مراجعات كتب

“التاريخ والوعي الطبقي” للوكاتش: من يجرؤ على الدنوّ من ماركس؟/ ابراهيم العريس

 

 

يعرف أهل الأدب وعلومه جورج لوكاتش ويعرفون أنه واحد من الرواد الكبار في صياغة نظريات للرواية والفكر الحديث ولا سيما الرواية التاريخية، بُني عليها قدر كبير من الدراسات المتعلقة بهذه الأمور طوال القرن العشرين، لكنهم يعرفون أقل إسهاماته النظرية في الوعي السياسي والاجتماعي، تلك التي كلفته غالياً في حياته لكنها أبقته الى الأبد بوصفه المنظّر الماركسي الوحيد، تقريباً الذي جَرؤ أوائل القرن العشرين على الدنوّ من ماركس بل حتى محاولة استكمال ما بدا له «ناقصاً» في كتاب هذا الأخير العمدة «رأس المال». ومن هنا تلك المكانة الفريدة التي يحتلها لوكاتش في تاريخ الفكر الماركسي، بالمعنين السلبي والإيجابي للكلمة. وفي هذا السياق، قد يكون منطقياً أن نقول إن حياة جورج لوكاتش ومغامراته الفكرية ربما تكون قادرة أكثر من غيرها على رسم صورة للتناقضات والصراعات التي عاشها الفكر الماركسي وأساليب تطبيقه العملي في القرن العشرين. فهذا الفيلسوف المجري، تمكن عبر العديد من كتبه، ولكن بخاصة عبر مرتين قام فيهما بنقد ذاتي عنيف لأفكاره، وعبر مشاركة فعالة في الحياة السياسية لبلده، ودائماً من موقع المشاكسة، تمكن من أن يصنع لنفسه مكانة قلما حظي بها أي مفكر آخر من مفكري هذا القرن.

كان جورج لوكاتش في الثالثة والثلاثين من عمره حين انتسب الى الحزب الشيوعي المجري، بعد مغامرات فكرية عديدة. ولعل من أغرب الأمور في هذا المجال أنه فور انتسابه للحزب، وحين قامت جمهورية بيلا كون الاشتراكية العابرة في المجر، خلال ربيع وصيف العام 1919، عُيّن لوكاتش في منصب «مفوض الشعب لشؤون الثقافة» أي وزيراً للثقافة، وذلك على الرغم من هرطوقيته النسبية في مجال فهمه وتفسيره للفكر الماركسي، وهي هرطوقية قادته بعد تلك التجربة بسنوات قليلة الى نشر كتابه الأشهر «التاريخ والوعي الطبقي» الذي إذا ما قرأناه في عمقه سنجده على تناقض كبير مع الفكر الماركسي، بل سنجده هيغلياً من حيث ترجيحه كفة الوعي في مجال الفعل التاريخي على كفة الفعل. فكما هو الأمر لدى هيغل، وعلى عكس ما يعبر عنه كارل ماركس، نجد في كتاب لوكاتش هذا أن الوعي (الفردي أو الطبقي) هو الذي يحدد مكان صاحبه وأساليب نضاله، وليس الوجود الفعال هو ما يحدد الوعي. هذا التناقض الأساسي بين ما ينادي به لوكاتش وبين ما يعبر عنه ماركس في إحدى أشهر أطروحاته حول فيورباخ، جعل الفيلسوف المجري موضع لعنة الماركسيين المتشددين، ما أجبره في 1945 على نقد ذاته في شكل حاد والامتناع لفترة عن الأعمال النظرية.

غير أن ذلك النقد و «التراجع» اللذين أبداهما لوكاتش، لم يقللا من شأن ذلك الكتاب أبداً، بل إنه، ومنذ سقوط المنظومة الاشتراكية وبالتالي، التزمّت الحزبي الذي كان لوكاتش ضحيته – وطواعيةً أحياناً -، استعاد مكانته كما حال العديد من المؤلفات التي تنبهت باكراً الى ما في النظرية «البروليتارية» من مشاكل، ولا سيما حين تنتقل الى حيز التطبيق، (في شكل يذكّر بعبارة «لو كنت أعرف» التي باتت شهيرة في سياق آخر). المهم أن قراءة «التاريخ والوعي الطبقي» تبدو اليوم بعد كل ما حدث، ليست ضرورية فقط لإعادة الاعتبار الى لوكاتش، بل كذلك لفهم أمور كثيرة تفسّر كيف ضُرب الفكر الماركسي من داخله وكيف أنه في بنيته نفسها كان مهيّأً لذلك المصير. ويقول لنا لوكاش على أية حال أنه لم يكن مصيراً حتمياً. كان «خطأً بشرياً» كما قد نقول اليوم. ولكن ما هو «التاريخ والوعي الطبقي» الذي إذا كنا ننصح القارئ العربي بشيء فهو ألا يقرأه في ترجمته العربية (الصادرة في السبعينات عن دار الأندلس في بيروت) التي كان من الواضح أن «مقترفها» لم يفهم شيئاً لا من الكتاب ولا من الفكر الماركسي. ما هو هذا الكتاب؟

بكل بساطة هو وفق العديد من الباحثين «الكتاب- المفتاح» لولوج الفكر الماركسي خلال النصف الأول من القرن العشرين. وهو يتصدى أول ما يتصدى للفكر الماركسي المتزمت ويمر على أفكار روزا لوكسمبورغ قبل أن يصل الى لب الموضوع وهو الوعي الطبقي الذي يرى أنه من دون طبقات المجتمع وعلى مدى تاريخ هذا المجتمع ليس ثمة سوى طبقة واحدة تكتسب هذا الوعي وهي البروليتاريا التي يمكنها أن تطور الوعي الطبقي لديها، انطلاقاً من موقعها الواضح في النظام الرأسمالي. في الوقت الذي تكون فيه الطبقات الأخرى، – بما فيها البورجوازية التي تكون عادة الأكثر تنوّراً -، محدودة بوعي مزيف يمنعها من أن تفهم شمولية التاريخ. وهذا الأمر يرى لوكاتش أن ماركس قد حدّده وتحدث عنه بوضوح في سياق نظريته حول تسليع السوق وتشييئه، لكن ثمة نواقص في السرد الماركسي يتنطح لوكاش لسدّها في هذا السياق بالذات. وهو كي يتوصل الى هذا يقسم الكتاب ثلاثة أجزاء: يحلل في أولها ظاهرة التشييء نفسها، ليدنو في الثاني من تناقضات الفكر البورجازي وعلاقته بالوعي من طريق وعيه المزيف. أما في الجزء الثالث، وهو الأهم والأكثر جرأة في ذلك الحين، فيتناول فيه وجهة نظر البروليتاريا ووعيها الطبيعي للتشييء كمسبّب لاغترابها وبالتالي حيازتها الوعي الطبقي الذي يتطابق هنا مع مصلحتها ودورها التاريخي، متحدثاً عن تغيير في وظيفة المادية التاريخية. متوقفاً كـ «مثال» عند الثورة الروسية وإنجازاتها ولكن بخاصة عند ملاحظات روزا لوكسمبورغ على تلك الثورة، واصلاً الى ما يسميه «ملاحظات منهجية حول قضية التنظيم» على اعتبار أن هذا الأخير هو الذي يحوّل الوعي الطبقي الى قوة تغييرية في انتقاله من «الدوكسا» الى «البراكسيس». لقد كان لوكاتش بالغ الجرأة يومها -العام 1923- في وضعه هذا الكتاب، وتصدّيه لأفكار كانت من قبيل المسلمات «الحزبية». ومن هنا طبع تجاهل أصحاب المصلحة في طروحاته، للكتاب، حياته كلها، ما أرغمه يومها على سلوك أول تراجع كبير في تاريخه.

ويمكننا أن نقول، على أية حال، إن حياة لوكاتش كلها كانت سلسلة من التراجعات. وذلك لأنه تمزق دائماً بين ما كان يراه صواباً من الناحية النظرية الفكرية البحتة، وما كان يراه ضرورة تكتيكية من الناحية العملية. وهنا يجب ألا ننسى أن لوكاتش، أكثر مما كان تلميذاً لماركس، كان تلميذاً لفلاسفة تجريبيين عمليين من طراز جورج سيميل وماكس فيبر وإميل لامسك. وأن كتاباته الأولى لم تكن ماركسية بأي حال من الأحوال لا سيما منها كتابَيه «الروح والأشكال» و «نظرية الرواية».

في 1932 حين بدأ الخطر النازي يتهدد المجر، فر لوكاتش الى موسكو حيث عاش ردحاً من الزمن، عاد بعده مع نهاية الحرب الى وطنه ليصبح أستاذاً للفلسفة ويُنتخب نائباً في مجلس الشعب، وكانت تلك هي المرحلة التي قام فيها، من جديد، بنقد ذاته في شكل جعل السلطة الستالينية الحاكمة ترضى عنه وتعامله بوصفه الفيلسوف الرسمي للدولة. أما هو فقد صمت لفترة طويلة، تاركاً للمستقبل أمر التعامل مع رغباته التجديدية بالنسبة الى الفكر الماركسي، وذلك خوفاً من أن يُتّهم بالتحريفية من جديد، بخاصة عبر تركيزه على دور الذات والوعي الفردي، وهو دور لم يفته – على أي حال – أن يعبر عنه بخاصة في كتبه النظرية العديدة حول الرواية، وهي الكتب التي أثرت كثيراً في بعض أهم مؤرخي الأدب في القرن العشرين بخاصة لوسيان غولدمان، تماماً كما أن كتاباته الفلسفية المبكرة أثرت في فلاسفة من أمثال كارل مانهايم وكارل كورش وحتى مارتن هايديغر.

بيد أن صمت لوكاتش لم يطل على أي حال. وكذلك تراجعه التالي، فالواقع أنه حين قامت انتفاضة 1956 في المجر وتشكلت حكومة ايمري ناجي الثورية ضد الستالينيين، أحس لوكاتش بأن زمنه قد حان أخيراً، فإذا به ينضم الى المنتفضين ويُعيّن وزيراً للثقافة. بيد أن الانتفاضة سرعان ما هُزمت، ما اضطر لوكاتش للهرب الى رومانيا (ويقال الى يوغوسلافيا) حيث بقي حتى العام التالي. بعد ذلك عاد الى المجر، إثر نقد ذاتي جديد. وهذه المرة انصرف فعلاً الى أعماله الفكرية فكتب مجلدين في علم الجمال، ونقّح بعض كتبه القديمة بخاصة كتبه حول تاريخ فن الرواية و «نظرية الرواية» وحول علم اجتماع الرواية. وهو حيث توفي عام 1971 كان في قمة مجده… ولكن في قمة يأسه أيضاً.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى