رستم محمودصفحات سورية

البلاد الخالية من طبقة السياسيين

 

رستم محمود

 تبدو محيرة حالة المعارضين “السياسيين” السوريين؛ فخلافاتهم ونقاشاتهم وسلوكياتهم واهتماماتهم وتشتتهم وتشنجهم وخواؤهم، نقصد غالبية واضحة منهم وليس كلهم، تثير صورتهم العمومية تلك، قرف ورفض طيف واسع من القاعدة الشعبية السورية المعارضة، مقابل ما تتعرض له هذه القاعدة من آلام، وما تدفعه من أثمان، وتخلق مأزقاً نفسياً وأخلاقياً وسياسياً بيننا وبينهم. مأزق يقارب مستوى المتاركة المتبادلة. على دفة أخرى، لا تبدو طبقة النظام الحاكم أعمق حساسية وقرباً وفهماً ودوراً في طيفه السياسي المساند.

 ثمة في كلا الجانبين، بغض النظر عن المعايير والأحكام القيمية، وبغض النظر عن الأدوار والأفعال، ثمة في كلا الجانبيين، مجموعة حاكمة مسيطرة بالقوة المحضة، وليس طبقة أو نخبة سياسية مهيمنة بأشكال الفعل السياسي المتنوعة والمركبة وغير المباشرة.

مرت ظاهرة الطبقة السياسية السورية الحديثة، بثلاث مراحل تاريخية واضحة: الأولى، كانت “مرحلة الأعيان” الاغترابية، ومن ثم “مرحلة الأيديولوجية” أو مرحلة المتاركة، والثالثة كانت “المرحلة التسلطية” أو مرحلة تحلل الطبقة السياسية السورية.

فقد ورثت طبقة الأعيان “السورية” العثمانية التاريخية، الحكم بشكل فعلي، في سوريا المؤسسة حديثاً، في عشرينات القرن المنصرم. تلك الطبقة التي تكونت أساساً من مثلّث ملاك الأرض والتجار ورجال الدين، والتي تنتمي جغرافياً لسكان مدينتي دمشق وحلب بالأساس، وبتأثير أقل لمدينتي حمص وحماة، ومن حيث الهوية للعرب المسلمين السنة. حيث “الحكم العربي” لم يدم إلا مدة قصيرة عقب الانهيار العثماني، حيث وقعت الدولة السورية الحديثة، بشكل فعلي تام، تحت سلطة الانتداب الفرنسي عام 1920. اعتبرت السلطات الفرنسية من مصلحتها توثيق العلاقة مع طبقة الأعيان هذه، لتوثق من قدرتها على الاستحكام والسيطرة على البلاد، كما أن هذه الطبقة نفسها، بادلت السلطات الفرنسية نفس الشعور المبطن، حفاظاً على دورها وسلطتها التاريخية، واستقوت بالسلطات العسكرية الفرنسية للحفاظ على ملكياتها الخاصة الواسعة، تجاه غزوات البدو والريف. وقد تعززت سلطة هؤلاء الأعيان وتقوننت عبر قانون الأراضي الذي صدر في عهد الانتداب الفرنسي في 12 كانون الأول/ديسمبر 1930، الذي لم يبدل علاقات الملكية على الإطلاق، وقد تمكن الأعيان في دمشق وحلب من وضع أيديهم على الأراضي الأميرية العثمانية الشاسعة، ثم أجروها للفلاحين بحسب نظام المحاصصة.

     في مراحل الخمسينات والستينات، انهارت تلك الطبقة، وصعد شكل مركب من نخب الحكم، تأثر بعمق بصعود دور الجيش في الحياة العامة عقب حرب 1948. ويعتبر انقلاب حسني الزعيم عام 1949، مؤشراً بالغاً على ذلك، حيث حدث الانقلاب على زعيم تاريخي لطبقة الأعيان تلك، شكري القوتلي، رئيس البلاد وقتها. ومن ثم بروز وتمركز العديد من التيارات الأيديولوجية السياسية العابرة للهويات الطائفية والمذهبية القومية، والتي كانت جذابة لأبناء الأقليات على عموم مستوى البلاد، كونها تمنحهم نوعاً من المساواة السياسية والمعنوية والرمزية، وتضعهم في الكل السياسي للبلاد. كما تكون طبقة بيروقراطية/مالية/ وسائطية تزاحم الطبقة التجارية والملاكية التاريخية في المدن. فقد تصاعد دور المسيحيين السوريين، سواء في السوق التجارية السورية، أو في المؤسسات العامة. ففي الخمسينيات والستينيات، برز دور متعاظم للوكلاء التجاريين والمتعلمين السوريين، مقابل تحلل لطبقة الملاكين والتجار التقليدين من جهة، ومقابل طبقة رجال الدين من جهة أخرى. صعدت طبقة سياسية سورية أخرى في تلك المرحلة، مع تشكل وعي قومي كردي خاص، متأثراً بتأسيس، ثم انهيار، جمهورية كردستان في منطقة مهاباد في إيران عام 1946، ثم اندلاع الثورة الكردية المسلحة في العراق عام 1961 ضد نظام الرئيس عبد الكريم قاسم، واستمرارها حتى العهود الأكثر حداثة.

 في المرحلة الثالثة للطبقة السياسية السورية “المرحلة التسلطية”، استطاع نظام الأسدين حل وتفكيك كل بقايا تلك المرحلة المركبة من طبقة السياسيين السوريين. عزل تام للطبقة الكردية عن الكل العمومي، عبر علاقة النظام الإقليمية مع أكراد تركيا والعراق. إفراغ تام لطبقة أحزاب السياسيين الحزبيين الإيدلوحيين، عبر منح سلطات وأدوار مفتوحة للمؤسسة الأمنية على كافة أصعدة الحياة العامة والسياسية. إعادة تحليل وتركيب منظومة الجيش وتراتبياته وأفعاله وهويته وولائه. تصفية للطبقة التجارية والصناعية والمالية، عبر خلق طبقة بدائل من الزبائنيين والفاسدين والوسائطيين. وأخيراً تفريغ كافة الرموز الوطنية من مضامينها الجامعة، وتمركز الرمزيات حول شخص الحاكم الأوحد.

 قرن كامل من النكوص في التنمية السياسية، فبعد نمط مركب ومتعدد وصحي وعميق من النخبة السياسية، عودة قهقرية نحو بدائية بالغة السذاجة، حيث حكام ومحكمون فحسب.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى