صبحي حديديصفحات سورية

التجربة الديمقراطية في كينيا: اختبار الآمال والآلام/ صبحي حديدي

 

 

 

أخبار كينيا ينبغي أن تحظى باهتمام خاصّ من ديمقراطيي العالم إجمالاً، ومواطني البلدان النامية («العالم الثالث» في التسمية السالفة)، خاصة؛ وكذلك في أفريقيا، والعالم العربي، بصفة أخصّ. هذه أمّة نالت استقلالها عن التاج الكولونيالي البريطاني أواخر العام 1963، واختارت النظام الملكي أوّلاً، ثمّ الجمهوري بعد سنة واحدة، وتكفّل جومو كينياتا (أوّل رئيس وزراء بعد الاستقلال) بتحويلها إلى دولة الحزب الواحد؛ قبل أن تتعاقب تجارب البلد السياسية لترسخ واحدة من أكثر ديمقراطيات افريقيا استقراراً وازدهاراً. إنها اليوم، كما في سنة 2007، تخوض امتحاناً قاسياً قد يضيف إلى نظامها الديمقراطي المزيد من عناصر القوّة والثبات، أو عناصر الضعف والاهتزاز.

الاختبار الأحدث عهداً وقع يوم أمس، حين أُعيد إجراء الانتخابات الرئاسية بمرشح وحيد هو أهورو كينياتا، الرئيس الذي ترشح لولاية ثانية؛ في مقابل إصرار منافسه ومرشح المعارضة رايلا أودينغا على مقاطعة الانتخابات. قبل ذلك، في 8 آب (أغسطس) الماضي، كانت الانتخابات قد أسفرت عن فوز كينياتا؛ لكنّ الطعون التي رفعتها المعارضة، بصدد التلاعب في الأنظمة الرقمية للتصويت، قادت المحكمة العليا (بأغلبية 4 مقابل 2) إلى إبطال نتائج تلك الدورة، والدعوة إلى إعادة الانتخابات خلال 60 يوماً. وبالطبع، كان ذلك القرار نقلة نوعية كبرى في الحياة السياسية للقارّة الأفريقية بأسرها، إذْ سجّلت كينيا سابقة أولى تاريخية حين تولت المحكمة العليا مسؤوليتها الدستورية وأبطلت نتائج انتخابات الدورة الأولى.

لكنّ السابقة اللامعة انقلبت إلى إشكال، ثمّ صارت أزمة سياسية ودستورية خطيرة، حين رُفعت إلى المحكمة العليا عريضة شعبية، وقفت المعارضة خلفها، تطالب بتأجيل الانتخابات الثانية. إلا أنّ المحكمة تخلت، هذه المرّة، عن مواكبة الامتحان الديمقراطي، ففشل أعضاؤها في الاجتماع بالأغلبية القانونية المطلوبة، وبات إجراء الانتخابات الثانية في موعدها (أمس الخميس) مسألة أمر واقع. يُضاف إلى هذا أنّ السيدة روزلين أكومبي، العضو البارز في الهيئة العليا لتنظيم الانتخابات، فرّت إلى الولايات المتحدة وقدّمت استقالتها، زاعمة أنّ الهيئة صارت مشلولة بفعل تدخلات الساسة، وبات أعضاؤها يخشون على حياتهم. زميلها وافولا شيبوكاتي، رئيس الهيئة، أعلن من جانبه أنّ الزعماء السياسيين على الجانبين أخذوا يشكلون «الخطر الأكبر على سلام الأمّة واستقرارها»، وأنه «ليس واثقاً حقاً» من أنّ التصويت الثاني سوف يتحلى بالمصداقية.

وحتى ساعة كتابة هذه السطور، كانت معطيات التصويت تشير إلى إقبال ضعيف، مما يعني أنّ نداء مرشح المعارضة الذي دعا إلى مقاطعة الانتخابات الثانية، يلقى استجابة شعبية ملموسة. وأمّا الأخطار، الأدهى من حال الاستعصاء في صناديق الاقتراع، فإنها تتمثل في احتمالات الصدام بين أنصار الزعيمين؛ الأمر الذي تمخض، خلال الشهرين الماضيين فقط، عن 70 قتيلاً. وتلك تذكرة بأعمال شغب مماثلة، نجمت عن هزيمة أودينغا في انتخابات 2007، بفارق ضئيل أمام مواي كيباكي الذي انتُخب لولاية ثانية، ومقتل 1200 من أنصار المعارضة على يد قوى الأمن، وانقلاب النزاع السياسي إلى أعمال عنف إثنية. تلك كانت حروب «الـ 1 ضدّ الـ 47»، كناية عن حرب كيباكي وقبيلة كيكويوس (التي ينتمي إليها، وتحتكر معظم مناصب السلطة)، ضدّ جميع قبائل كينيا الأخرى، الأصغر عدداً وشأناً.

لكنها، بمعزل عن هذا، كانت أيضاً حرباً تنطوي على نزاعات اجتماعية عميقة، وتعكس صراعات طبقية مستعصية، بين البؤس والرفاه، والفاقة والفساد، ومنتهى الفقر الشعبي وذروة التكلّف الحكومي. ذلك لأنّ «حكاية النجاح السعيدة»، كما يستطيب لبعض زعماء أوروبا أن يصفوا كينيا، لم تكن عرضة لتهديد صراعات داخلية إثنية وقبائلية واجتماعية وسياسية، فحسب؛ بل توفرت أيضاً سلسلة أسباب ذات صلة بالسياسات الخارجية، الإقليمية والدولية، وارتهان الرئاسات المتعاقبة باشتراطات «صندوق النقد الدولي»، وتطبيق وصفات التقشف القاسية التي فرضها «البنك الدولي»؛ فضلاً عن اقتياد البلد، مثل تابع سائر كالأعمى، خلف الخطط الأمريكية في إطار ما سُمّ بـ«الحملة ضدّ الإرهاب».

لا تُنسى، كذلك، حقيقة أنّ كينيا هي ميدان إقامة وتدريبات الـ«أفريكوم»، القيادة العسكرية الأمريكية الخاصة بأفريقيا؛ ولهذا فإنّ ميكيلا رونغ ـ الأخصائية في الشؤون الأفريقية وصاحبة العملَيْن المميّزين «على خطى المستر كرتز: العيش على حافة الكارثة في الكونغو» و«لست الفاعل: كيف استخدم الغرب وأساء استخدام الدول الأفريقية الصغرى» ـ أنّ كينيا «عرضة لاستهداف متكرّر من منظمة القاعدة، كما أنها ممرّ للمخدّرات الثقيلة المنصبّة على شوارع أوروبا في آن معاً». وليس غريباً، استطراداً، أنها «بلد لا يعتمد استقرار المنطقة على قوّته أو ضعفه داخلياً فحسب، بل يعتمد عليه أمن البلدان الغربية كذلك»، كما يساجل دبلوماسيون غربيون كثر.

والحال أنّ المسؤولية عمّا يتهدّد كينيا من مخاطر لا تقع على اللاعبين المحليين وحدهم، بل يمتدّ نطاقها خارج الحدود ويعبر البحار والمحيطات، إلى حيث البيت الأبيض في واشنطن و10 داوننغ ستريت في لندن؛ حتى إذا كانت ذنوب أهل البلد، في هذا، لا تُقاس بأيّ ذنوب أخرى. وحول الحصة الأمريكية من المسؤولية، ثمة هنا تكرار للخطايا (فهي ليست محض أخطاء!) التي ارتكبتها الإدارات المتعاقبة، منذ أن اكتشفت الولايات المتحدة القارّة الأفريقية أواخر الخمسينيات من القرن الماضي.

وطيلة عقود أعقبت ذلك الاكتشاف، ظلّ مخططو السياسة الخارجية الأمريكية يمارسون في القارّة دور الثور الضخم البليد، الذي يغرق في سبات عميق حتى تلوح في الأفق نجمة حمراء سوفييتية؛ وعندها فقط يهيج الثور ويرغي ويزبد، ثمّ يحيك المؤامرات ويشتري العملاء ويسلّح الطغاة حتى النواجذ.

وبالطبع، وكما يحدث عادة، ظلّ الغرب يسكت عن فساد الإدارات المتعاقبة في كينيا، من جهة أولى؛ ويواصل إطراء تجربتها الديمقراطية، واستلهام فردوسها الأرضي، الذي غذّته، أيضاً رواية الكاتبة الدانمركية البارونة كارين بليكسن وعشيقها دنيس فينش هاتون (ميريل ستريب وروبرت ردفورد في الشريط الشهير «خارج أفريقيا»)، في أوج هستيريا الاستيطان الاستعماري الغربي على امتداد أفريقيا، من جهة ثانية. وحين اضطرّ إدوارد كلاي، المفوّض الأعلى البريطاني، إلى استخدام لغة مقذعة في وصف فاسدي كينيا (قال بالحرف: «لقد ابتلعوا وابتلعوا حتى تقيأوا على أحذية المانحين الأوروبيين»)؛ كان عقابه الفوري هو الإعفاء من المنصب، وتعيين بديل أكثر تفهماً للإقياء والمتقيئين!

هو امتحان للتجربة الديمقراطية المتميزة، إذن، في أنّ القضاء (متمثلاً بالمحكمة العليا) كان له القول الفصل في الشطر الأوّل من الاستعصاء؛ ثمّ انسحب من المعمعة، كما يلوح، في شطرها الثاني، فأرخى على المشهد القانوني ظلالاً داكنة قد تتكشف عن ليل مطبق يحجب الحقّ والحقيقة. ولن يكون غياب الهيئة العليا للانتخابات، أياً كانت الذرائع التي ساقها المنسحبون منها، إلا العنصر الإضافي الدالّ على تراجع التجربة الديمقراطية بأسرها، أو انتكاستها على نحو بالغ الخطورة. المجتمع المدني الكيني، من جانبه، لا يبدو أكثر جسارة من المحكمة العليا في تصويب انزلاق الأحزاب نحو اصطراع سياسي، مرشّح للتدهور نحو درك الحروب الإثنية والقبائلية. وإذا كانت مآلات انتخابات يوم أمس تخصّ مواطني كينيا أوّلاً، وتلك التجربة الديمقراطية التي يجري التغنّي بها، عن حقّ صادق أو آخر يُراد به الباطل؛ فإنها، في الآن ذاته، رهانات تخصّ العديد من البلدان خارج كينيا، في سائر أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وحيثما توجّب أن ترتكز الثقافة الديمقراطية على أرض وطنية صلبة؛ لا تؤطرها أساطير الفراديس الأرضية، ولكن لا تغيب عنها الأحلام والآمال المشروعة أيضاً.

٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

القدس العربي،

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى