صفحات مميزةعبدالله أمين الحلاق

البيضا جسرٌ بين طورَين سوريين: عبدالله أمين الحلاق

    عبدالله أمين الحلاق

قبل عامين، بعد حوالى شهر ونصف شهر من انطلاق شرارة الثورة السورية، شاهد العالم بأجمعه كيف دخلت قوات النظام إلى بانياس وقامت بإذلالٍ لم يكن له نظير في ذلك الوقت، لأهالي قرية البيضا ودوسهم بالأحذية وضربهم بالعصي وهم مشدودو الأيدي إلى الخلف، في وقت كانت الثورة لا تزال فيه سلمية. وكانت بدايةً ورسالةً قوية لكل المناطق التي يمكنها أن ترفع الصوت بالرفض والتنديد بهذا النظام.

في حقبة سلمية الثورة لم يكن ثمة داعٍ لأن يستعمل العنف البدائي الذي استعمل قبل أيام في القرية ذاتها. هذا لا يتعلق بترفّع نظام السكاكين والبلطات عن العنف، عن أي عنف. ولكن لأن فكرة الحرب الطائفية والتطهير الطائفي لم يكونا قد فعلا فعلهما بعد في صفوف من يبدو مستعداً لحرق البلد ومكوّناته الطائفية وغير الطائفية وفق شعار “الأسد أو نحرق البلد”.

فكرة استهداف الأقليات كانت تسير جنباً إلى جنب وبالرتابة نفسها والتهويل الإعلامي التي كانت تسوّق فيها فكرة وجود العصابات السلفية والتكفيريين الجهاديين.

الفكرتان صارتا أمراً واقعاً اليوم، وهو أكثر ما يغبط له الطاغية ويُسَرّ. كان الكذب يسير على قدم وساق ويومياً في إعلام هذا النظام حتى صار الكذب حقيقة وبلغ العنف الطائفي مبلغاً لم يكن لأحد أن يتخيّله، وكان النظام المبادر به دوماً وبدرجة أكبر من ممارساتٍ طائفية للمنتفضين ضد هذه العائلة، الأمر الذي بلغ ذروته في البيضا، بحيث تبدو مجازر كرم الزيتون والقبير والحولة أهازيج أطفال مقارنةً بها، وبحجم الموت وبشاعته الذي شاهده العالم بأسره بصمت.

أما التطرف الديني وانفتاح البلاد على مقاتلين أجانب من حملة مشروع دولة الخلافة، فهذان كانا من المستحيل لنظام حزمة الإصلاحات الأسدية ومسيرة التطوير والتحديث ان يكون ضماناً ضدهما، أضف مجموعات جهادية سورية تنتمي إلى موروث شعبي ديني لم يفعل التنوير فعله فيه، وفي مجتمع تعرّض إسلامه الشعبي المتصالح “نسبياً” مع الآخر إلى خضّات وهزّات أمنية أرضية وجوية – براميل متفجرة وصواريخ سكود -، بحيث باتت معها التربة السورية محروثة بعنف النظام وجاهزة لنمو بذور “قاعدة” وإسلام حربي سيكون علامة الوجع السوري المقبل، بعد أفول الوجع السوري الحالي.

طائفية بالغة من النظام في التعامل مع السوريين، وإسلام حربي هو مكوّن من مكوّنات الثورة ينمو باطراد ويزداد توزّعه الجغرافي وتزداد فاعليته الميدانية. إنّ ما حدث قبل أيام في قرية البيضا وغيرها في ريف بانياس سيكون، على ما لا نأمل، مناسبة لشحذ سكاكين الطرف الآخر، الجهادي منه تحديداً، للثأر من نازلة البيضا وعلى أساس طائفي أيضاً.

البيضا اليوم، والدماء التي سالت من أعناق أهلها والجثث المحروقة والملقاة هنا وهناك فيها، نقطة انتقالية في مستوى العنف وأساليبه، ودلالة موثقة على بدائية الأساليب المتبعة واليائسة من نظام ما قبل التاريخ وما دون الأنسنة.

وهي دلالة بالغة على نفاد مفعول كل الأسلحة الفتاكة التي استعملها الأسد الابن ونظامه لقمع الثورة السورية، فكان لا بد أخيراً من استنفار الغرائز واستعمال الحرق والسواطير والسكاكين الحادة التي تكاد تنقطع معها احتمالات عودة الجسد السوري إلى الالتحام، خارج نطاق الطوائف والطائفية المقيتة التي عمل عليها النظام أبداً

السكود والبراميل المتفجرة وغاز السارين من جهة، والسكاكين والسواطير من جهة ثانية، وبينهما ثورةٌ تاريخيةٌ مستمرة، وخرابٌ عميمٌ ووطنٌ يرفع عالياً رايات تشظّيه وتمزّق مكوّناته واقتراب احترابها الواسع النطاق، وموتٌ يومي وألمٌ سوري عظيم.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى