صفحات سورية

التكوينات السياسية للحراك الاحتجاجي السوري


عمر كوش

التنسيقيات

الهيئات والمجالس

 لعل من بين أهم ثمرات الانتفاضة السورية هي كسر حاجز الخوف، وعودة السياسة إلى المجتمع السوري، بعد أن غُيبت -بشكل قسري- على مدى ما يقارب أربعة عقود من الزمن، حيث يكشف المشهد السياسي في سوريا، في أيامنا هذه، عن متغيرات وتطورات هامة وجديدة، جسدها بروز أشكال سياسية جديدة من التنظيم لم تك معروفة من قبل.

 ويعود الفضل في ذلك إلى ما قام به شباب ونساء الانتفاضة، الذين برهنوا على قدرة فائقة على التضحية، وعلى الاستعداد للمضي قدماً في حراكهم السلمي مهما كان الثمن باهظاً.

وأفرزت الانتفاضة الشعبية في سوريا، بعد انقضاء تسعة أشهر على اندلاعها، أشكالاً جديدة من التنظيم والتحشيد، تمثلت في تشكيل شبكات واتحادات ولجان تنسيق في مختلف أحياء المدن والبلدات والقرى السورية، فيما عادت الروح إلى أحزاب المعارضة السياسية التقليدية، فرفع معظمها مطالب الحراك الاحتجاجي، وارتفع صوتها بعد أن عرفت فترات من المضايقات والملاحقات والسجون، ومراحل أخرى من الصمت والترقب الطويل.

وتتجسد التكوينات والقوى الجديدة في التنسيقيات واللجان والهيئات التي تعمل على الأرض، والتي نشأت بعد 15 مارس/آذار 2011، تاريخ بدء الحراك الاحتجاجي الشعبي السلمي في سوريا، وكذلك في التكوينات والتيارات والتجمعات السياسية، التي تشكلت -أيضاً- بعد بدء الانتفاضة، فيما يعود تاريخ نشأة أحزابها ومكوناتها إلى ما قبل الانتفاضة.

التنسيقيات

تتكون التسنيقيات -بشكل عام- من شباب متعلم ومثقف، ونشطاء المجال العام، من سياسيين وحقوقين، ومختلف الطامحين إلى التغيير السلمي الديمقراطي في بلدهم، ومعظمهم يتعامل مع وسائل التقنية الحديثة بمهارة واقتدار.

 ويعود ظهورها إلى أوائل شهر مايو/أيار 2011، حيث نشأت في ضوء الحاجة الملحة إلى قيادة وتنظيم المظاهرات ومختلف فعاليات الحراك الاحتجاجي الشعبي، الذي بدأ عفوياً، دون قيادة سياسية أو تنظيمية، ثم انخرطت فيه قطاعات واسعة من المتضررين من ممارسات النظام.

 ومعظم هؤلاء لا يمتلكون خلفيات أيديولوجية، ولا ينتمون إلى أحزاب المعارضة التقليدية، لكن ذلك لا يعني عدم انخراط العديد ممن ينتمون إلى أحزاب المعارضة التقليدية، وخاصة الشباب منهم، إضافة إلى الذين تعرضوا إلى الاعتقال والسجن والملاحقة والتهديد وإسكات أصواتهم.

وليس صحيحاً ما يحاول تسويقه بعض “المثقفين التقنيين”، الخارجين من حواشي السلطة، الذين يعتبرون أن تدين شباب الانتفاضة يدخل في خانة الإسلام السياسي، من باب “السلفية الشعبوية”، إذ إن واقع الأمر يدحض مثل هذا التزييف المتعمد، ذلك أن الانتفاضة تجمع الناس من مختلف المشارب والانتماءات، ضمن حراك احتجاجي اجتماعي، يتطلع إلى الحرية والعدالة، وتديّن معظمهم يدخل في إطار ما يمكن وصفه تيار الإسلام الاجتماعي العام، حيث يشكل الإسلام، بالنسبة إليهم، مرجعاً أخلاقياً، يوجه سلوكهم، ويضبط نوازعهم، ويحدد وجودهم في عالم اليوم، فيما السلفية والنوازع الطائفية التي يحاول بعضهم تسويقها، مقصود لها أن تلتقي مع مزاعم السلطة وقوى النظام، وتدخل في باب التغطية على اصطفافهم في مراكز الارتزاق.

 واللافت هو تكييف شباب التنسيقيات لأدوات التواصل الإلكترونية والمعلوماتية وتسخيرها في خدمة الحراك الاحتجاجي، سواء من خلال التحشيد وتصميم الشعارات أم من خلال تحقيق إجماع احتجاجي عام، بعيداً عن قيود ورقابة أجهزة النظام الحاكم. وبالتالي ظهرت أجيال جديدة، يحركها قادة من الشباب أنفسهم، لا ينتمون إلى حزب معين، ولا يعتنقون أيديولوجية معينة، ويحذوهم الإحساس العميق بالخلاص من الظلم والإذلال والإحباط واليأس وانعدام الأمل بإصلاح الأوضاع القائمة.

 واختاروا طريق الخلاص بالانتقال من حالة انسداد الأفق إلى مواقع الفعل الاجتماعي، وتمكنوا من الاستفادة القصوى من إمكانياتهم، فاكتسبوا جرأة التفكير والتنسيق، والتعبير عن تطلعاتهم وتوقهم للحرية والتغيير وقيادة الحراك الاجتماعي الاحتجاجي.

 وتتألف التنسيقية من مجموعات من الشباب المتطوعين، الذين يتقاسمون العمل بحسب تخصص ومهارة كل واحد منهم، فيقومون باقتراح أسماء مظاهرات أيام الجمعة وسائر أيام الأسبوع الأخرى، واختيار وكتابة اللافتات والشعارات، وتنظيم مسار التظاهرات، وتصوير أماكن وأحداث التظاهرات، ونقلها إلى مواقع التواصل الاجتماعي، وخاصة فيسبوك وتويتر، وإرسالها إلى مختلف وسائل الإعلامية العربية والعالمية، وإلى لجان ومنظمات حقوق الإنسان، إضافة تأمين بعض حاجات عائلات الشهداء، وجمع الدعم المادي لها، وتأمين وإسعاف الجرحى، وتوفير الأدوية ومتطلبات المشافي الميدانية البديلة عن المشافي الحكومية، وسوى ذلك.

ولا شك في أن التنسيقيات هي الشكل التنظيمي المناسب للحراك الاحتجاجي، والفاعلة ميدانياً، وشكلت البديل الميداني والعملي لمختلف الأحزاب والتنظيمات السياسية المعارضة، حيث تجاوزتها كثيراً في العمل على الأرض، وفي التنظيم والتحشيد واستخدام التقنيات ووسائل الاتصال الحديثة، التي تفتقر إلى توظيفها واستخدامها معظم الأحزاب السياسية السورية. وقد تعرض العديد من أعضاء التنسيقيات إلى الاعتقال والتعذيب والتصفية الجسدية.

 وانتشرت لجان التنسيق بكثرة في مختلف أحياء المدن، وينطبق ذلك على سائر البلدات والقرى السورية، من محافظة درعا جنوباً إلى القامشلي شمالاً، ومن اللاذقية ومختلف مناطق الساحل وصولاً إلى البوكمال شرقاً. ومع تصاعد وتيرة الاحتجاجات، بذل نشطاء الانتفاضة جهوداً لتنسيق العمل بين مختلف التنسيقيات، فتشكلت هيئة جامعة، سميت “الهيئة العامة للثورة السورية”.

الهيئات والمجالس

لقد وجدت أحزاب المعارضة التقليدية السورية، بمختلف أطيافها الليبرالية واليسارية والقومية والإسلامية، في حال لا تحسد عليها منذ بداية الانتفاضة، كونها لم تشارك في اندلاع شرارتها، ثم عندما بدأت الانتفاضة ترددت -في البداية- في المشاركة بفعالياتها. في حين أن بعض الناشطين السياسيين والمثقفين كانوا يتساءلون عن أسباب تأخر الشباب السوري، وعدم تأثره بثورتي تونس ومصر، ليجدها في خصوصية الحالة السورية، من نظام وتركيبة اجتماعية وسياسية، وغير ذلك.

 ومع ازدياد زخم الانتفاضة، الذي اشتّد مع تزايد نزيف دماء المحتجين، اقتصرت مشاركة بعض الأحزاب على الشباب المتحمسين، الذين تصرفوا بشكل فردي، ثم أعلنت بعض الأحزاب والقوى، وخاصة التي تشكلت في الفترة التي عرفت بـ”ربيع دمشق”، عن مشاركتها في الحراك.

 ثم وجدت قيادات المعارضة السياسية نفسها وكأن القطار قد فاتها، وأنها كانت تنتظر في المحطة الخاطئة التي غادرها، فراحت تحث الخطى كي تلحق بركب الانتفاضة، وتستعجل عقد اللقاءات والمؤتمرات، في الداخل والخارج، وبشكل ينمّ عن افتقارها للخبرة السياسية ولوضوح الرؤية، كونها باتت تعلم أن عليها رفع شعار إسقاط النظام، الذي يرفعه المحتجون في الشوارع السورية، بكل ما يعنيه، وهو أمر لم يك في حسبانها، ولم تدرجه في برامجها المتقادمة.

كما أنها غير قادرة على مجاراة ما يطالب به المنتفضون، كونه يحدّ من قدرتها على القيام بدورها السياسي، وعلى الإمساك بزمام المبادرة السياسية، فضلاً عن أنها لم تمكن من نسج علاقات وروابط كافية مع مختلف التنسيقيات والقوى التي تتحرك على الأرض.

وألقت الانتفاضة مهام جديدة على المعارضة السورية، وكان أكثرها إلحاحاً هو تشكيل مجلس أو ائتلاف سياسيّ يجمع جهود عملها وتوجّهاتها، ويشكل رافعة سياسية لحراك المنتفضين ومطالبهم في نيل الحرية والكرامة، إضافة إلى العمل والتواصل مع نشطاء التنسيقيات، ومهام أخرى عديدة.

 ولم تك أحزاب المعارضة التقليدية قادرة -بسبب الغياب القسري عن العمل السياسي- على الاستجابة لمتطلبات العمل السياسي الجديد، وعدم تمكنها من التواصل مع الميدان بسبب بنية أحزابها المترهلة.

 وبدا على أحزابها الارتباك والاستعجال، فيما تزداد الانتفاضة زخماً، فراح بعض الناشطين من الأحزاب التقليدية، إضافة إلى النشطاء المستقلين والمثقفين النقديين، يبحثون عن صيغة مناسبة لتوحيد صفوف المعارضة. وجرى في هذا السياق عقد لقاءات ومؤتمرات عديدة، داخل سوريا وخارجها.

 وفي سياق تحولات المشهد السياسي السوري، نشأت تشكيلات وتكوينات مدنية وسياسية معارضة، مثل “حركة معا”، و”تجمع نبض للشباب المدني”، و”تيار بناء الدولة السورية”، و”ائتلاف اليسار السوري”، و”رابطة العلمانيين السوريين”، وسواها. وهي تضم في الغالب مثقفين مستقلين وناشطين، وأغلبها ذات فعالية محدودة في المشهد السياسي العام، ومكونة من عدد من شخصيات ناشطة ومعارضة ومستقلة وثقافية.

 كما ظهرت تشكيلات معارضة قريبة من النظام، ومدعومة من طرفه، بل وتزاود على أطروحاته. لكن أهم ما تمخض عنه المشهد السياسي المعارض، بعد عقد عدد من اللقاءات والمؤتمرات، داخل سوريا وخارجها، هو تشكيل المجلس الوطني السوري، الذي انضمت إليه قوى وأحزاب سياسية وتنسيقيات فاعلة على الأرض، إلى جانب شخصيات فكرية وسياسية مستقلة، وتشكيل “هيئة التنسيق الوطني للتغيير الديمقراطي”، التي ضمت أحزاباً وقوى تقليدية، وبعض الشخصيات المعارضة المستقلة، التي انسحب بعضها من الهيئة، بعد فترة قصيرة من تشكيلها.

ولم تنضم هيئة التنسيق الوطني لقوى التغيير الديمقراطي إلى المجلس الوطني السوري، نظراً لعدة أسباب موضوعية وشخصية، لكن عدم انضمامها أعلن عن انقسام فكري وسياسي واضح في المعارضة السورية، ما بين الأحزاب والقوى والشخصيات الليبرالية والإسلامية، التي تشكل منها المجلس الوطني، وبين الأحزاب والقوى والشخصيات القومية واليسارية، التي انضوت في هيئة التنسيق. بمعنى أن الانقسام بني -بشكل عام- على خلفيات وأسس سياسية وأيديولوجية، ما بين الليبراليين والإسلاميين من جهة أولى، وبين القوميين وبقايا اليساريين من جهة ثانية، وبالتالي ليس صحيحاً التصنيف الذي بني على أساسه التقسيم السائد في أغلب وسائل الإعلام، ما بين “معارضة الداخل” و”معارضة الخارج”.

 ويعبّر الحراك الاحتجاجي السوري عن لحظة تحوّل من منظومة سياسية وخطابية وأخلاقيّة قديمة ومحافظة، تشكلت منذ النصف الثاني من القرن العشرين المنصرم، مدارها القمع والضبط والمراقبة والملاحقة، إلى منظومة جديدة أكثر انعتاقاً، تحذوها ضرورة إنزال الأفكار الكليانية والشمولية من عليائها وغطرستها، والتمرد على مختلف الأطر القمعية والمقولات الحتمية والشمولية، المدّعية للشرعية المطلقة في جميع المجالات، والصلاحية في كل مكان وزمان.

 وعليه، يقدم المشهد السوري مثالاً جديداً للشعوب العربية، ولشعوب العالم التي ما زالت ترزح تحت نير السلطات الشمولية، في كيفية المواجهة السلمية، وحشد طاقات الشباب المتمكن من استخدام تقنيات التواصل، في مواجهة أساليب السلطة الحاكمة وممارساتها القامعة.

الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى