صفحات الرأي

البنى التقليدية وآليات التغيير/ مناف الحمد *

في المجتمعات الموسومة بالسمة القبلية مثلاً، كرّست النخب هذا الانفصال بوصمها هذه المجتمعات بالتخلف، ومطالبتها بنسف هذا الانتماء التقليدي وأن تستبدل به انتماءات حداثية لم تقم النخب إلا بالدعاية لها من دون تأسيس شروطها الموضوعية.

هذا الانتماء التقليدي، عدا أنه راسخ الجذور، يمثّل الانتماء إليه تلبية لحاجة هي من أكثر حاجات البشر إلحاحاً وهي الحاجة الى الأمن.

والمطالبة بنسف هذا الانتماء من دون تقديم بديل وفي ظل أنظمة سياسية توتاليتارية تستخدم كل صنوف القهر وتتحصّن وراء بنى أكثر تقليدية وذات قابلية للاستثمار بطريقة أكثر خبثاً وتخلفاً، تذر المرء وحيداً أعزل لا حول له ولا قوة.

لوحظ في دراسة ميدانية أن المناطق التي فتّت فيها الاستعمار الفرنسي النسيج القبلي في الجزائر هي نفسها المناطق التي فرّخت ظاهرة التطرف بشكلها الأكثر عنفاً ودموية. وهو دليل يعزّز ما نذهب إليه من أنّ نسفها من دون تقديم بديل منها يسفر عن نتائج ليست في الحسبان.

ولأنّ الارتقاء بهذه الانتماءات إلى أشكال حداثية يتطلب عملاً شاقاً وطويلاً، فإن الخطوة الأولى ليست ولا يمكن أن تكون النظر والتعامل بطريقة استعلائية تمارسها نخب متغرّبة أو أدعياء مهجوسون إما بالتقليد أو بهجاس أقليتهم وخفّة وزنهم في مجتمعات قبلية، وإنما بمحاولة استثمارها استثماراً إيجابياً بوضعها في خدمة قضايا وطنية شاملة أو استخدامها استخداماً أداتيّاً لغايات تكريس المفاهيم الحديثة والارتقاء بالبنى الذهنية والنفسية لمجتمعاتنا.

في كتابه «حزب البعث العربي»، يذكر جلال السيد بشفافية أن نجاحه في الانتخابات البرلمانية عام 1949 ممثّلاً لحزب البعث العربي لم يكن منفصلاً عن الثقل العشائري الذي يتمتع به في محافظة دير الزور، وأن الدعم العشائري كان له دور لا ينكر في تغلّبه على منافسيه في المنطقة.

وفي مذكرات ياسين الحافظ، يشير الأخير إلى أن السمة العشائرية كانت ظاهرة بشكل نافر في مدينة دير الزور، وأنه منذ نعومة أظفاره كان يسمع من أبيه تصنيفات للأفخاذ والعشائر والقبائل وفق سلّم تفاضلي متعارف عليه آنذاك.

في تلك الفترة، في الخمسينات والستينات، كانت ثمة بوادر على اختراق البنية القبلية بنشاط تجاري وسياسي وفكري يقوم بنفيها نفياً جدلياً، بتجاوزها من دون إلغائها، إلى بنية أكثر مدنية.

واستطاع الأول من الرجلين أن يحقق، بما عرف عنه من عملية، قدراً من الاختراق لهذه البنية من طريق تسييس بعض الشخصيات القبلية المعروفة. وهي المحاولة التي افتقرت إلى مقومات الاستمرار بسبب البنية الدوغمائية للفكر السياسي البعثي الذي كان الرجل يحمله.

واختراق البنية القبلية بنشاط سياسي فكري اقتصادي، سدّت أمامه المنافذ بعد ذلك بمجرد تسلّم حزب البعث السلطة، حيث عمل الانقلابيون على تكريس أكبر لهذه البنية وعزلها عن كل المؤثرات باستثناء الأقنية المفتوحة مع النظام وأجهزته الأمنية. وقد أصبح هذا نهجاً مقصوداً أكثر بعد ما سمّي بالحركة التصحيحية في 1970.

يعمل الاختراق الإنتاجي التراكمي مع ما يترافق معه من تفتيق للوعي السياسي والاقتصادي على تطوير البنية إلى مستوى نوعي أمسّ رحماً بالمدنية، ويخرجها من حالة الانغلاق على التأثيرات المتنوعة.

وما يجري اليوم وما نلاحظه بالتماس المباشر مع المجتمع القبلي في منطقة القبائل أن هذه البنية زادت انغلاقاً على ما يساهم في سيرورة تطورها النوعي، وأكثر انفتاحاً على نشاط اقتصادي ريعي، وليس إنتاجياً كفيلاً بإحداث هذا التطوير، بسبب وجود مخزون هائل من الثروة النفطية كان النظام قد حرم أبناء القبائل منها ولم يستثمرها في تحقيق الازدهار والرفاهية لهم ولمناطقهم.

تم اختراق البنية بعد حالة التقوقع والانغلاق بنشاط ريعي يتمثّل في سرقة النفط وكنز الثروة، ومراكمة رؤوس الأموال بشكل مشوّه لا يمتّ بصلة إلى التراكم الرأسمالي الكفيل بالارتقاء بالبنية إلى مستوى نوعي أكثر تطوراً.

إفرازات النظام النتنة، وانشغال المثقفين والسياسيين بهموم ليس من ضمنها الاستثمار في البنية القبلية لاختراقها أولاً ومن ثم نفيها نفياً جدلياً من دون القضاء عليها، كانا السببين المباشرين لهذه النتيجة.

ما ألمسه في ظل بروز هذه النفسيات الذئبية التي زادت جشعها آبار النفط، والعنف المنتشر في كل مكان، والانصراف من جانب المعارضة السياسية عن الولوج إلى عمق المشاكل، والاكتفاء بشجبها طلباً للراحة، أو انشغالاً بقضايا مفارقة لها، أو جهلاً بأهميتها البالغة، أن معالجتها التي تبدأ فوراً أمر أكثر من ملحّ، وإلا فإن انتشارها وتعمقها سيأتيان بنتائج كان الوضع في ظلّ النظام جنة بالنسبة إليها.

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى