صفحات الرأي

التمثيل السياسي كأساس لشرعية الفاعل السياسي/ عامر كاتبة

 

 

 

تحاول هذه المقالة تقديم أجوبة حول بعض الأسئلة التي تم طرحها في ورقة نشرتها مجموعة الجمهورية تحت عنوان: هل هناك حاجة إلى فاعل سياسي جديد؟

بالنظر إلى أن الأسئلة المطروحة كثيرة والإجابة عليها تحتاج إلى دراسات وإلى العديد من المقالات، أودّ في هذه المقالة التركيز على مفهوم التمثيل السياسي وعلاقته بمسألة شرعية الفاعل السياسي، وذلك بالاعتماد على أفكار وأطروحات كل من فيلسوف العلوم السياسية إريك فوكلين (Eric Voegelin) في كتابه العلوم الجديدة للسياسة1، والباحث في علوم السياسة كريستوف شومان (Christoph Schumann) في دراسته المتعلقة بالأنظمة السياسية العربية2.

أزمة شرعية النظام السياسي كنتيجة لفقدان التمثيل السياسي

يعتقد شومان في تحليله للانتفاضات العربية الأخيرة أن هذه الانتفاضات إن أظهرت شيئاً ما، فقد أظهرت أزمة شرعية الأنظمة السياسية، موضحاً كيف أن أحد أسباب الانتفاضات يعود إلى حدٍ ما إلى حالة الرفض الاجتماعي للتعريف الإيديولوجي للمجتمع، الذي تم فرضه من قبل الأحزاب الشمولية والأنظمة الديكتاتورية أو الحكومات الملكية.

فبسبب تضمن هذا التعريف الإيديولوجي للمجتمع لصيغ شمولية إقصائية، شعرت كثيرٌ من المجموعات الاجتماعية (إثنية أو دينية أو سياسية) بالإقصاء والتهميش. وهذا العامل جعلها تطرح السؤال حول ماهية هويتها السياسية، وترفض ارتباطها مع النظام الحاكم وشكله (متمثلاً بشعار الشعب يريد إسقاط النظام). وفي بعض الحالات كما في سوريا وليبيا كان هناك حالة من الرفض الكامل لشكل النظام السياسي، مثل تبني رموز جديدة كالعلم والدعوة إلى بناء نظام سياسي جديد بالكامل3.

في تحليله هذا يؤكد شومان أنه من أصعب التحديات التي يواجهها علم السياسة في دراسة الأنظمة السياسية، هو التمكن من تحليل شرعية النظام السياسي، ولكن بدون الاقتصار على فهم هذه الشرعية كمحصلة للاستراتيجيات التي تستخدمها القوى الحاكمة للحصول على شرعيتها4. هنا يدعونا شومان إلى محاولة تحليل مسألة شرعية النظام السياسي وفاعليه (أي نظام أو فاعل سياسي) ليس فقط بالنظر إلى استراتيجيات الحصول على الشرعية التي تستخدمها الأنظمة أو الهيئات الحاكمة للمجتمع، مثل الحصول على الاعتراف الدولي أو تشكيل معارضة مقنعة تقبل الخضوع للنظام الحاكم أو عقد تسويات مع الوجهاء الاجتماعيين. وإنما يجب النظر إلى شرعية النظام السياسي عبر النظر فيما إذا كان ممثلو هذا النظام (برموزه وشعاراته ومؤسساته)، أولاً يمثلون حقاً المجتمع ويعملون من أجله، وثانياً فيما إذا كانوا قادرين على الحفاظ على تماسك المجتمع الذي يحكمونه أم لا.

وبالتالي فإن شرعية الفاعل السياسي يجب أن ترتبط بمفهوم التمثيل السياسي أكثر من أن تكون مرتبطة باستراتيجيات الحصول على الشرعية. هذا يدعونا إلى طرح السؤال حول ماهية مفهوم التمثيل السياسي، وتوضيح علاقته بمسألة شرعية الفاعل السياسي. لتوضيح المفهوم يمييز فوكلين بين ثلاثة أنواع من التمثيل السياسي: الوصفي والوجودي والمتعالي5، التي سنقوم هنا بتسليط الضوء عليها.

التمثيل الوصفي وعلاقته بالتعبير السياسي

يُقصد هنا بالتمثيل الوصفي شكل المؤسسات والرموز السياسية للنظام السياسي، حيث يؤكد فوكلين هنا على العلاقة بين التعبير (أي الإفصاح) السياسي والتمثيل الوصفي، معتبراً أن التعبير السياسي للمجتمع هو شرط أساسي لإنتاج ممثلين سياسيين حقيقين له. فحتى يتمكن المجتمع من إثبات وجوده عليه أن يكون قادراً على التعبير عن نفسه من خلال إنتاجه لممثل سياسي يعمل لأجله. ولكن في الوقت نفسه يؤكد على أن العلاقة بين التعبير والتمثيل الوصفي هي علاقة متعاكسة، حيث أن عملية إنتاج الممثل السياسي مرتبطة أيضاً بقدرة المجتمع على التعبير، كما على تطوير وسائله ورموزه.

فالسؤال هنا ليس فقط متعلقاً بالنظام السياسي الحاكم، فيما إذا كان يسمح للمجتمع بالتعبير عن نفسه أم لا (طبعاً هذه شرط أساسي للوصول إلى التمثيل السياسي الحقيقي)، وإنما أيضاً السؤال يجب أن يكون متعلقاً بالمجتمع، فيما إذا كان يمتلك الأدوات والقدرة على التعبير السياسي أم لا، أي فيما إذا كان يمتلك الثقافة السياسية الكافية أم لا. فعلاقة تطور المجتمع والنظام السياسي هي علاقة متعاكسة، كلاهما يحاول لإثبات وجوده عكس مبادئه ورموزه وأهدافه في الآخر.

بالإضافة إلى الدور الأساسي للحاكم السياسي ومسؤوليته في خلق مساحات وفرص للمجتمع للتعبير عن نفسه، هناك أيضاً دور للمجتمع (أفراد وتجمعات) ومسؤولية تجاه اختيار أدواته السياسية، وما يطرحه من خطاب ورموز حتى يتمكن من إنتاج ممثلين سياسيين يعملون من أجله6.

التمثيل الوجودي وعلاقته بالشرعية المجتمعية

حتى يتمتع الفاعل السياسي بصفة التمثيل السياسي، لا يقتصر ذلك على أن يكون ممثلاً بالمعنى الوصفي (أي الاقتصار على الرموز والشعارات والصيغ الدستورية) بل يجب أن يكون ممثلاً بالمعنى الوجودي، من خلال تحقيقه فكرة وأهداف الهيئة التي يعمل من أجلها. وهذا الشيء لا يمكن تحقيقه فقط من خلال الاعتماد على الصيغة الوصفية، أو من خلال التواجد في منطقة ما وإحكام السيطرة عليها بالقوة فقط، وإنما يعتمد بشكل أكبر على الاعتراف المجتمعي بهذا القوة الحاكمة وهيئاتها. فبدون الاعتراف والقبول المجتمعي للفاعل السياسي، لن يتمكن من إحلال القانون وتحقيق الأمن والاستقرار على المستوى الداخلي والخارجي، وبالتالي لن يتمكن من التمتع بصفة الممثل السياسي بالمعنى الوجودي – أي لن يتمتع بالشرعية المجتمعية.

هنا لا بد من التأكيد على أن العلاقة بين التمثيل الوجودي والوصفي هي أيضاً علاقة تعاكسية، كل منهما يعطي الشرعية للآخر. ففي حال كانت حكومة ما على سبيل المثال تتمتع فقط بالتمثيل الوصفي (حاكم بالمعنى الدستوري) فإن الممثل الوجودي (المسيطر الفعلي على الأرض) سيكون قادراً في الوقت القريب أو البعيد على إسقاط هذه الحكومة. كما أن الحاكم الجديد (الوجودي) لن يكون قادراً على التمتع بالشرعية الكاملة، حتى يتمكن من تبني شعارات ورموز وشكل نظام حكم يكون مقبولاً اجتماعياً، ويحمل صيغة دستورية ممثلة للمجتمع الذي يحكمه7.

التمثيل المتعالي وعلاقته بالشرعية الدولية

يضيف فوكلين النوع الثالث بالاعتماد على التحليل التاريخي لتطور السياسية وعلاقتها بمسألة تمثيل الحقيقة من أجل الوصول إلى العالم المثالي، فالسياسية ارتبطت تاريخياً بتمثيل قيم معينة مُدّعية تمثيل الحقيقة المتعالية (المجتمع السياسي كممثل للحقيقة المتعالية)8. بينما في زمن الامبراطوريات القديمة كانت معظم هذه القيم لاهوتية تسعى للوصول إلى الخلاص أو العالم الآخر (متمثلة على سبيل المثال بمبدأ: الحاكم كممثل للإله على الأرض)، أخذت هذه القيم شكلاً آخر بعد سيطرة الغنوصية الحديثة المتمثلة بالفلسفة الوضعية وحركة العلمنة لتركز على قيم وضعية «لا-روحية» في تفسير العالم من أجل الوصول إلى السعادة الأرضية وتحقيق العالم المثالي على الأرض كالتحريرية أو الشيوعية بشكلها الأمثل9.

وبذلك يعتبر فوكلين أن كل نظام مؤسساتي أو روحي لمجتمع سياسي ما ينبغي أن يعتبر نفسه جزءً من نظام أعلى منه، ممثلاً لحقيقة وقيم متعالية، ومن خلال تمثيله لهذا النظام المتعالي يكتسب شرعيته ووجوده10.

في عصرنا الحديث، أي عصر الدولة الحديثة، يتمثل النظام المتعالي بشكله الأكبر بالنظام السياسي العالمي الجديد المتمثل بميثاق الأمم المتحدة، كما أن الحقيقة المتعالية تتمثل إلى حدٍ ما بالقيم الإنسانية واتفاقيات حقوق الانسان. ما يجعل كثيراً من الأنظمة والأجسام السياسية تسعى إلى تبني هذا النظام العالمي الجديد (ولو نظرياً) من أجل تثبيت وجودها والحصول على شرعيتها.

الفاعل السياسي كفاعل للمجتمع، مقاربة مع الحالة السورية

بالنسبة لفوكلين مسألة التمثيل السياسي تعتمد ببساطة على المبدأ التالي: عندما يكون الفعل السياسي/الممارسة السياسية تساهم بشيء فاعل في المجتمع، يمكن في هذه الحالة اعتبار الشخص أو الهيئة مُمثلة للمجتمع11. فالفاعلية السياسية لا يجب اقتصارها على القدرة بالقيام بفعل ما أو لا، وإنما يجب أن ترتبط بشكل أساسي بمسألة التمثيل السياسي للمجتمع، التي من خلالها ينبغي للفاعل السياسي أن يكتسب شرعيته. الفاعل السياسي هو فاعل بقدر ما يتمتع بصفة التمثيل السياسي للمجتمع، وهو شرعي بقدر ما هو قادر على أداء وظيفته كممثل حقيقي للمجتمع، وذلك من خلال العمل لأجله والحفاظ على تماسكه.

بالنظر إلى الأطراف السورية المتصارعة والهيئات والأنظمة الناشئة عنها، يمكن الملاحظة كيف أن هذه الأطراف بسياساتها وممارساتها تعتمد إما على العنف (الجسدي واللفظي) لفرض وجودها متجاهلة أهمية الاعتراف المجتمعي بها، أو على التسابق من أجل الحصول على الشرعية الدولية (أي الاقتصار على الادعاء بالتمثيل المتعالي). وبالتالي من الضروري خاصة في الحالة السورية عدم الاقتصار في فهم فاعلية وشرعية هذه الأطراف بالنظر إلى الاستراتيجيات والممارسات التي تتبعها. وإنما من الضروري أن يتم طرح التساؤل فيما إذا كانت هذه الأطراف ممثلة حقاً لرغبات وحاجات المجتمع السوري، وفيما إذا كانت قادرة على أداء وظيفتها من خلال تقديم عملها للمجتمع وقدرتها في المحافظة على تماسكه، خاصةً في هذه المرحلة المفصلية التي يعيشها البلد.

كما أنه من الضروري هنا التأكيد على مسؤولية ودور المجتمع في خلق فاعليه السياسيين، فبعد انطلاق الانتفاضة السورية انكسر على الأقل حاجز الخوف، واستطاعت شرائح كبيرة من المجتمع السوري التعبير عن نفسها مستخدمة أدوات وخطابات ورموز جديدة، ولكن يبقى السؤال فيما إذا كانت هذه الفئات (أفراد وتجمعات) قادرة بالشكل الكافي على التعبير عن نفسها سياسياً حتى تتمكن من إنتاج فاعل سياسي ممثل لها؟ هذا السؤال متعلق بكيفية فهمنا للسياسية، وبمفهوم الثقافة السياسية الذي سنقوم بطرحه ومعالجته في مقال آخر.

 

حاصل على رسالة الماجستير في دراسات النزاع والسلم من جامعة ماغدابرغ الألمانية. يعمل حالياً على مشروع شهادة الدكتوراه تحت عنوان «تحويل النزاعات في مصر وسوريا بين الأوتوقراطيّة والديمقراطيّة».

موقع الجمهورية

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى