صفحات العالم

التسوية السياسية التي لا مهرب منها في سوريا


عبدالاله بلقزيز

موقفان سياسيان يُؤْذيان سوريا، اليوم، أبلغ الأذى: موقف الانحياز الكامل للسلطة ضدّ مطالب الشعب، وموقف الانحياز الكامل للشارع والمعارضة ضد النظام . يصادق كلٌّ من الموقفين على روايةٍ لا يدقّق فيها بما يكفي ليتبيَّن وجه الصواب فيها من التزييف . يأخذها كما وُلِدَتْ ودُبِّجَتْ في أجواء صراعٍ طاحن لا يرى كلُّ فريق نفسَه فيه إلا صاحب حقّ . من المفهوم أن يكون الأمر على هذه الحال بين السوريين: سلطةً وشارعاً، حيث لا مصلحة لأحدٍ في أن يعترف بأنه على خطأ، وحيث الاعتراف يرتّب عليه نتائج ليس أقلّها أن يتراجع عن موقفه ويسلّم بشرعية موقف خصمه . لكن ذلك من غير المفهوم لدى مَنْ يعنيهم مستقبل سوريا الديمقراطي ودورها الوطني والقومي من العرب، أي ممَّنْ يُفْتَرَض فيهم أنهم ليسوا طرفاً في الصراع الداخلي على السلطة، وليسوا مُجْبَرين على أن يركبوا الكذب كي يصلوا إلى السلطة أو يحتفظوا بها .

بين الموقفيْن المتقابليْن، مع احترامهما، مساحةٌ للتأمُّل بما يجري في سوريا على نحوٍ أكثر موضوعيةً وتأنِّياً، وأقلّ اندفاعيةً وقطْعية . والتأمُّل هذا مبناهُ على الفهم الصحيح لما يجري ابتداءً، والغايةُ منه سعْيٌ صادق إلى تجنيب البلد تَبِعات الخطأ في معالجة أزمته من خلال المساهمة في توليد رؤية متوازنة إلى مستقبله السياسي تَلْحَظ مصالح الجميع فيه . وعلينا، هنا، أن نقول بمنتهى الصراحة والصدق إن مَنْ يتناول الأوضاع في سوريا، اليوم، بالتحليل أو الاستشراف، لا بدَّ واجدٌ نفسه أمام خيارين لا ثالث لهما: إمّا التفكير في تسوية ما ممكنة للأزمة تُفْرِج عن خيار الإصلاح الديمقراطي المتدرّج، على نحوٍ يجيب مطالب الشعب وقواه الديمقراطية ويَحْفَظ لسوريا وحدتها الوطنية ودورها الوطني والقومي، وإما التفكير في حلٍ جذريّ للأزمة المديدة لن يكون بغير المزيد من الدماء ولن يكسبه أحدٌ في المطاف الأخير حتى لا نقول إن سوريا ستخسر فيه من استقرارها، وربما من وحدتها وسيادتها، لا قدّر الله .

الذين يدافعون عن الحلّ الراديكالي – من السوريين والعرب – كثيرون، ومِنْ أسفٍ هُمُ الأكثر . وهؤلاء فريقان: فريقٌ صغير يريده حلاً أمنيّاً لتصفية المظاهرات في البلد، وفريقٌ أكبر يريده إسقاطاً للنظام وإنهاءً لعهده . يعتقد الأول أن الحلّ الأمني يردُّ على مؤامرةٍ خارجية تستهدف البلاد وتَرْكب موجة المطالب الشعبية لتأخذها إلى إنجاز ما تبتغيه من أهداف . التنازل أمام الشارع والمعارضة، في حسبانه، تنازلٌ أمام مَنْ يحرِّك الأحداث من خارج وتسهيلٌ للمؤامرة . ويعتقد الثاني أن إسقاط النظام هو السبيل الوحيد إلى الخلاص لأن التراجع لم يعد ممكناً، ولأن الضغط الدولي والإقليمي عليه يشتد . النظام لا يريد إصلاحاً، يقول، والبقاء تحت سقف الإصلاح انتحار بعد كل تلك التضحيات التي قُدِّمت .

الناطقان بمفردات الحلّ الجذريّ، من الطرفين، لا يقترحان على سوريا سوى المصير الغامض والراهن الثخين بالجراحات، إذْ ليس في وُسْع القبضة الأمنية أن تعيد جحافل الشباب السوريين إلى بيت الطاعة، وستكلفها المحاولة المستحيلة لذلك أنهاراً من الدماء، ونزفاً سياسيّاً وأخلاقيّاً في صورة سوريا النظام عند شعبها والعرب والبشر أجمعين . والخشية أن المزيد من القمع سيولِّد المزيد من العنف والتطرف، ويترك الأزمة الداخلية مفتوحة في الشارع إلى ما شاء الله . كيف يمكن للدولة والمجتمع أن يعيشا في مناخ هذا المشهد الدمويّ اليوميّ الطويل؟ في المقابل، لن تكون “استراتيجية” إسقاط النظام نزهةً سياسية في شوارع سوريا! جَرَّبَ حَمَلَةُ الشعار هذا تنفيذ خيارهم منذ نصف عام، ماذا حَصَل؟ سَقَط النظام؟ انشقَّ نصفين؟ تبخّرت قاعدته الاجتماعية؟ فَقَد السيطرة على المدن ومراكز الدولة؟ فَرَّ أركانُهُ من البلد؟ لم يحصل من ذلك شيء . ينبغي قراءة معنى ذلك عند مَنْ حملوا الشعار وفرضوا على الحَرَاك في البلد أن يأخذ وجهة وحيدة! أمّا التعويل على إسقاطه من خارج، ففي ذلك منتهى البؤس السياسي، وهو خيارٌ غير ديمقراطي ولا يشرِّف مَنْ يُعَوِّل عليه أو يسير في دهاليزه الكالحة!

لا بدَّ من حلٍّ سياسيّ ممكن يقع بين مستحيلين أو قُل بين إمكانيْن انتحاريَّين . والحلّ هذا مبناهُ على التنازل المتبادَل بين الفريقين السياسيّيْن عن التمسك بالخيارات القصوى . والتنازل المتبادل يفرضه ميزان القوى في المجتمع السوري اليوم بعد هذه الجولة المديدة من المواجهات التي زادت على المئتي يوم من دون حسم، ورسمت معطياتها الحقيقة المزدوجة الآتية: ليس في وسع النظام إنهاء الانتفاضة وإخماد مطالب التغيير الديمقراطي، وليس في وسع الانتفاضة – بإمكاناتها الذاتية – إسقاط النظام . وفي مثل هذه الحال من توازن القوة، ليس من حلٍّ إلا من طريق تسوية سياسية تقود إلى تحقيق تغيير ديمقراطي متدرّج بشراكةٍ متوازنة بين النظام والمعارضة . أدوات مثل هذه الشراكة معروفة: الحوار الوطني، الشراكة في وضع أسس النظام الديمقراطي البديل، الشراكة في حكم البلاد وفي إعادة توزيع السلطة، وصولاً إلى انتخابات ديمقراطية حرّة وتعددية، وإلى تداوُلٍ سلميّ على السلطة . الفرصة مازالت متاحة، والتباطؤ في الإقدام على هذا الخيار سيكون عالي الكلفة على الجميع .

تُخطئ السلطة إن هي أساءت قراءة قرار الفيتو الروسي  الصيني المزدوج في مجلس الأمن، وركنت إلى الظنّ بأنه يوفّر لها حزام أمان، لأن حزام أمانها الوحيد هو ترميم شروخ شرعيتها الداخلية المتصدّعة بالتجاوب مع مطالب التغيير . وتخطئ المعارضة إنْ هي انتشت بالاحتفاء الغربي ب”المجلس الوطني السوري”، أو راهنت على دعم دول الغرب لمطالب التغيير الديمقراطي، لأن الشعب السوري وحده مَنْ يملك أن يصنع مستقبله بيده، بحريته وإرادته، بعيداً من التدخل الأجنبي . إن أقصر طريق كي يجد النظام نفسَه بين مطرقة العنف الداخلي وسندان “الحماية الدولية” هو أن يمعن في خياره الأمني، وأن يتجاهل مطالب الشعب السياسية المشروعة، ويتجاهل صوت المعارضة الوطنية الديمقراطية في الداخل، وخاصة بعد أن وفّرت لنفسها عنواناً سياسيّاً جبهويّاً هو “جبهة التنسيق الوطنية” . لعلها الفرصة الأخيرة قبل فوات الأوان . . . على الجميع .

الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى