صفحات سورية

التدخّل الخارجي… “ذاك المرض”!


براء موسى

اعتاد السوريون على عدم التلفظ بمصطلح “التدخل الخارجي”، في ما يخص شؤونهم، كما لو أنهم يتحدثون عن “ذاك المرض”، في إشارةٍ ضمنيةٍ لمرضٍ عضالٍ كالسرطان من دون استخدام لفظه، وغالباً ما يُحاط بباقة من الأدعية والإشارات “البخورية” التي تُبعد شبح “ذاك المرض” عن المتلفظ باسمه.

واستخدام النظام السوري، في ما يخص شؤونه، مصطلح “التدخل الخارجي” كالبطاقة الحمراء في ملاعب كرة القدم، فهي الطرد المباشر لكلّ من يجرؤ على التلويح به، لأنه الغلط الكبير الذي يتّسع لكلّ مآسي البشرية، إنه اندثار الهنود الحمر في أميركا، والمجرمون الانكليز الذين استولوا على استراليا، والقنبلة الذريّة في ناغازاكي وهيروشيما، ونهاية صدام حسين في العراق شنقاً وليس كيماوياً، وعشرات الألوف من شهداء ليبيا وإن كان على يد القذافي… وهكذا….

لا يتّسع ضيق العبارة لكلّ الدمار البشري كما يختزله هذا المصطلح الشامل، ويُعتبر كل من يفكر فيه من السوريين مشتركاً في كلّ الجرائم الآنفة الذكر وغيرها الكثير، ويفكر السوري ألف مرةٍ قبل التحايل على طريقة التلفظ بالتدخل الخارجي، في النقاشات والحوارات المستعرة حالياً، في ظلّ الأزمة السورية الخانقة.

ففي شهرها الثامن للثورة السورية، ومع اقتراب المخاض – ربما – لولادةٍ جديدةٍ، حافظ التساؤل الاستنكاري عن الحلّ الخارجي للأزمة على عقم النقاش بين الاصطفافات السياسية غير المحسومة للمتحاورين، على الرغم من وضوح الخيارين: فإما توقف النظام عن القمع “الأمني” أو انسحاب الشارع من الانتفاضة. ولأنه لا يبدو على أحد الطرفين بوادر التنازل عما قد بدأه، فإن التساؤل لا يزال يراود بعض المتشككين عن الجهة المسؤولة عن استدعاء التدخل الخارجي. ولم يستطع هؤلاء بعد حسم قضية تنازل الشعب لحاكمه، أم تنازل الحاكم لشعبه، قبل وقوع “ذاك المحظور”.

الاستنكاريون في تساؤلهم بشكله الاستفهامي، يشبهون المحقق الأمني السوري، الذي بات يعرفه معظم المعتقلين في ظل هذه الأحداث. فالسؤال هنا لا ينتظر الإجابة، بل هو بمثابة الضربة القاضية، التي تعني أن عليك مغادرة الحلبة فوراً. وربما لن ينفعك الاعتذار عن سوء الفهم الحاصل من إجابتك المتلعثمة. ولأن السائلين من هذا النوع يستخدمون حاسة الشّم في قراءة الحدث، فإن رائحة التدخل الخارجي تفوح من سحابات دخانك الوطني (الحمراء) وتعكّر صفاء الوفاق “الوطني” الذي ينبعث من سجائر “المالبورو” الأميركية الصديقة للبيئة.

لن يشفع لك التلاعب بالكلمات باستخدام “المراقبين الدوليين” مثلاً، أو السماح للإعلام الخارجي بتغطية الحدث. فهؤلاء “الجواسيس” الذين سينقلون للعالم “أجندتهم المبيّتة مسبقاً” هم بمثابة تأشيرةٍ للتدخل الخارجي، ولأن رائحة هذه السطور تفوح بالخيانة العظمى. فإن عليك عزيزي القارئ أن تضع كمامةً واقيةً قبل أن تكمل هذه السطور، وإن لم تتوفر فلا بأس باصطحاب بصلة أو علبة كولا، كما علمتنا احتجاجات تونس ومصر، الوديعة بالنسبة للسوريين.

الواقع أن ليس من أحدٍ في الساحة السورية استطاع توصيل شرحٍ مفصّلٍ عن “التدخل الخارجي”، بمحاسنه أو بمساوئه ولو نسبياً. فهل الأمر أن هؤلاء المتظاهرين بشعاراتهم الواضحة يصمّون آذانهم عن فهم المؤامرة الكونية على سوريا خدمةً لتلك الأجندات؟ أم أنهم يريدون الاستمرار في إيصال صوتهم للعالم في ملخصٍ يبدو النظام غير راغبٍ بفهمه، يتجلى بمشكلتهم في النظام ذاته وليست معه؟ أم أنهم يجب أن يقتنعوا غصباً وقسراً أن من قُتل من إخوتهم وذويهم مع استمرار الإذلال هو أرحم من سحقهم جميعاً بنيران التدخل الخارجي؟ وهل هم “رعاعٌ” لدرجة تغليب لغة العواطف على صوت العقل والحكمة، الذي يرفع عقيرة لاءاته الطويلة لأسبابٍ لا يستطيع فهمها هؤلاء الذين يريدون خراب البلاد والعباد؟

اختزل الرئيس الحالي للبلاد في الفترة الأخيرة الأزمة السورية بصراع تاريخي بين القوميين والإسلاميين. ولقد أصاب عين الحقيقة في ذلك عندما وصّف أقلّ من واحد في الألف من “فسيفساء” شعبه، لأنه من المعروف كبداهةٍ تغييب الشعب السوري تماماً عن السياسة إلا بفرضيةٍ واحدةٍ هي أن حزب البعث الحاكم كواجهةٍ فقط هو القومي الذي يتصارع مع شارعٍ إسلاميٍّ لا يمارس أيّ نشاطٍ سياسي في الواقع -اللهم- إلا إذا اعتبرنا فرائض الإسلام من العبادات هي ما يُهدد كيان الدولة سياسياً.

واقع الأمر يكمن في ندرة السوريين ممن يهتم عقيدةً وممارسةً بالقومية العربية أو بالإخوان المسلمين، فأصول الأزمة المؤدية لاندلاع الثورة السورية هي كما أسلفنا مشكلة شعبٍ في نظامه وليست معه، فهذا الشعب اليائس من جور هذا النظام المتراكم الطويل على كلّ مرافق الحياة، ابتداءً من الهموم الإنسانية وليس انتهاءً بالتخلف عن ركب الحضارة البشرية، ومروراً بكل تفاصيل التفاصيل التي نخرها الفساد حتى النخاع في كلِّ القطاعات، وصولاً في عمقها إلى التفسخ في القيم والمبادئ الأساسية للإنسان، حتى تلك القومية والإسلامية منها.

ولأن سوريا ليست خارج التصنيف في المنظومة العالمية، يطالب الجمهور السوري في مظاهراته السلمية بالاستفادة من “عقد التأمين على الحياة” الذي يدفع استحقاقاته الدورية. لكن هؤلاء “الخونة”، من وجهة نظر النظام” يتجاهلون عمداً “شيطنة” التدخل الخارجي الذي يتخفّى وراء ستار بعض المنظمات الإنسانية، وحقوق الإنسان لصالح الشيطان الأكبر أميركا وتوابعها.

ولأن الصورايخ يمكن أن تُخبأ في سيارات الإسعاف (كما حصل سنة 1984 في صراع الراحل حافظ الأسد مع أخيه رفعت بحسب مذكرات مصطفى طلاس في كتابه “مرآة حياتي”)، فإنه ليس ببعيدٍ أن يكون “التدخل الخارجي” مخبّأً في سيارات الصليب أو الهلال الأحمرين، وربما في كاميرات “المراقبين الدوليين”. كما تتحول السفارات والقنصليات ضمن هذا السياق إلى مراكز تجسس.

حجج النظام السوري مفهومه ضمن سلسلة التجارب البشرية، البعيدة منها والقريبة. وغير المفهوم هو مواقفُ معارضين مشهودٌ لهم نضالهم لعقودٍ من القهر والغياب السياسي، فهؤلاء يستخدمون لغةً مُلتبسةً غير واضحة المعالم والوجهة، وما زالت دماء الشهداء تنتظر منهم تشخيصاً واضحاً يُعينهم على فكِّ طلاسم “التدخل الخارجي”… “ذاك المرض”.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى