صفحات الرأي

التمثيل بسيرة رفعت السعيد/ شادي لويس

 

 

ربما كان لوفاة رئيس “حزب التجمع”، الدكتور رفعت السعيد، أن تمر بلا لغط، لولا النعي الرئاسي الذي استفز كثيرين. فالرئاسة وصفت الرجل بأنه “مثّل حركة اليسار المصري باقتدار، وكانت له إسهامات ممتدة على مدار التاريخ السياسي”. فيما كتب الصديق الافتراضي الماركسي، في صفحته الفيسبوكية: “نفق رفعت السعيد”. ولم يكن يقف الأمر عند استخدام المرادفة التحقيرية التي تُستخدم عادة لوصف موت الحيوانات، وتستخدمها أيضاً “الدولة الإسلامية” في وصف ضحايا هجماتها. بل إن سيلاً من الاتهامات واللعنات انصب على المتوفى عبر شبكات التواصل الاجتماعي، ليس من خصومه الإسلاميين فحسب، بل وبشكل أكثر حدة من المنتمين إلى اليسار أيضاً. فغير التذكير بتصريحاته المؤيدة لنظام 30يونيو، وموقفه المخجل من قضية تيران وصنافير، وغيرها، فإن اتهامات بتخريبه لليسار والحركة العمالية، وبالعمالة للأمن، وبالوشاية برفاقه منذ منتصف الستينات، زيدَ عليها اتهامه بالتحرش الجنسي.

انبرى للدفاع عن الرجل فريقٌ من اليسار، ممن ما زالوا يحملون بعض التوقير لتاريخ “حزب التجمع”، لا لرئيسه بالضرورة، بل لأسباب عاطفية. إضافة إلى مَن أخذوا في الاعتبار هيبة الموت. فهاجموا رفاقهم الذين اعتبروهم، في تمثيلهم بسيرة السعيد، على الجانب نفسه مع الإسلاميين. لكن، ومع أن الخلاف، الإلكتروني في معظمه، قد يهدأ بعد أيام كالعادة، إلا أن حدته المبالغ فيها جديرة بالنظر. فسيرة الرجل فيها الكثير مما يدعو للهجوم، فغير مواقفه المؤيدة لنظام 30يونيو، وقبلها موقف الحزب الملتبس من الثورة المصرية، والمحطات الفارقة التي تبعتها، فإن السعيد كان له خط ثابت منذ الثمانينات في دعم نظام مبارك بدعوى مواجهة الجماعات الجهادية المسلحة. وبانهيار الاتحاد السوفياتي، وتراجُع اليسار عالمياً مطلع التسعينات، كان الخيار البراغماتي لسعيد هو الرضا بوضع المعارضة الأليفة والشكلية لحزبه، والتي ضَمِن من خلالها تماسك الحزب، وعدم انجرافه إلى الخلافات التي انتهت بغيره من أحزاب المعارضة إلى ساحات المحاكم والتجميد، بالإضافة إلى بعض المكافآت الصغيرة، ومنها عضويته في مجلس الشورى بالتعيين.

لكن، وإن أضحى “حزب التجمع”، الذي كان قطباً معارضاً في الماضي، مجرد نادٍ اجتماعي لدائرة ضيقة من المتحلقين حول السعيد، بعدما هجرته كوادره الراديكالية أو تم التخلص منها بالتواطؤ مع الأمن.. وإن كان الحراك الذي قادته “كفاية” و”6 أبريل”، وبعدهما الثورة، قد تجاوز الحزب الذي ما عاد ممثلاً حصرياً لليسار غير القومي كما في الماضي، لا سيما بعد تأسيس أحزاب مثل “التحالف الاشتراكي”، وحزب “العيش والحرية” (تحت التأسيس)، و”الحزب المصري الديموقراطي” (يسار الوسط) بعد الثورة… فلماذا تصبح وفاة رئيس حزب هامشي جدا، مثاراً لكل هذا الجدل، وبكل تلك الحدة التي تصل إلى تبنّي مفردات “الدولة الإسلامية” في وصف رحيله؟

ربما يمكننا الاكتفاء بالقول بأن اليسار المصري، من عادته تضخيم خلافاته، أو حتى بأن النقد الذاتي والمراجعات التاريخية هي ميزته الأهم. يبدو هذا كله صحيحاً، لكن الهزيمة التي تعانيها كل القوى السياسية في مصر، والمآلات الكارثية للثورة، ربما تكون هي الدافع الأكثر واقعية لتصاعد هذا الخلاف. إلا أن الأمر ليس مجرد معارك دونكيشوتية يخوضها البعض، في ظل انسحاب الكثيرين من الشأن العام بدافع الخوف أو القناعة بعدم الجدوى. فسيرة الرجل الذي أرّخ للحركة الشيوعية المصرية، وكان فاعلاً رئيسياً، أو على الأقل شاهداً من موقع القيادة، على تداعي أهمّ حزب يساري في مصر، فيها الكثير مما يستدعي النقمة والغضب. وذلك ليس في ما يخصه فحسب، بل في ما يتعلق بالرصيد التاريخي لليسار إجمالاً، وما وصل إليه اليوم.

هكذا، وبينما يقفز كثيرون من المعنيين بالشأن العام، إلى الماضي، بدافع اليأس، أو بإدراك للحاجة إلى النظر إلى الخلف، فإن رحيل السعيد كان حافزاً لمراجعات الماضي، مشحونة بطاقاتٍ من الغضب والنقمة، أسقطت إحباط الحاضر على تاريخ الرجل وسيرته.

في النهاية، يبدو تحميل السعيد أوزار تداعي حزبه وتدمير اليسار والحركة العمالية، أمراً غير خيانته لقيم اليسار نفسها والتي تدعونا إلى النظر في البني الاقتصادية والاجتماعية والسياقات التاريخية والسياسية للحدث التاريخي، من دون حصرها في أفراد أو خياراتهم، إضافة إلى أنها مخالفة للواقع. ورغم انكسارات الثورة، فخطابها اليساري هو ربما ما تبقى منها، والحركة العمالية تظل هي الوحيدة القادرة على الفعل وتحقيق مكاسب في ظل الوضع السياسي الحالي شديد التأزم. فيكفي أن نتذكر انتصار إضراب عمال المحلة الأخير، وإرغامه للنظام على الانصياع لمطالبه، بعد أيام من وفاة السعيد.

المدن

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى