صفحات العالم

التمسك بالنظام العالمي رغم خلخلته/ ميخائيل ترويتسكي

 

 

أظهر مؤتمر ميونخ للأمن وجود تباينات في مواقف الدول الكبرى حيال آفاق النظام العالمي، ودور القوى الغربية وغيرها فيه. وبدأ النقاش بين ممثلي خارجية دول الناتو والاتحاد الأوروبي. فبعض هذه الدول يشعر بالقلق الشديد إزاء مستقبل الغرب والنظام العالمي كله، ويتوقع تفاقم الصراعات القديمة، وتخلخل التحالفات التقليدية، واحتدام التهديدات الجديدة، وحتى انتشار الفوضى. ووصف منظمو مؤتمر ميونيخ، الوضع في تقريرهم بـ «الركود الجيوسياسي». وانتقد أحد مؤلفي التقرير، وهو رئيس المؤتمر، ووزير الخارجية الألماني السابق، فولفغانغ إيشنغر، دعوة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، دول الاتحاد الأوروبي إلى الخروج من الاتحاد على غرار بريطانيا، ووصف مثل هذا الخطاب، بـ «إعلان غير عسكري للحرب».

وترحب موسكو بنظرية انهيار «النظام العالمي الغربيّ». ويرى وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أن النظام العالمي أثبت عدم فاعليتّه واستقراره، وأنه بائت وينتمي إلى الماضي. واقترح لافروف في مؤتمر ميونيخ، بناء «نظام عالمي ما بعد غربي» قائم على مبادئ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول والاعتراف المتبادل بوجود «المصالح الوطنية» لكل دولة.

وفي الوقت نفسه، لا يتوقع عدد كبير من السياسيين أن يتداعى النظام العالمي الحالي. وأكد الأمين العام لحلف الناتو، ينس ستولتنبرغ، أن دول الناتو وعدد من شركاء حلف شمال الأطلسي في أوروبا وآسيا يؤيدون العلاقة القوية في مجال الأمن بين الولايات المتحدة وأوروبا. وحاول نائب الرئيس الأميركي، مايك بنس، ووزير الدفاع، جيمس ماتيس، تبديد قلق الحلفاء الأوروبيين، وشددا على قوة حلف الناتو. ولكن هذه التأكيدات لم تقنع الجمهور. فأولاً، وجهة نظر الرئيس الأميركي مبهمة. وثانياً، ووفق وزير الخارجية الفرنسي، جان مارك أرولت، وغيره من المراقبين، لم تتضمن كلمات كبار المسؤولين الأميركيين إشارات واضحة إلى استعداد واشنطن في الظروف كلها للحفاظ على أمن حلفائها الأوروبيين. حتى أنّ وزيرة الدفاع الألمانية، أورسولا فون دير لاين، أعربت عن مخاوفها من رغبة ترامب في الموازنة بين التعامل مع الناتو وموسكو، أو حتى إعطاء الأولوية للأخيرة.

وبعد 7 عقود من النمو المستقر من دون وقوع حروب كبرى، لا يمكن القول إن ثمة تغييرات جذرية في مصالح القوى ومراكز القوى الرئيسية في العالم. وشاغل الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي والصين والهند التنمية المستقرة للاقتصاد العالمي. ففي غياب هذه التنمية يتعذر تحقيق نمو في الاقتصادات الوطنية. وفي هذه الظروف، يبدو أن موجة جديدة من الحمائية الاقتصادية تنتهجها إدارة ترامب ستقتصر على تعليق التوجه نحو رفع القيود عن التجارة الدولية.

ولا يبدو أنّ ثمة في الأفق قوى قادرة فعلياً على تحدي النظام العالمي. وترغب بريطانيا في أن تترك الاتحاد الأوروبي مع المحافظة، على أقل تقدير، على علاقات اقتصادية وثيقة به، وتعزيز هذه العلاقات مع الولايات المتحدة، وقيادة، على أبعد تقدير، عملية تعزيز الدفاع الأوروبي في الناتو. ولا تمتلك القوى السياسية «المعادية للنظام» في الاتحاد الأوروبي الشعبية اللازمة لتنفيذ جدول أعمالها (فرط عقد الاتحاد).

ولا يشغل دول كبرى في آسيا وأميركا اللاتينية، في كثير من الأحيان، «النظام العالمي»، فشاغلها هو ميزان القوى في مناطقها. وعلى سبيل المثل، ترى دول الشرق الأوسط أن إيران هي أكبر مصدر تهديد إثر «الاتفاق النووي»، وتسعى مع واشنطن إلى احتواء طهران وحلفائها في المنطقة.

وفي هذا السياق، لا شك في أن «المشتبه بهما» في أداء دور «تخريبي» في العالم، هما الولايات المتحدة وروسيا. ولكنهما غير مستعدتين لـ «فض» النظام العالمي الحالي. فإثر شنها مناورات حادة في السياسة الخارجية في الأعوام الأخيرة، التزمت موسكو موقفاً أكثر دفاعية في مواجهة سيل اتهامات يأخذ عليها تدخلها في الشؤون الداخلية للدول والصراعات الأخرى في أصقاع العالم. وفي المقابل، يبدد الرئيس الأميركي الجديد تدريجاً مخاوف وزيرة الدفاع الألمانية، ويبدو أنه لم يعد يسعى إلى «خارطة طريق» لتسوية النزاع مع روسيا من طريق تعاون في مكافحة «داعش»، ثم رفع العقوبات (عن حليف في الحرب على الإرهاب). ويسع ترامب إقناع الكونغرس وإدارته بحل شامل، إذا تضمن (الحل هذا) تسوية متزامنة في شبه جزيرة القرم والدونباس، ولفظ موسكو العمليات السيبرانية أو السيبرنيطيقية (القرصنة الالكترونية)، والكف عن محاولات التأثير في الانتخابات أينما كانت.

وترى دوائر القرار في السياسة الخارجية الأميركية، أن روسيا تؤدي دور المعارض العالمي للولايات المتحدة، وخلصت إلى تعذر شراكة جديدة معها. ولا ننسى أن ترامب نفسه انتقد «إعادة إطلاق» العلاقات الروسية – الأميركية في عهد الرئيس أوباما. ولم تطح التصريحات القاسية والمفاجئة للمندوبة الأميركية في الأمم المتّحدة، نيكي هايلي، الأمل بتخفيف واشنطن العقوبات ضد روسيا إذا حصل تقدم واضح في حل الصراع في الدونباس. ولكن أحد مؤيدي التقارب مع موسكو، مستشار الأمن القومي، مايكل فلين، والذي استاء من تصريحات هيلي، استقال.

ومع ذلك، فإن إدارة ترامب لن يتخلى بسهولة عن فكرة التقارب مع روسيا التي يمكن «التعاون معها» ضد «التطرف الإسلامي» والصين – التهديد البارز لأمن أميركا. ويبدو أن هذه الفكرة جذابة، ولا يستطيع «الصقور» رفضها. والدليل على ذلك أمثلة من إدارة بيل كلينتون، وإدارتي بوش وأوباما: كل منها كان على استعداد للتخفف من إرث الصراع العنيف، من الحرب الباردة وكوسوفو إلى جورجيا، من أجل تحرير موارد السياسة الخارجية الأميركية من الانشغال باحتواء روسيا.

وعلى دونالد ترامب أن يقرر أولويات إدارته وأي مشكلات تتصدرها: «التطرف الإسلامي»، واحتواء إيران أو القضاء على تنظيم «داعش». وإذا كانت إيران تتصدر أولويات الرئيس الأميركي، والدليل على ذلك الدعم الأيديولوجي العميق لإسرائيل في الإدارة الأميركية، وهذا برز في زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو واشنطن، ضاقت الفرص المتاحة للتعاون بين واشنطن وموسكو التي ترفض الانضمام إلى الحملة على طهران، وتعاظم احتمال التأزم في العلاقات الروسيّة – الأميركية. أمّا فرص التعاون الأخرى، ولو لم تكن كبيرة، فهي تقتصر على السعي المشترك إلى الاستقرار في العراق وسورية.

* خبير في العلاقات الدولية، عن «أر به كا» الـــروســية، 20/2/2017،

إعداد علي شرف الدين

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى