صفحات العالم

التحدي العربي/ الياس خوري

تحار كيف تقرأ سياسة هذه الأيام، فالتحليل الاستراتيجي يملأ الصحف ووسائل الاعلام، والمحللون يتبارون في محاولة فهم التسوية النووية الايرانية مع الدول الكبرى، عبر ربط النووي الايراني بالكيماوي السوري من جهة، وعبر قراءة انعكاس ذلك على المنطقة، وخصوصا على دول الخليج واسرائيل، من جهة ثانية.

صار العالم رقعة شطرنج، يجلس حولها مجموعة من اللاعبين الكبار، يحركون البيادق، يحشدون في منطقة ويخففون من تواجدهم في منطقة أخرى. عالم مكتظ بالسفن التي تحتل البحار والمحيطات، وتوازنات جديدة تُرسم، كأن الحرب تدور اساساً في السياسة بدلا من ان تدور في ميادين القتال فقط.

هذا لا يعني ان العالم ينعم بالسلام، بل يعني ان القوى العظمى لا تقاتل بنفسها، بل تترك القتال للقوى الصغرى، وتبني توازناتها انطلاقا من وقائع القتال ونتائجه.

هكذا رست المعادلة خلال الحرب الباردة، اذ لم تتورط القوتان العظميان الا في عدد محدود من الحروب: امريكا تورطت في الحرب الكورية، ثم ارتكبت خطئيتها الكبرى في حرب فيتنام التي هشمت صورتها فاضطرت الى الانسحاب مهزومة. اما الاتحاد السوفياتي فعدا عن حمايته لحدوده الجيو- سياسية بالدبابات في اوروبا الشرقية: المجر وتشيكوسلوفاكيا، فإنه لم يتورط مباشرة في اي حرب الى ان وقع في الفخ الافعاني الذي كان علامة نهاية الامبراطورية السوفياتية.

بعد نهاية الحرب الباردة ارتسمت حدود جديدة للعالم، قوة عظمة واحدة هي الولايات المتحدة، وكرة ارضية يعاد تركيبها بناء على ذلك. غير ان جنون العظمة الذي احتل رؤوس المحافظين الجدد في الولايات قادهم الى استنتاجين خاطئين:

الأول هو ان بمقدورهم استخدام القوة ساعة يريدون، وهذا ما اوقعهم في الفخين الأفغاني والعراقي، حيث تجرّعوا انتصارات هي اكثر مرارة من الهزائم.

الثاني هو استخفافهم بقدرات الآخرين: القوة الاقتصادية الصينية الصاعدة، روسيا، دول البريكس، اضافة الى استفحال الأزمة الاقتصادية في الغرب.

هنا بدأ الأمريكيون مع ادارة اوباما في اعادة النظر في حساباتهم، وبدأوا في الانسحاب العسكري من الصراعات المسلحة، معيدين الأمور الى نقطة شبيهة بأزمنة الحرب الباردة.

هذا لا يعني انسحابا امريكيا شاملا من المنطقة، كما يظن البعض، بل يعني اعادة تنظيم للأولويات، وتقنين للصراعات، ورسم بياني جديد يتعظ من سذاجة مقولة نهاية التاريخ، فغواية وراثة روما، لا تتم بالوسائل العسكرية، عدا عن انها مستحيلة في عالمنا الشاسع.

لذا تبدو جميع الاستنتاجات سابقة لأوانها، فالهستيريا الاسرائيلية التي رافقت الاتفاق حول النووي، ليست سوى بقايا من زمن جنون القوة الذي اعتقد ان اسرائيل صارت سيدة مطلقة على المنطقة، وقد كانت حرب تموز/يوليو 2006 اشارة واضحة الى نهاية ذلك، لكن زعماء اليمين لم يستطعوا التقاطها. اما الضياع الخليجي، فهو نتيجة تفكك النظام الأمني العربي، وهو واقع لا يمكن الخروج منه الا عبر اصلاح هذا النظام قبل فوات الاوان.

غير ان السؤال الكبير هو اين العرب من لعبة الشطرنج الجديدة؟

من الواضح ان الايرانيين نجحوا في دخول الملعب الأقليمي من بوابة الصراع مع اسرائيل. صعّدوا هنا بكل الوسائل المتاحة، ونجحوا في استغلال ازمة العرب والفلسطينيين مع قضيتهم، كي يستولوا على اداة الحوار مع الولايات المتحدة عبر التصعيد والصمود بوسائل متعددة: دينية وعسكرية وسياسية، مستغلين المأزق العسكري الامريكي في المنطقة الذي شلّ احتمالات الضربة العسكرية.

في المقابل كان العالم العربي، قبل اندلاع الثورات، مستسلما ونائما في سرير التطمينات الأمريكية، وهذا ما جعله اشبه بمن يتسوّل ضغطاً على اسرائيل لن يأتي، وحوّله الى رجل امريكا المريض، الذي يصعب علاجه.

لم تستطع الثورات العربية تغيير هذه المعادلة، فالأمر لا يحتاج الى وقت فقط، بل يحتاج ايضا الى جهد يعيد رسم الاستراتيجية العربية عبر استعادة مصر لدورها المحوري. كما ان عملية التغيير واجهت صعوبات هائلة في سورية. بل جرى تحويل انتفاضة الشعب السوري الكبرى من اجل حريته وكرامته، الى ملعب اقليمي ودولي دموي.

تعبّر سورية عن مأزق العمل السياسي الثوري العربي بشكل واضح: غياب القيادة الفاعلة التي تحمل مشروعا تغييريا، نجاح النظام في اغراق الثورة في الدم، وفي استنفار العصبيات الطائفية، الهجوم الاصولي الذي اداره الخارج الاقليمي: السعودية، قطر، وتركيا، عبر ترسيمة التدخل الخارجي الامريكي التي ولّى زمنها، الحشد الأصولي الشيعي الذي امدّ النظام بمقاتلي حزب الله وابي الفضل العباس، اضافة الى لعبة القاعدة التي تحتاج الى فهم حقيقي يتجاوز القراءة الايديولوجية.

الهلع الخليجي من الاتفاق النووي هو بكاء على اطلال الاستقواء بالتدخل العسكري الامريكي، بسبب عدم القدرة على قراءة التغيرات الاستراتيجية في العالم، والبنيان القائم على سياسة ريعية غير قادرة على الخروج من حاجتها الى مظلة حماية خارجية.

نجاح الايرانيين النسبي لا يعود فقط الى قدرتهم على التلويح بالصدام المسلح مع اسرائيل، بل ايضا واساسا الى كون هذا الصدام هو صدام تكتيكي، وليس مسألة حياة او موت بالنسبة اليهم. اما في الحالات العربية المشابهة، وهي حالة مصر الناصرية، فان هذا التلويح قاد الى عكس ذلك، لأن مصر الناصرية لم تصطدم باسرائيل بهدف الحصول على مكاسب في مكان آخر، بل كان صدامها جزءا من مواجهة شاملة تطاول الوجود العربي.

لكن للأسف فإن الاستنتاج الساداتي من حصاد ثلاثة حروب مع اسرائيل قاد العالم العربي الى هاوية التحوّل الى رجل امريكا المريض في العالم.

الجواب على الأسئلة التي يطرحها هذا التحول الاستراتيجي هو مهمة عربية عاجلة. فللمرة الأولى في تاريخنا المعاصر يندمج المشروع الوطني التحرري بالمشروع الديموقراطي بشكل واضح، بحيث تصير الحرية شرطا لولادة نظام امني عربي جديد.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى