صفحات مميزةمازن كم الماز

التدخل الخارجي , و مخاطر انزلاق الثورة السورية


مازن كم الماز

الحقيقة أن هناك بعض الحقائق البديهية التي يفترض أن تحكم سلوكنا و تصرفاتنا كبشر , منها في حالة ثورة الجماهير السورية أن النظام السوري نظام ديكتاتوري يقمع و يضطهد و ينهب شعبه و أنه لا يفترض بالسوريين العاديين أن يكونوا صورة عنا و أن يتصرفوا تماما بالطريقة التي نريدهم ان يفعلوا , إن أي تحرري لا يمكن أن يكون صادقا مع نفسه و يعتقد بمثل هذا الهراء , و حقيقة أن السوريين العاديين إنما خرجوا اليوم يواجهون رصاص و قذائف شبيحة و مرتزقة النظام السوري بصدورهم لسبب وحيد هو أنهم يريدون حريتهم , هذا لا يترك المجال لأي إنسان يزعم أنه يساري أو تحرري ليقف متفرجا على هذه الانتفاضة , كما يفعل “اليساريون” السلطويون الذين يكتفون بالتفرج بينما يكدسون لتبرير موقفهم ( الذي يناصر النظام و قمعه في الواقع علنا أو ضمنا ) أعذارا و مبررات تتعلق بدرجة وعي السوريين العاديين و تطور المجتمع , الخ , أي أنهم يستخدمون الدوغما الماركسية ضد الناس العاديين و حريتهم , لكن هناك وجه آخر لما يجري , فالبنية الهشة لوعي قسم كبير من المثقفين و اليساريين السوريين انكشفت تماما تحت ضربات الانتفاضة , لقد سقط القناع “العلماني” و “التقدمي” لتظهر أولوية الانتماء الطائفي , من يتحدث اليوم عن العلمانية أكثر من الجميع هو في الواقع الأكثر طائفية , طبعا يجب أن نميز هنا بين الانتماء الطائفي كنتيجة لواقع مفروض و التعامل معه على هذا الأساس أي مثلا الخوف و الحذر من الآخر الطائفي خاصة في مناطق التوتر الأعلى الذي يمكن اعتباره سلوكا إنسانيا طبيعيا و بين الموقف الواعي الذاتي الذي يحول الانتماء الطائفي إلى “إيمان” فعلي بأن النظام يمثل نظام الطائفة و تفضيله لهذا السبب على حرية السوريين خاصة من الطائفة الأخرى التي يجري تشويهها عمدا و اختزالها في ظواهر كالعرعور و غيره , لقد عمل هؤلاء جاهدين على عرعرة الثورة السورية و قد كانوا جزئيا مسؤولين عن قبول الشارع الثائر بحقيقة أن العرعور يشكل خصما حقيقيا للنظام يثير حنقه , هذا كان بالتحديد هو ما جعل نكتة العرعور حقيقة مع الوقت , يجب أن نعترف أننا نحن , يساريو الطائفة الأكبر و الطائفة التي تصنع الثورة في وضع أسهل يسمح لنا “بانتقاد” الآخرين بكثير من “الثقة” و يسمح لنا بالدفاع عن الثورة بكثير من الراحة أيضا , لكن هذا وضعنا أيضا أمام تحدي انتقاد تلك الظواهر السلبية أو التي يمكن اختصارها بالعرعورية في الانتفاضة , فما دامت الجماهير على حق و هي تصنع المعجزة الحقيقية في تحديها للنظام و تنتزع حريتها ( ما فعله السوريون يشبه تماما انتفاضات معسكرات العمل العبودي الغولاغ في سيبيريا بعد موت ستالين في عام 1953 , شيء ما أشبه بفعل انتحاري جماعي يعبر عن يأس بقدر ما يعبر عن بطولة حقيقية ) و ما دام أي موقف انتقادي من الجماهير يحمل صفة نخبوية بالضرورة , صفة من يعتقد أنه في موقف معلم و موجه للجماهير .. الحقيقة أن الإسلاميين يمارسون هذا التوجيه و الإرشاد بشكل افضل بكثير منا نحن اليساريون التحرريون , بالنسبة لهم ليس السوريون العاديون هم من يقاوم و من يتصدى للشبيحة و مرتزقة النظام , ليسوا هم من يغيرون حياتهم ينتزعون حريتهم و ليسوا هم أبطال الثورة الحقيقيون , الثورة ليست ثورتهم و باختصار شديد الحرية القادمة أيضا ليست حريتهم , إن الله عندهم هو من سينصر هؤلاء المنتفضين البواسل , لكن حسب سنن السماء فكل ما على السوريين أن يفعلوه هو أن يموتوا و يموتوا بشرط أن يكون ذلك خالصا للسماء دون أن تداخله أي شبهة من حرية دنيوية أو أرضية او حتى حرية قد تتجاسر على مقدس السماء حتى ترضى السماء بأن تنصرهم و ليست دماؤهم هنا إلا ثمنا يجب دفعه سلفا لكن ليس في مقابل حريتهم فعندما تنصرهم السماء لن يبقى أمامهم إلا أن يلتزموا بشرعها و أوامرها و نواهيها , لا توجد الحرية بالنسبة لهذا المنظور إلا بالحد الذي تفرضه دماء السوريين و هتافهم المدوي في سبيلها , يجب هنا أيضا الا نقع في التعميم و التبسيط , الإسلاميون هنا ليسوا حالة واحدة , من استمع مثلا لخطبة العيد الأخيرة لعصام العطار , و حتى لبعض كلام العرعور نفسه , سيجد كلمة الحرية تتواتر أكثر بكثير من الحديث عن المقدس نفسه بل إن بعضهم يتحدث عنها بتقديس يقارب تقديسهم لشرع السماء التي يفترض أنها تراقب الثوار و ستنصرهم عندما تكتفي من دمائهم , البعض استخدم عددا ليس بالقليل من الحوادث في عدة أماكن ليس آخرها قيام المتظاهرين في القامشلي بإسقاط راية سوريا العلمانية ليخلق شعورا يجير لحساب النظام بان الثورة ستنزلق عاجلا او آجلا نحو ديكتاتورية دينية أو نحو حرب أهلية لا يمكن منعهما إلا عبر قتلة النظام , هؤلاء يعتبرون أنفسهم اذكياء باستخدامهم لمثل هذه الحجج لتبرير قمع نظام همجي كنظام الأسد , الحقيقة أن اليسار التحرري خاصة كان يعول على بعض هؤلاء , ما كتبوه و قالوه قبل 18 آذار الماضي كان يبرر جزئيا هذا الأمل , لكن الحقيقة أن الثورة السورية كشفت مرة جديدة عن نواقص و تشويهات الدوغما السلطوية و خاصة الستالينية بين اليساريين , شيوعيو السقيلبية مثلا الذين كان بكداش الأب و الابن قد نجحوا في سلتنتهم عبر سنوات من ضم هذا أو ذاك للجانهم المركزية و مكاتبهم المختلفة كشفوا عموما عن أن الستالينيين لا شفاء لهم و لا أمل يرجى منهم , الشيء الوحيد الذي كنا نرجوهم أن يفعلوه ان يتوقفوا عن استخدام كلمة و تعبير العلمانية لوصف مواقفهم المؤيدة لقتلة الشعب السوري و ناهبي قوته , أنا أيضا ضد علمانية هؤلاء و اعتقد أن هذا موقف أي يساري تحرري , نحن نعرف كل شيء عن جماهيرنا و لا نعتقد أنه حتى لو كان هذا بمقدورنا أننا يجب أن نقودهم أو نوجههم أو نملي عليهم الصح و الخطأ , إننا لا نريد أن نفرض عليهم “علمانيتنا” الثورية , لا مشكلة لنا مع تمزيق راية أو حتى مع هتاف , نحن لا نريد فرض مملكة صمت جديدة باسم أي عقيدة على الناس و لا نقبل بذلك لا من علمانيين و لا من إسلاميين و لا من غيرهم , أكثر من ذلك , فنحن عندما قبلنا أن نعتمد اساسا على عقولنا , و بإصرار شديد لا يقبل أية مساومة , في تفسير واقعنا و وضع الحلول لمشاكلنا , لم نزعم ابدا أننا نملك الحقيقة المطلقة , العقل الإنساني لا ينتج حقيقة مطلقة أبدا , العقل الإنساني الفردي و الجمعي ينتج حقيقة نسبية بالضرورة , لأنه صورة لعالم يتغير و لأنه هو نفسه في حالة تغير دائم , خلافا للدوغما من كل الأنواع , فإننا نؤمن بالواقع , بالعالم الفعلي , بالسوريين العاديين , بهم و بأنفسنا , نحن لا نريد منهم أن يتوقفوا عن الإيمان بالسماء أو بأي عقيدة , نريدهم أن يؤمنوا بأنفسهم , و بحريتهم , نحن لا نستخدم العلمانية لصالح أية سلطة بل نراها ضرورية لحرية الناس العاديين أنفسهم من أية سلطة تفرض عليهم , يجب أن نعترف أن هناك دلائل على أن هذا كأي شيء , يجب انتزاعه أيضا , و ليس ربما من دون تضحيات , لكننا في دفاعنا عن حقنا في قول رأينا و الدفاع عنه نفعل كما يفعل السوريون العاديون اليوم , لماذا يجب على حريتنا الصغيرة هذه أن تكون أبخس ثمنا من ثمن حرية كل السوريين ؟ أزعم أننا مستعدون لدفع ثمن هذه الحرية الصغيرة , التي بالمناسبة لن تكون خاصة بنا أبدا بل ستكون جزءا أساسيا من حرية كل السوريين … يكثر الحديث اليوم عن تسليح الانتفاضة , و عن الانشقاقات , و حتى عن التدخل الخارجي , إن الأكيد و الثابت حتى اليوم أن النظام السوري قد مارس همجية استثنائية في وحشيتها و استهتارها بالسوريين العاديين , يشمل هذا أيضا أعضاء أجهزة الأمن أنفسهم الذين يضحي بهم النظام فقط لفرض نفسه على السوريين , إن الدفاع عن النفس حق طبيعي لا يحتاج إلى نقاش , لكن هذا يختلف قطعا عن مهاجمة قوات النظام بالسلاح , يجب أن نتوقف هنا عند تكرار نظاهر الانشقاق , النظام يدرك خطرها الكبير عليه و هو لذلك لا يتهاون أبدا معها و يقمعها بكل وحشية , إن لم يكن يستأصلها استئصالا , القضية هنا أننا وسط ثورة و هذا بالضبط ما كنا ندعو إليه الجنود المنحدرين من الطبقات الشعبية , أن يتمردوا على قادتهم , لكن السؤال المهم الآن هو كيف يجب على هؤلاء الجنود أن يتصرفوا , من اصعب الأمور هنا الاتصال بالقوات حتى بالجنود المنشقين , الحقيقة أنه يجب و يمكن تحويل الانشقاقات الصغيرة إلى قوة تضاف للثورة و المشكلة أن الجنود المنشقين ما زالوا يتصرفون بتردد و بالتالي يمنحون قوى النظام الفرصة للقضاء عليهم , و أنهم لا يبذلون الجهد الكافي لضم جنود آخرين أو للتخلص من قياداتهم الميدانية او لتنظيم تحركات ضد مؤسسات النظام الأقوى أو لتحرير قطاعات من المدن و القرى , هذا لا يعني الدعوة لتسليح الانتفاضة و لا لتحويلها إلى معركة بالبنادق سينتصر فيها النظام دون شك باستخدامه دباباته و طائراته و زوارقه الحربية و التي يصلي بشار الأسد و ماهر و رامي و حافظ مخلوف و بقية قادة القتلة ليقع فعلا تمهيدا للمجزرة الأخيرة النهائية كما يتوهمون , لكننا أمام واقع محدد , جنود يرفضون إطلاق النار على المتظاهرين , رد فعل أمن النظام التخلص منهم فورا , سيضطر هؤلاء للدفاع عن أنفسهم , و ستتطور المواجهة , و هي تتطور حتى اليوم للأسف باتجاه إعدام هؤلاء الجنود فورا و غالبا بطريقة يقصد منها تخويف الآخرين , يجب القضاء على الخوف , يجب إسقاط النظام في قلوبنا و إسقاط الخوف و الرهبة منه قبل إسقاطه بالفعل , لكن حتى إذا وصلت هذه الانشقاقات , و هذا مستبعد , لدرجة تصادم قوى عسكرية مع بعضها فمسؤولية ذلك تقع بالكامل على النظام , إن هذه نتائج ضرورية لا حل لها لقمع النظام و من السخيف تماما الطلب للجنود السوريين المنتمين للطبقات الفقيرة بأن يقتلوا أهلهم كيلا تتطور الأمور بهذا الاتجاه , حتى مثل هذا التطور البعيد و الضعيف جدا يجب ألا يعني تسليح الانتفاضة , من يدعو لهذا فإنه ببساطة يسهل على النظام القيام بمجزرته الأخيرة التي ستكون فقط , على الأغلب بداية المجزرة الأكبر , هذا شيء غير إنساني و لا يقل استهتارا بالسوريين العاديين من درجة استهتار النظام نفسه

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى