صفحات الرأي

البلطجية والشبّيحة والفتوّة لغة وتاريخاً وممارسة


حسان حلاق

الولايات والامصار العربية قبل الاسلام وفي ظله شهدت تمازجا كان نتيجة انتشار الكثير من المصطلحات ذات الاصول المختلفة.

عرفت الولايات والأمصار العربية قبل الإسلام وفي ظل الإسلام تفاعلاً وتمازجاً مع شعوب وأمم عديدة من غير العرب من: اليونان والرومان والفرس والسلاجقة والأيوبيين والمماليك والأتراك والألبان والصليبيين الإفرنج والمغول التتار وسواهم من شعوب وأمم. وقد أدى هذا التفاعل إلى انتشار عادات وتقاليد وحضارات جديدة، بما فيه تفاعل في اللغة والمصطلحات اللغوية، غير أن الأكثر تأثيراً في الولايات العربية إنما هم الأتراك وعاداتهم وتقاليدهم ولغتهم، بسبب اختلاطهم وتفاعلهم مع العرب منذ العصور العباسية إلى نهاية الحكم العثماني عام 1918، لهذا انتشرت – ولا تزال – الكثير من المصطلحات العثمانية في الوطن العربي ذات الأصول التركية أو العربية. من بين هذه المصطلحات على سبيل المثال لا الحصر(¶):

البلطجية: منذ اندلاع الثورات والانتفاضات والتظاهرات العربية خلال عام 2011، لاسيما في تونس ومصر واليمن وسوريا والبحرين وسواها، بدأ ينتشر في وسائل الإعلام، وعلى ألسنة المواطنين مصطلح “البلطجية” فمن أين اشتق هذا المصطلح، وما هي جذوره اللغوية والتاريخية والمهنية؟

بلطجي وهو مصطلح تركي – عثماني – مشتق من “بلطة” بمعنى الفأس و”جي” علامة النسبة في اللغة التركية، يماثلها “ياء” النسبة في اللغة العربية، مثال: دكانجي، بوسطجي، بستانجي، مدفعجي، بندقجي، بوياجي وسواها.

وبلطجي والبلطجية اصطلاحاً لفظ أطلق على فرقة عسكرية من حراس القصر السلطاني في الدولة العثمانية، كان سلاحهم الرئيسي من البلطة (الفأس) وكانت عدتهم تتألف من أربعمئة جندي تحت إمرة آغا كبير يعرف باسم “قزلر آغاسي” (أي آغا البنات وآغا دار السعادة أي العاصمة استانبول) ومهمة البلطجية في الأصل حراسـة حريم السلطان العثماني سواء فـي داخل القصر أو في خارجـه، وحراسة “الحرملك” (جناح الحريم) بشكل دائم. وكان رئيس البلطجية “قزلر آغاسي” عادة رجلاً مسناً أو مخصياً من العبيد السود أو البيض، ومكانه في التشريفات بعد الصدر الأعظم وشيخ الإسلام. وفي عهد السلطان عبد الحميد الثاني (1876 – 1909) تولى مهمة الإشراف على المخابرات والتحكم في من يدخل قصر “يلدز سراي” حيث يقيم السلطان العثماني. وقد يرد اللفظ بصيغة “قيزلر آغاسي” أو “قزلار آغاسي” أو آغادار السعادة”. ولا يزال لفظ “قزلية” منتشراً في بيروت على أنها “فتاة” أو “بنت مومس” أو من بنات الهوى.

البطّال: مصطلح عربي أطلق في العهد المملوكي على الجندي أو الأمير العاطل عن أعمال الدولة ووظائفها وإقطاعاتها نتيجة غضب السلطان أو بسبب العصيان أو كبر السن او التقاعد، وقد أحدث “البطّالون” الكثير من حوادث الشغب والاضطرابات في الولايات العربية، مما دعا الدولة لمحاربتهم، وقد انتشر هذا المصطلح ولا يزال إلى اليوم في بعض المدن العربية.

البلاّصون: مصطلح عربي انتشر في العهد العثماني في الولايات العربية، وقد أطلق على مجموعة من الرعاع يبلصون المواطنين والرعايا، ويفرضون عليهم المال بغير حق، ويفرضون عليهم ضرائب وإتاوات وخوّات خارج نطاق الدولة. استطاع إبرهيم باشا ابن محمد علي باشا القضاء على هذه المجموعات لاسيما جماعات الخوّات غير أن هذه الجماعات سرعان ما عادت إلى الظهور مجدداً بعد خروجه من بلاد الشام عام 1840، ولا تزال جماعات الخوّات منتشرة إلى اليوم في لبنان وبلاد الشام.

الفُتُوة: مصطلح عربي كان يطلق على جماعات من الفتيان شبه منظمة في العصر العباسي واستمرت قائمة إلى العهد العثماني لاسيما في مصر. كانوا يلبسون سراويل خاصة ما لبث أن لبسها العيّارون والشطّار في بغداد المعبر عنهم في بلاد الشام باسم “الزعر” أو “الزعران” كما يقابل الفتوة في بعض الدول العربية جماعة “القبضايات”.

يالانجي: مصطلح تركي أطلق على جماعة الكذب والزور والافتراء والبهتان و “يالان” تعني لغة الكذب، ومنها “يالانجي” أي الكذاب أو المزور أو المفتري، وقد فسدت هذه الجماعة في فترة العهد العثماني. وقد أطلقت اصطلاحاً ومجازاً على ورق العنب المحشي بالأرز المطبوخ بلا لحم.

الشبيحة: مصطلح عربي مشتق من “الشَبَح” و “الأشباح” وهو مخلوق وهمي غير منظور، ورد في القواميس والمصادر القديمة على أنه مخلوق لا يظهر إلا ليلاً وبشكل متخفٍ ومخيف، لابساً السواد، مغطياً وجهه مشبوح الذراعين، وقد اعتمد هذا الأسلوب وهذا اللباس بعض الجماعات في الشرق والغرب للوصول إلى غاياتهم غير الشريفة وغير الشرعية والقانونية، وقاموا بأمور منافية للأخلاق وللقوانين وللشرع، وتمددوا في مناطق عديدة. استخدمهم بعض ذوي النفوذ من رجال الحكم والإقطاع وذوي المصالح العليا، أطلق عليهم لقب “الشبيحة” ليس لأنهم يعتمدون أسلوب الأشباح المخيف فحسب، وإنما بسبب امتداد نفوذهم، وتخفي حركاتهم ونشاطهم. ونظراً لأن “الشبح” من المخلوقات غير المرئية والمخفية، فقد أطلق على إحدى الطائرات الأميركية العسكرية المخفية اسم “فانتوم” (Phantom) (Fantom) أي “الشبح” وعلى إحدى السيارات الألمانية اسم “الشبح”، وأطلق على كل ما هو مخيف أو خيالي أو كاذب أو مفترٍ اسم “الشبح”.

كما انتشر المصطلح كثيراً في الآونة الأخيرة من عام 2011 في سوريا، بعد أن اتهمت المعارضة السورية النظام السوري باستخدام “الشبيحة” في قمع وقتل المتظاهرين السوريين. وكما انتشر هذا المصطلح بقوة في سوريا، انتشر مصطلح “البلطجية” في مصر، وهم الجماعة من “الزعر” الذين ارتكبوا موقعة الجمل في ميدان التحرير إبان أحداث مصر عام 2011، والذي ذهب ضحيتها

عشرات من المتظاهرين ضد النظام المصري والرئيس محمد حسني مبارك.

وهناك العشرات بل المئات من المصطلحات المنتشرة في الوطن العربي، الجديرة بالدرس والتحقيق لاسيما أن الولايات العربية تأثرت كثيراً بواقع الفرق الرسمية وغير الرسمية منها على سبيل المثال: الإنكشارية، الأرناؤوط، اللاوندية، الهوّارة، الطوبجية، السباهية، العلوفية (المرتزقة)، الدالاتية، السكبانية وسواها الكثير.

¶ للمزيد من التفاصيل راجـع كتابنا: المعجـم الجامع فـي المصطلحات العثمانيـة، دار النهضـة العربية – بيروت 2009.

(مؤرخ واستاذ جامعي)

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى