صفحات الثقافة

التلفزيون: خيانة الواقع

راشد عيسى

الآن فقط يحلو لبعض كتّاب السيناريو التلفزيوني من السوريين أن يتنصّلوا من معادلة “الآن وهنا”. يقولون: “للأسف ما زلنا مقيدين بفكرة الدراما تعكس الواقع”، كما لو أن الواقعية شتيمة! ليس ذلك فحسب، بل إن البعض يذهب إلى التنصل من المسلسل التلفزيوني كفنّ، واعتباره مجرد مهنة لا ينبغي لأحد أن يطالبها بأن تتحول إلى رسالة. فجأة يتحول كل الكلام عن دور الفن ورسالته ومسؤوليته إلى هذر أو مبالغة في تحميل هذا الفن البائس ما لا طاقة له به.

أما كلمة السر في كل ذلك فهي أن الراهن السوري يحتاج إلى شجاعة مواجهة الواقع، شجاعة ومسؤولية يفضّل معها كتّاب عهود الانحطاط أن يحسبوا أنفسهم على النمط التجاري. فذلك أرحم عندهم من “خطر” الانتماء إلى الواقع، والانحياز إلى وجهة نظر، قد تكلفهم أموالهم أو حياتهم، أو الاثنين معاً.

يذكّر ذلك بالنكتة الشهيرة، والتي تروى بصياغات متنوعة حسب الحاجة، بخصوص ذلك المواطن الذي اعتُقل على أنه ينتمي إلى “الاخوان المسلمين”، ففضّل عليها، كنوع من التقية، أن يسمي نفسه سكّيراً وعربيداً، أهون عليه من تلك التهمة التي تقود إلى الإعدام. كلام مخجل كثير يقوله نجوم وكتّاب الدراما السورية هذه الأيام. لو أنهم صمتوا كان أفضل، لاعتبرنا ذلك سلاح من لا حول له ولا قوة، لكنهم أبدعوا في التنظير للانحطاط، وهم فوق ذلك يريدون أن يظهروا للناس على أنهم أصحاب رؤية إبداعية جديدة، يريدون أن يقدموا أنفهسم على أنهم المبدع الذي لا يرضى أن يُنقص من الحقيقة شيئاً، ولذلك يفضّل أن ينظر إليها “بعين الصقر”، وربما أن يتمهل كي يتسنى له اكتشاف الصواب، وكأن ما يجري في بلاده يحتاج إلى هذا القدر من التمحيص للكشف عن القاتل، ومعرفة هوية الضحية.

 يعرف هؤلاء الكتاب، وكثيرون حولهم، أن السر هو في الخوف. لقد قالها أحد المخرجين الذين استنكفوا عن متابعة تصوير مسلسل تلفزيوني جريء بعض الشيء: “كيف أستمر ولي بيت في دمشق كلّفني خمسين مليون ليرة؟”. وكأن الذين احترقت بيوتهم ودمرت وقتل أبناؤهم دفعوا ثمناً أقل من ذلك. من حقك أن تخاف أمام جبروت هذا النظام، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها. أما أن يدفعك الخوف إلى ابتكار نظريات في الفن، فهذا هو التزوير والتضليل بعينه. ليس مسموحاً غداً أن يأتي ذاك ليقول لقد كنا على خطأ، من دون أن يفقأ عينيه كما فعل أوديب معاقباً نفسه على فظاعة ما ارتكب.

 الدراما السورية كانت سباقة في الانتماء إلى الشارع. ومعروف أن الكاميرا السورية كانت، في المنطقة، أول من غادر جدران الاستوديو، وقدمت أعمالاً بارعة بدت كما لو أنها أفلام تسجيلية، بل إن بعضها قد يُعتَمد عليه فعلاً في المستقبل في توثيق ما دُمّر من عمارة سوريا وشوارعها ومعالمها. وبلا شك، ستكون أعمال هيثم حقي (أخيراً أنصفه الزمن أمام منافس مدع كنجدت أنزور)، والليث حجو وسامر برقاوي ورشا شربتجي وسواهم، من أبرز الأمثلة على تلك الأعمال. فلماذا تريد هذه الدراما أن تتنصل اليوم من الواقع الذي غصّ بالحكايات والفظاعات من كل لون؟ قد يكون مفيداً أن يتذكر المرء ذلك الكاتب التلفزيوني الذي أصرّ على تقديم شكسبير تلفزيونيا مراراً وتكراراً، بدعوى أن الواقع السوري فقير وضحل وليس فيه ما يستحق أن يروى. والآن؟ من لهذه الحكايات التي فيها من الألم وقصص الفراق والحب والضحك والعبث ما يغطي مئة عام بحالها؟

 إنها خيانة للذات قبل كل شيء، للمهنة والقلم النبيل الذي ليس عليه أن يكون تاجراً، وإن توخى التسويق ولقمة العيش. قولوا شيئاً أو اصمتوا أيها الكتاب.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى