صفحات مميزةعمر قدور

البيضا وبانياس: عودة القتلة إلى مكان جريمتهم الأولى: عمر قدور

التفوّق على ما فعلته الهاغاناه وشتيرن

عمر قدور

بالتأكيد ليست مصادفة أن تعود قوات النظام برفقة شبيحته إلى اقتحام بانياس، بعد سنتين بالضبط من اقتحامها للمرة الأولى في الثالث من أيار عام 2011، فهذا التوقيت ينفي رواية النظام عن استهداف دورية لقواته من قبل الجيش الحر، والرواية حتى إن صحّت قد تبرر اقتحام قواته لقرية البيضا المجاورة ولا تبرر أخذ أهالي بانياس بجريرة جيرانهم. بالطبع ليس هناك على الإطلاق ما يبرر مذبحة كالتي حدثت في البيضا أو المذبحة التي تلتها في بانياس، باستثناء الحقد الدفين الذي يكنّه النظام وشبيحته لأبناء المنطقة، والذي تجلى في تلك الطريقة المروعة من أعمال الإبادة الجماعية، وبما فاق من حيث النتيجة والمغزى المذابح التي ارتكبها شبيحة النظام في أماكن أخرى من سوريا.

المبررات والذرائع ليست جديدة على كل حال، فقبل نحو عشرة أشهر أتيح لكاتب هذه السطور التنقل في تلك المناطق؛ حينها أيضاً كان موالو النظام يروّجون الإشاعات عن تسلح أهالي البيضا استعداداً للحرب على جيرانهم. السائق البانياسي الذي أقلنا، وتجنّب بنا الحواجز الأمنية الكثيفة المنتشرة هناك، نفى الأمر تماماً وقال إن البيضا أصبحت تقريباً خالية من الشباب إثر ما تعرّض له هؤلاء من تنكيل ودعس على أجسادهم في ساحة القرية، وهو ما شاهده الملايين عبر اليوتيوب. قبل أربعة أيام من ذلك كنا قد شاهدنا بأعيننا المصير المروّع الذي آلت إليه مدينة الحفة إثر اقتحامها من قبل قوات النظام، فالبلدة التي يبلغ عدد سكانها نحو الثلاثين ألفاً تحولت إلى مدينة أشباح بكل معنى الكلمة؛ البيوت مهجورة ومستباحة بالكامل، وثمة آثار حرائق هنا وهناك أضرمها الشبيحة بعد سلبهم للممتلكات، أما الجدران فممتلئة بكتابات الشماتة والوعيد من نوع “من هنا مرّ جنود الأسد” و”إن عدتم عدنا”. في الواقع كان مصير “الحفّة” آنذاك نذيراً لمناطق أصغر وأقلّ سكاناً كالبيضا و”بانياس القديمة” المحصورتين بين البحر والمناطق التي يغلب عليها بشدة طابع الموالاة، لذا كانت الشائعات عن وجود مسلحين فيهما تهديداً مستمراً باقتحامهما أكثر من أي شيء آخر.

في الجزء الذي يُعدّ موالياً من بانياس، وعلى جدار طويل، يبرز ذلك الشعار الذي يُقال إنه كتب هنا أولاً ثم تداوله عموم الموالين “عادوك ونسيوا مين أبوك”، وعلى جدار آخر كتابة مفادها أن أعداء رأس النظام مهما ارتقوا لن يصلوا إلى نعل حذائه، لذا كان العقلاء من الجانبين يرون في وجود حاجز عسكري يفصل بين مناطق السنة والعلويين صمام أمام يمنع الفتيل من الانفجار. على العموم، لا أحد من جهة “رأس النبع” كان يعبر ذلك الحاجز باتجاه المناطق الموالية تحسباً من قيام الشبيحة هناك بأي عمل تخريبي بغية إلصاقه بالسنّة، وفي المقابل قلة من القسم المؤيد تعبر في الاتجاه الآخر، إن لم يكن بحكم الضرورة فلإظهار رفضهم تقسيم المدينة على هذا النحو؛ البعض منهم اعتُقل على الحاجز أو تعرض لمضايقات شديدة من الشبيحة لردعه عن محاولة مدّ الجسور بين الطائفتين.

ما يُظهره مسرح الجريمة بوضوح تام أنه لم يكن هناك أدنى فرصة لدى من تبقى من المناوئين للنظام لكي يقوموا بأي نشاط ضده، باستثناء بقائهم في منطقتهم الذي يُعد، ضمن ظروف الكراهية والتهديد اللذين يحيطان بهم، نوعاً من البطولة. ومن المتوقع أن يكون عدد سكان هذا الجزء من بانياس وأيضاً سكان البيضا وسهم البحر والمرقب وغيرها، أي سكان القرى السنيّة هناك، قد انخفض إلى الثلث بعد نزوح قسم من العائلات، إثر عمليات التنكيل التي حصلت قبل سنتين. سيكون مؤلماً دائماً أن نسترجع الجريمة الأولى، لكن ما انتشر على اليوتيوب حينها لا يقدّم الصورة بكل بشاعتها. فبخلاف الدعس على أجساد الرجال في ساحة البيضا، قامت قوات النظام باعتقال الشباب والرجال في المدينة القديمة من بانياس، واقتادتهم إلى الملعب البلدي حيث تركتهم هناك تحت التنكيل والتعذيب لمدة ثلاثة أيام، ومن دون أن يُقدّم لهم أي طعام أو شراب. معارضان ينحدران من القسم المؤيد في المدينة أتيح لهما رؤية ما يجري بعد اعتقالهما لبضع ساعات، وضمهما إلى بقية المعتقلين، عرفهم الباقون من صوتيهما لأن العيون كانت معصوبة، فكانت فرحة وجودهما، الفرحة المريرة بالطبع، بلسماً للجرح الطائفي البغيض، غير أن الطامة الكبرى كانت في اقتياد أولئك المعتقلين في شاحنات مكشوفة إلى القرى المجاورة المؤيدة ليقوم شبيحتها بالبصاق عليهم، وحتى التبول على أجسادهم. الأمر ذاته سيحدث بعد أشهر في مدينة جبلة المجاورة، إذ ستتم دعوة المؤيدين لحضور “كرنفال” اعتقال جماعي، حيث سيشارك من يشاء منهم في إهانة المعتقلين وضربهم، في أثناء اقتيادهم من قبل عناصر المخابرات.

مع ذلك لم تنجح الجرائم المتتالية، من البيضا وبانياس وصولاً إلى الحفة، في “تطهير” هذه المنطقة المناوئة من سكانها كافة، ولا شك في أن انضمام شبابها إلى صفوف الثوار في مناطق أخرى كإدلب وحلب كان يزيد من نقمة النظام وشبيحته عليهم، فضلاً عن عدم نسيان الإحراج الذي تسبب به ما بات يعرف بـ”فيديو البيضا”، وبالتأكيد عدم نسيان التظاهرة النسائية الأهم، عندما قامت نساء البيضا بقطع الطريق الدولي احتجاجاً على اعتقال شباب القرية. ليس مجازاً القول هنا إن هذه المنطقة أشبه بشوكة في حلق النظام، لأنها فعلاً المنطقة الوحيدة التي لم تتوقف عن إثارة المتاعب ضمن محافظة طرطوس، التي لم تشهد حراكاً ثورياً فاعلاً، ويركز شبيحتها على ولائها المطلق، بل ويذهب البعض إلى اعتبارها عاصمة الدولة العلوية المقبلة. لعل هذه المعطيات تضيء على المقدمات التي أدت إلى المذبحة، لكنها لا تعني أبداً أن المذبحة كانت متوقعة، على النحو الفظيع الذي تمت به. فالشبيحة، كما في كل مرة جديدة، فاقوا التوقعات في وحشيتهم.

قد تذكّرنا بعض صور مذبحتي البيضا وبانياس بتلك التي شاهدناها في “الحولة” و”القبير” من قبل، إلا أن فارقاً جوهرياً بين هذه المذابح يُظهره تعاطي النظام مع المذابح الأخيرة، فهو قد قام بها بمواكبة من إعلامه الرسمي وإعلام شريكه “قناة المنار”، فنُقلت على الملأ تصريحات الشبيحة وهم يتوعدون بالخلاص نهائياً من البيضا، وركّزت الكاميرا على وجوههم التي سرعان ما فضحت أسماءهم وانتماءهم إلى قرى مؤيدة، وكانت الكاميرا قد ركّزت جيداً على تمركز الشبيحة وتجهيزهم لأنفسهم في كنيسة القرية المجاورة زيادةً في إثارة الأحقاد وتوريط مسيحيي المنطقة في حرب النظام. هذه العلنية القصوى ترفع مستوى المذبحة، أو بالأحرى تنحط به، إلى عتبة التطهير الطائفي الممنهج، وهي تأتي بعد فشل النظام في استدراج المعارضة إلى حرب طائفية، أي أنه منذ الآن باشر الحرب الطائفية علناً، وبمساعدة حلفائه بغية فرضها كأمر واقع على الطرف الآخر.

خلافاً لكل ما يُشاع عن موضوع الأقليات والأكثرية في سوريا تأتي المذابح المستمرة لأيام في البيضا وبانياس، فالذين استُهدفوا فيها هم أقلية صغيرة جداً ضمن منطقتهم، وفوق ذلك أقلية تعرّض القسم الأكبر منها لتهجير سابق، وهناك عائلات لم يبقَ منها أصلاً سوى النساء والأطفال والشيوخ، واستهداف النساء والأطفال بخاصة، يُعدّ جريمة طائفية بامتياز، عبرت عنها الصفحات الموالية بالقول إنهم لا يريدون لأطفالهم رؤية أطفال البيضا وبانياس ثانية. لم يكن غريباً إذاً أن تم تجريد القلة الهاربة من المذبحة من بطاقات الهوية الشخصية، وما أشيع عن تجريدهم من سندات الملكية لعقاراتهم وأراضيهم؛ هذه هي رؤية النظام الحقيقية لحماية الأقليات؛ هكذا يثبت أنه تجاوز بمراحل ما فعلته عصابات الهاغاناه وشتيرن الإرهابيتان في فلسطين.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى