل مع عشرات الشهداء الذين سقطوا بقذائف الجيش السوري ودباباته في سبعينات القرن الماضي، حيث لم يجدوا طريقاً في القرى المسلمة تنقلهم إلى أمان ما في المناطق الشرقية.

 أما مدينة الهرمل وقراها، فهي تستقبل بالقبضات المرفوعة صواريخ ”الغراد“ المتساقطة عليها كل مرة، ينفلت صاروخان من موقع لـ ”حزب الله“ على حدود المدينة باتجاه موقع عسكري ”حزبي“ سلفي في الجرود بين لبنان وسوريا. يعود الصاروخان ومعهم هدية سبعة صواريخ إضافية تسقط على الهرمل. انفجار الصواريخ في المدينة وأحياؤها يجعل من أبناء عرسال العابرين ضحايا للقتل على يد بعض ”المجهولين“ كما حصل مع علي الحجيري قبل أيام.

 إنها حرب أهلية تتفتح كورود زهرة الخشخاش، قذائف متنقلة وشهداء وقتلى، هي اكثر من بوسطة عين رمانة وانتخابات وسفارات. إنه الموت المتجدد بعد عشرين عاماً على توقفه، آت إلينا من بوابة البقاع، فيما، تقف الدولة بمؤسساتها الأمنية والعسكرية، تُشاهد كيف يبدأ حريق البلاد، الذي سيمتد، ويمتد.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى