صفحات سوريةعمر قدور

التنافس “السني” على سوريا/ عمر قدور

 

 

في حين كان الانتباه العام منصرفاً إلى ما يُسمّى “الصراع الشيعي/السني” في المنطقة، واعتبار سوريا حلقة مركزية فيه، غاب إلى حد كبير الاهتمام بالصراع “السني/السني” في المنطقة، إذا شئنا استخدام المفردات نفسها لوصف صراع متعدد الأوجه لا يتوقف عند الملمح الطائفي فحسب. وإذا كان واضحاً تحكم المرجعية الإيرانية في المقلب الآخر، حيث لا يخفي المسؤولون الإيرانيون ضلوعهم المباشر في بؤر النزاع الممتدة من صنعاء إلى لبنان، لا يمكن الزعم بوجود تنسيق من أي نوع على “المحور السني” الذي يغلب عليه التشتت أو التنافس، وحتى الاحتراب الداخلي، الأمر الذي تجلّى تحديداً من خلال الساحة السورية واستخدامها مكاناً ووسيلة لتصفية الحسابات.

منذ الوقت الذي بدا فيه النظام السوري آيلاً إلى السقوط ظهر التنافس على أشده ليسعفه بتشتيت معارضيه، على المستويين العسكري والسياسي. وإذا ظهر إسقاط الأسد آنذاك ممنوعاً بقرار دولي “أميركي تحديداً” فإن سلوك أصدقاء المعارضة الإقليميين لم يساعد مطلقاً في تشجيع الإدارة الأمريكية على توجه مختلف. “الأصدقاء” كان لهم الدور الأبرز في إضعاف وتفتيت أطر المعارضة السورية، بما فيها تلك التي اتفقوا في وقت سابق على دعمها، وكان لهم الدور الأبرز في انقسام الفصائل المسلحة. ولم يتوقف الخلاف عند الانقسام بل تعداه في كثير من الحالات إلى اقتتال داخلي يعكس تصفية حسابات بين الداعمين المختلفين، وكأن النظام سقط وحان وقت النزاع على تركته.

من المغالطات الشائعة على هذا الصعيد تصوير إيران كمنتصر في الحرب السورية، لأن الصراع في سوريا وعليها انتزعها من الاحتكار الإيراني السابق على الثورة السورية، ما اضطرها إلى إنفاق الكثير من الدعم العسكري والاقتصادي لاستعادة النفوذ السابق، مع تلميحات وتسريبات عن موافقتها على تقاسم للنفوذ يُبقي لها حصة “الأسد”. لم تتعرض إيران لهزيمة سورية كاملة بسبب الانقسام في الصف الآخر، وأيضاً بسبب عجز هذا الصف عن تظهير بديل سوري قوي ومُتفق عليه. المكسب الإيراني الأكبر هو في أن الصراع معها لم يكن له الأولوية كما يجري تضخيمه في وسائل الإعلام، إذ لا اتفاق في ذلك مثلاً بين تركيا وقطر اللتين يتقارب موقفهما أحياناً من الشأن السوري على وقع الخلافات الخليجية، وبالتأكيد لا اتفاق مطلقاً بين السعودية وتركيا اللتين تخوضان نزاعاً ضروساً على أرضية خلافهما الحاد حول انقلاب السيسي في مصر. وعلى رغم اتفاق دولة الإمارات التام مع توجه السعودية المصري إلا أن مقاربتها للشأن السوري يكتنفها الكثير من الشبهات حول اصطفافها إلى جانب النظام.

وإذا كان انقلاب السيسي في مصر قد أزّم العلاقات الخليجية/الخليجية، وأزم علاقة السعودية بتركيا، إلا أن العلاقة بين المحور السعودي وتركيا لم تكن في أحسن حالاتها قبل ذلك، وهذا في حد ذاته أمر لافت بين بلدين كادت مواقفهما أن تتطابق حينها في شأن عدم المساومة مع نظام الأسد. وأكثر ما يلفت الانتباه هو غياب التنسيق مع تركيا التي تعادي الأسد وتمتلك أكبر حدود مع سوريا، الحدود التي أصبحت شبه مفتوحة مع تحرير معظم مدن الشمال السوري من حيث المساحة والثقل. تظهر أهمية ذلك أكثر فأكثر مع ارتهان السعودية إلى الممر الأردني لدعم الفصائل المسلحة التي تمولها، ومن المعلوم أن المعبر الأردني مُمسك بقوة وتحت الملاحظة الدقيقة للإدارة الأمريكية التي أوقفت عبور المساعدات في العديد من المناسبات الحاسمة. بل إن تقدم “الثوار” في الجبهة الجنوبية يسير غالباً بما لا يقطع الشعرة بين الحكومة الأردنية والنظام السوري؛ هكذا مثلاً لا تقتحم فصائل المعارضة معبر نصيب بصفته المنفذ الأخير للنظام على الأردن، ولا تقطع الأوتوستراد الدولي بين عمان ودمشق.

لقد تسلل الغموض الأمريكي وتناقضاته إزاء الملف السوري بين شقوق المحور السني المزعوم، ومن هذه الجهة على الأقل يتبين تهافت المحور الذي لم يكن له وجود في الواقع، وجرى تسويقه إعلامياً لخدمة المحور الآخر، ولخدمة السياسة الأميركية الحالية في المنطقة. ما أظهرته ساحة الصراع السورية أن التناقضات ضمن “المذهب” الواحد أعمق من التناقض الطائفي المفترض، ولئن دفع السوريون من دمائهم ثمن تلك التناقضات فلأن الساحة السورية صارت مفتوحة لكل اللاعبين الإقليميين الكبار، ومن السذاجة الظن بأن وحدة المذهب كافية لإذابة الخلاف في المصالح السياسية ضمن الإقليم، أو حتى ضمن سوريا نفسها. مع ذلك، ما حصل لم يكن الخيار الوحيد المتاح، إذ كان في وسع الدول المتنافسة على تركة إيران في سوريا أن توازن بين أولوية الانتهاء من النفوذ الإيراني ووراثته تالياً، إلا أن قصر النظر السياسي، وليس التهافت والتقاعس المذهبي، هو ما سيجعل المكاسب أقل من المأمول.

أصلاً، لا مصلحة للسوريين في محور “سني” صلب، كما يتراءى للباحثين عن منازلة إقليمية كبرى، لأنهم مرة أخرى سيدفعون بدمائهم ثمنها. مصلحة السوريين هي في سياسة إقليمية رشيدة حقاً، وفي ألا يُستخدموا لتصفية الخلافات العالقة في ملفات أخرى. فوق ذلك، لا مصلحة للسوريين في أن تتعين الخلافات الإقليمية على أرضهم بين مزاعم الاعتدال والتطرف الإسلاميين.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى