صفحات الرأي

التمثيلات العرقية والكتابة الكولونيالية… الاستراتيجيات والتوجهات/ رامي أبو شهاب

 

 

تنهض الكتابة ما بعد الكولونيالية، في بعض مستوياتها على مركزية التمثيل الجغرافي، أي خاصية إفراغ الوجود الإنساني على الأرض، والتي تتحول بياضا يحتاج إلى ملء (إنساني- ثقافي) عبر الاستعمار الاستيطاني، كما حدث، ويحدث في فلسطين، ومن قبل ذلك في الأمريكتين، وأستراليا، وكندا، ومع أن ثمة اعترافا – في بعض الأحيان- بوجود بشري على تلك الأرض، ويتمثل بالسكان المحليين، إلاّ أن المستعمر لجأ إلى التقليل من شأنه عبر نفي أي بعد حضاري، أو ثقافي أو حتى إنساني، يميزه، استناداً إلى مقولات، ونظريات التمييز، أو التفوق العرقي لدعم مبررات الاستعمار، وتسويغه.

هذه الاستراتيجية شكلت جزءاً كبيراً من خطاب ما بعد الكولونيالية؛ ومن هذا المنطلق لا بد من تحديد مفهوم الإشكالية العرقية التي صاحبت ممارسات المستعمر، وخطابه، من أجل فهم آلية العمل، وتتبع هذا النسق من البناء العرقي للآخر. فالاستعمار ضمن ثنايا خطابه في المجالات الفكرية والسياسية والأدبية والاجتماعية امتلك القدرة على التقسيم، والتحديد، عبر الاتكاء على مجموعة من الخصائص العرقية، كاللون والبشرة والبيئة والسلوك، وهذا جاء لتحقيق مفهوم دونية الآخر واختلافه. في كتاب «العنصرية، الكتابة والاختلاف» 1987 لهنري لويس إشارة إلى أن مفهوم «الاختلاف» أصبح مجالاً شائعاً في النصوص الأدبية للمحافظة على تبعية الآخر (مما يبرر أخلاقياً استعباده، ومصادرة، وجوده، نظراً لكونه لا يمتلك الحق في إدارة وجوده بكل ما يحتويه. هذه الممارسة أوجدت إشكاليات عميقة لدى الشعوب التي تعرضت لهذا النسق من الاضطهاد، وقد انعكس هذا في مجمل الخطاب.

تعرف موسوعة دراسات ما بعد الكولونيالية مصطلح العرقية، بأنه الإحساس بالهوية للذات، أو الآخرين المنتمين إلى مجموعة يتشاركون مادياً، أو معنوياً الأصل، أو اللغة، أو رابطة الدم، كما أيضاً الدين، أو التقاليد، أو التاريخ، أو حتى المواصفات الجسدية، أي الخصائص العضوية. والمصطلح في كل الأحوال يشير إلى الأنا، والآخر، فالمصطلح من منظور الخطاب ما بعد الكولونيالي يحيل إلى المهمشين أو التابعين، والخطاب المشكل لهم. لا بد من أن نشير إلى أن مصطلح «العرقية» يعود إلى الكلمة اليونانية ((Ethnos، التي تعني مجموعة كبيرة من الناس لا تمتلك خصائص محددة، وقد ارتبط هذا المفهوم بالدراسات القائمة على الخصائص البيولوجية للإنسان، فأصبح مصطلحاً مرادفاً «للعنصرية». وفي سياق هذا المصطلح، اتسعت دائرة التمايز العرقي، الذي لم يكن ممارسة حديثة، أو طارئة، إنما وجدت منذ القدم لدى اليونانيين، ونتيجة لذلك تبنى خطاب ما بعد الكولونيالية هذا المصطلح، إذ عرفه بيل أشكروفت قائلا: «العرقية، هو المصطلح الذي استخدم بشكل متزايد منذ عام 1960 للإشارة إلى اختلافات الجنس البشري على مستوى الثقافة والتقاليد واللغة والأنماط الاجتماعية والسلالة البشرية، أو بالأحرى هو تعميمات مشوهة، تقوم على تقسيم الجنس البشري إلى أنماط بيولوجية».

من اللافت للنظر أن الاستخدام المعاصر للمصطلح يشير إلى المهمشين، والتابعين، ومن هم أدنى، وبعبارة أخرى إلى الأمم الهمجية والوثنية، كونها أمماً لم تمارس السيطرة على الأمم الأخرى، ولهذا، فإن سكان المستوطنات الإنكليزية، لا يدخلون في نطاق التقسيم العرقي، فهم لا يمتلكون ما لدى المهمشين أو السكان الأصلانيين من أساطير تحدد التمايز العرقي، فالمصطلح يتعالق مع قضايا الشعوب المهاجرة، وما نتج عنها من ذاكرة الاستعمار، والغزو والرق، والعبودية، ما يعنينا هنا تلك الممارسات الاستعمارية التي استفادت من الخطاب العرقي للهيمنة، وهي مؤشرات على قدرة خطاب ما بعد الكولونيالية على تفعيل قراءات جديدة للأدب، خاصة لأعمال منتهية، ومنجزة دلالياً، تعلق آنيا لومبا على العلاقة بين الأدب والاستعمار، وتنامي الاهتمام بهذا الأسلوب للدرس من منطلق عرقي قائلة: «تحليلات الكولونيالية أو العرق مثل الدراسات حول النوع ( (Gender، لا زالت تعتبر مواضيع ذات اهتمام خاص لا تغير جديا التدريس والبحث في بقية فروع المعرفة. ومع ذلك فإن الانتباه مؤخرا للعلاقة بين الأدب والاستعمار أحدث إعادات نظر جدية لكل من هذين المصطلحين».

كما نرى، فإن الخطاب ساعد على خلق قراءة جديدة لأعمال أدبية من منظور جديد، فنحن نعثر على قراءات لمسرحيات شكسبير « العاصفة «، و«عطيل» ورواية فورستر «ممر إلى الهند»، ورواية بول سكوت « الجوهرة في التاج». ومما يلاحظ أن بعض هذه الأعمال تنطلق من تعريفات عرقية للحالة النصية، ففي عمل شكسبير «عطيل» نرى نموذجاً لإشكالية اللون الأسود، لشخصية عطيل المغربي، ومن خلال هذا التفسير العرقي، نستطيع تفهم غيرته، واحتياجاته العاطفية، وحتى لاعقلانيته، بينما في روايتي فورستر وسكوت تتبدى ملامح التمايز القائمة على الأصل البيولوجي، والقومية التي تميز على سبيل المثال شخصيات روائية من الهند، وفضاء تداخلها مع شخصية المستعمر الأبيض. إن الهدف من هذه التمثيلات العرقية جعل الشّرقي عبارة عن مشكلات تقع في حدود الاحتلال، يقول سعيد:» كان الشرقيون، جنباً إلى جنب مع الشعوب الأخرى التي وصفت بأنها متخلّفة، ومنحطّة، غير متحضرة، وقاصرة عقلياً، ولذلك فهم يُعاينون ضمن تصور يقوم على مكوّني الحتمية الحيوية (البيولوجية) والتأنيب الأخلاقي السياسي.

التمييز العرفي تحول إلى أداة، واستراتيجية لتحقيق السيطرة الكولونيالية؛ ولهذا تحيل آنيا لومبا إلى عدد من الاستراتيجيات والتوجهات التي تمثل الخطاب الكولونيالي، حيث تشرح آليته وأسرار وجوده، فالاستعمار شديد الارتباط بالبعد الاقتصادي لأوروبا، وفي سبيل دعم هذا الهدف، لجأت أوروبا إلى تفعيل الأداة الكولونيالية المادية العسكرية المدعومة بدورها بخطاب مُتشعب، يهدف إلى تبرير هذا الفعل، ووضعه في صورة مقبولة ضمن نشر مقولات العرق الأدنى، وهمجيته، وعلاوة على دور أوروبا في نشر سبل الترقي والحضارة، تقول لومبا: «يعتمد السلب الاقتصادي وإنتاج المعرفة واستراتيجيات التمثيل على بعضها بعضا في أي سياق استعماري. وكانت طرقاً معينة في رؤية، وتمثيل الاختلاف العرقي والثقافي والاجتماعي أساسية لبناء مؤسسات السيطرة الاستعمارية».

تنهض آداب المستعمرين على إقامة فروق عرقية، تنحو نحو التصوير السلبي؛ منه الجشع، والخيانة، والمكر، والشهوانية، والتعميمات المطلقة، ولا سيما لأعراق بعينها، إنها نوع من التمثيلات التي تنتشر في المتن الكولونيالي على اختلاف نصوصه، ولعل فرانز فانون يعالج نسق التمثيلات بكشف تأثيراتها السلبية النفسية المدمرة على الإنسان الأسود، حيث يصف فانون نموذجاً من تلك الممارسات، منها تعمد الفرنسيين تشريب المواطنين السود مفاهيم تجعل منهم رعايا سودا بأقنعة بيضاء. لا شك بأن أعمال فرانز فانون الذي يعدّه البعض المبشر الأول بنظرية، وخطاب ما بعد الكولونيالية، التي شكلت اتجاهات محددة للتعاطي مع الاستعمار، قوامها البحث عن الهوية السوداء، ومن ثم النضال ضد الاستعمار، وأخيراً التخلص من آثاره، وهنا جزّأ فانون واقع خطاب الاستعمار، وخطابه المناهض، فالمرحلة الأولى تقوم على قراءات متضادة للهوية التي يصوغها المستعمر للأسود ( المستعمر)، وتهدف إلى تحطيم هويته، تبعاً للونه وعرقه، وفي المرحلة الثانية نجد خطاباً مضاداً للتمثيل الكولونيالي؛ واقعياً ونظرياً، وفي المرحلة الثالثة التخلص من تداعيات، وأعقاب ما بعد الاستعمار.

إن التمثيلات العرقية للآخر منتشرة في المتن النصي الأدبي الغربي، مما استوجب انبثاق تمثيل مضاد يهدف إلى تفكيك هذا النسيج النصي الذي كبل، وقولب أعراقا مختلفة؛ ومنهم العرب، والهنود، والأفارقة، وغيرهم. ولعل رواية جوزيف كونراد «قلب الظلام» نموذج جلي للرؤية الكولونيالية العرقية للآخر، فالرحلة التي يقودها بطل الرواية إلى قلب الكونغو، هي رحلة نحو مكان مجهول، فلا جرم أن نقرأ تحليلاً مثيراً لها في كتاب «نقد ما بعد الكولونيالية» لبارت مور جيلبرت، ومركزه التمثيل العرقي للأسود، حيث يواجه الرجل الأبيض الكائن الأسود ضمن صفات تعكس حالة الرعب من هذا السواد؛ الأيدي، والأعضاء والوجوه، والجنون، المبهم، فالمواجهة هنا تتم مع إنسان ما قبل التاريخ، ولهذا فإن هذا الكائن الغريب في تعامله مع الأبيض المستعمِر قد «لعنهم، ورحب بهم، وصلى لهم. هذه القراءة تكشف عن نموذج من التمثيلات العرقية التي سوغت التمايز العرقي للأبيض على ما دونه من أعراق.

ومن النماذج النصية التي تثير موضوع التمايزات العرقية كتابات (كيبلينج) حيث يبّرز إدوارد سعيد ما ضمنه هذا الكاتب من إشارات عرقية، تمنح الأبيض المستعمِر أفضلية على سواد السكان الأصلانيين في الهند، وهنا يعني أن إدوارد سعيد استطاع استخلاص مقولة التفوق الناتج عن» المخزون التجريبي، والروحي لتراث طويل من المسؤولية التنفيذية، بإزاء العروق الملونة « طبعا من منظور الرجل الأبيض. إن النص الذي حلله سعيد يشير إلى ما للرجل الأبيض من مسؤولية تجاه هذه الأرض الأصلانية، التي تحتاج إلى أن تنظف، هذه الصلاحية المعطاة لهذا الفعل المتعجرف تجاه الأرض، التي ينتمي لها الآخر، ناتج عن الفرق اللوني بين الأبيض، وأصحاب البشرة الداكنة. ولهذا يمكن أن نطلع على عدد من هذه التبصّرات النافذة للحالات العرقية الخطابية في كتابات إدوارد سعيد، ونماذجها صورة العربي كما برزت كتابات دي أتش لورنس، وغيره من المستشرقين.

كاتب فلسطيني ـ الأردن

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى