صفحات الرأي

التنّين التكفيري صنعته المؤسسة الدينية/ علي حرب

ثمة جدال يحتدم في الأوساط الفكرية والسياسية حول هوية الإسلام: هل هو دين متطرّف أم معتدل؟ اذا كان معتدلاً فأين هم أهل الاعتدال؟ وما الذي يفعلونه في مواجهة الإسلام المتطرّف، بمنظماته التكفيرية وأنشطته الارهابية التي يقودها أمراء الجهاد ونجومه، لكي يزرعوا الرعب ويسفكوا الدماء مخلِّفين، حيث حلّوا أو سيطروا، الخرائب والمقابر؟

طُرح هذا السؤال، في الآونة الأخيرة، بعدما صُدِم المسلمون والعالم أجمع بالتصرفات الهمجية للحركات الجهادية، كما جسّدها تنظيم “داعش”، في ما أقدم عليه، بعد سيطرته على أراضٍ واسعة في سوريا والعراق وإعلانه قيام “دولته الإسلامية”، من أعمال السبي والإغتصاب والتنكيل والقتل، أو التهجير والتطهير الطائفي والمذهبي في حقّ المسلمين وغير المسلمين.

لمعالجة المسألة، تحسن مقاربة مصطلح الإسلام مقاربةً مركّبة، وعلى غير مستوى أو وجه، حضاري ومدني، علمي ومعرفي، عقائدي وثقافي.

الفضاء الحضاري

الأول هو المستوى الحضاري، حيث تشكّل الإسلام كعالم واسع متعدّد البعد، متنوّع العنصر والفئة والتيّار؛ إذ تعايشت في فضائه ديانات وطوائف وأمم ولغات شتى، وإن حصل ذلك في ظلّ هيمنة اللغة العربية والعقيدة الإسلامية.

على هذا المستوى، تكوّنت وازدهرت حضارة اسلامية استوعبت خلاصة الثقافات والديانات، القديمة والسابقة، لكي تضيف الجديد والثمين إلى سجلّ الحضارة والمدنية، سواء على مستوى الفلسفة والعلوم أو الآداب والفنون أو الشرائع والقوانين.

مثل هذا الفضاء الحضاري هو الذي أتاح ممارسة حرية الفكر التنويري، النقدي والعقلاني، تجاه الدين، وكما تمثّل ذلك لدى العديد من أعلام الفكر والفلسفة، كالفارابي والنظّام والمعرّي وابن الراوندي وابن رشد وابن عربي، وسواهم من الذين أخضعوا الإسلام لنقد عقلي يقصّر عنه اليوم كثيرون ممّن يدّعون الحداثة والعلمانية.

ما كان للإسلام أن يصبح عنواناً لحضارة مزدهرة، لولا أن بعض مكوّناته الحيّة وقواه الديناميكية، من حكّام وعلماء وتجّار ومغامرين وبناة مبدعين، قد اشتغلوا بمنطق الانفتاح والتعدّد والتبادل، أو بلغة الخلق والابتكار والتجديد، في مواجهة القوى المحافظة والتيارات الاصولية، أي ما كان يسمّى يومئذٍ أهل النقل والنص والحديث. معنى ذلك، عند مَن يقرأ ما حدث، ولا يسدل الستار على عقله، أن هوية المسلم قد تشكّلت وتخلّقت وتركّبت، بل أعيد بناؤها وتركيبها وتغييرها باستمرار، حدثاً بعد حدث، وتجربةً بعد أخرى، وطوراً بعد طور، في ضوء المستجدّات والتحوّلات، وعلى وقع الخلافات والصراعات على السلطة والثروة والمعرفة وسائر مصادر القوة، بقدر ما كانت تتغذّى من الثقافات المحلية والوطنية للشعوب والأقوام التي انخرطت في مشروع الدين الجديد.

لذا، فإن هذه الهوية كانت تغتني بقدر ما تتنوّع وتتهجّن أو تتكيّف وتتعدّل، بحسب البيئات والثقافات والعصور، وذلك في غير وجه أو بعد، من مفهوم الذات الالهية إلى المذاهب الفقهية، ومن كيفية أداء الصلاة إلى أسلوب عمارة المساجد، ومن عادات الزواج إلى أعراف الاجتماع.

أما اعتقاد المسلم بأن له هوية صافية، ثابتة، هبطت عليه من سماء متعالية، هي التي يجدر التشبث بها والمحافظة عليها، فمعناه جهله بالكيفية التي تُصنع بها الأشياء وتُبنى الحياة ويسير العالم، ومآله كل هذا الحمق والجنون أو العمى والعبث بالمصائر، كما يُترجم الإسلام على يد الاصوليات الجهادية، وسط ذهول المسلمين الذين اكتشفوا، بعد فوات الأوان، كيف أن إسلامهم الحنيف والسمح يختزن كلّ هذا العنف الفاحش والمدمّر.

لنقرأ ما جرى، بإزالة الغشاوة عن أبصارنا، فإذا كانت الجماعة أو الأمة الإسلامية احتاجت لكي تلتئم وتتوحّد إلى مبدأ غَيْبي أو رمز قدسي، فإن الاجتماع الإسلامي لم يكن مملكةً للفضيلة، بقدر ما كان يُنسَج من شبكة المصالح وعلاقات القوة. والمسلمون، وإن آمنوا أو صدّقوا أو خضعوا، فإنهم لم يكونوا ملائكة، بل كسواهم من البشر، قد تحرّكهم مبادئ الشريعة وقواعد الفضيلة، بقدر ما تحرّكهم الأهواء والمطامع أو الأحقاد والعداوات. هذا ما شهدت به الحوادث في زمن النبي العربي، صاحب المشروع ومؤسّس الشريعة، وهذا ما حدث خاصةً بعد وفاته، حيث الصراعات والحروب بين خلفائه على المشروعية أفضت إلى حروب سالت فيها أنهار من الدماء، شاهدةً بذلك على أن الكلام على عصر ذهبي أو فردوسي، هو خرافة صنعتها النرجسية الثقافية لأصحاب الدين الغالب.

الاصطفاء والاستثناء

هذا ما ينقلنا إلى المستوى الثاني، وهو بيت القصيد، وأعني به النظر إلى الإسلام على المستوى اللاهوتي، بوصفه منظومة عقائدية قوامها جملة تعاليم وأحكام يعدّها المسلم بمثابة حقائق مطلقة ونهائية، غير قابلة للمساءلة والمناقشة، بل يجب العمل بها وتطبيقها، لأنه يؤمن بأنها وحي إلهي لا نتاج بشري. نحن هنا إزاء معتقد اصطفائي يصنع لأتباعه هوية نرجسية استثنائية، بين البشر، بوصفهم الأمة التي اختارها الله لتبليغ آخر رسائله ومقرراته إلى عباده.

من شأن هذه الهوية المغلقة على ثوابتها ومحرماتها، أن تقولب العقول وتختم على الأجساد، لكي تصنع من وجه الأول النموذج المثالي للمسلم كما يتمثل في تقديس النصوص وتقليد السلف تقليداً أعمى؛ ولكي تقيم من وجه آخر جدراناً عازلة بين المسلم وسواه، بل بين الناس عامةً، من خلال ثنائيات تفصل على نحو حاسم بين الايمان والكفر أو الطهر والرجس أو الطاعة والخروج، أي بين العبودية المقنّعة بتأليه بشري لسواه وبين استقلالية الشخص البشري وحريته في التفكير.

على هذا المستوى من السذاجة والتبسيط، أن نتحدث عن إسلام معتدل أو وسطي. فالاسلام شأنه بذلك شأن سائر المعتقدات. كلها تعمل بمنطق الإصطفاء والإقصاء. ولا غرابة، فمسوّغ كل معتقد جديد هو إلغاء القديم. ومشروعية كل دين يظهر، نسخ ما سبقه والحلول مكانه. لذا تعمل كلّها بلغة التهمة والإدانة لتدمير جسور التواصل بين الناس، كلها مصانع لإنتاج العنف الكامن في مبنى العقائد وشيفرات الثقافة.

فاليهودية التي تأسست على منطق الإصطفاء لبني إسرائيل، من ربّ العالمين الذي فضّلهم على سواهم، على زعمهم، قد أقصت كل ما عداها من العقائد والأقوام، وتلك هي النسخة الأولى من العقيدة التوحيدية التي أسّست للأحقاد والعداوات بين الناس. والمسيحية قد ارتدّت على اليهودية وانشقّت عليها بتخطئتها وتجاوزها، وبعكس ما يظنّ الذين صنعوا في الغرب التلفيقة العقائدية التي تجمع اليهودية والمسيحية تحت اسم واحد Judéo/ Christianisme. هذا مع أن الإسلام هو أقرب إلى اليهودية من المسيحية، من حيث منطق الاصطفاء. في كلّ حال، الإسلام وإن كان ثمرة لليهودية، أو نسخة جديدة عن المسيحية، كانت علّة ظهوره نسخ الاثنتين ونقضهما، باتهامهما بالتحريف أو الشرك.

منطق الاصطفاء والإقصاء هو الذي ساد ويسود العلاقات داخل كل ديانة بين طوائفها. فالواحدة منها تفترق عن الأخرى وتنشقّ عنها أو عليها، لكي تقوم بإقصائها، بذريعة أنها وحدها تجسّد المشروعية الايمانية، وأنها وحدها، دون سواها، هي الأحقّ والأصدق من حيث مطابقتها للأصول والسير على الصراط المستقيم، أو الأرثوذكسي، إذا شئنا إستخدام لغة المسيحية المشرقية.

هذا المنطق نفسه هو الذي اشتغلت به العقائد والمذاهب الحديثة، كما جسدت نموذجها الماركسية، وكما شهدت الانشقاقات العنيفة والتهم المتبادلة بالتحريف بين المعسكرات والأنظمة أو بين الأحزاب والمنظمات التي اعتنقت الإيديولوجيا الماركسية وتشكّلت على أساسها كمشروع خلاص. وهذا شأن الرأسمالية في موقفها من الماركسية، فكلاهما تسوّغ مشروعيتها بنفي الأخرى.

هذا مآل كل مذهب أو معتقد يفكّر أهله في عقل أحادي، دغمائي، تبسيطي، لاحتكار الحقيقة ومصادرة حرية التفكير والتعبير، أكان دينياً أم فلسفياً: إقصاء الآخر واتهامه أو استئصاله، على المستوى الرمزي أو الجسدي، كما شهدت حروب التطهير الدينية، أو معسكرات الاعتقال والإبادة الستالينية.

طبعاً لا أعمّم. لذا أراني أستثني الليبيرالية، كموقف فلسفي وجودي، وأعني بها، كما أعرفها، احتفاظ المرء بحريته، بعيداً من أي وصاية، بحيث لا يستعبده اسم أو أصل، ولا يستعمره مذهب أو نموذج، لكي يجعل منه عبداً لشخص أو عميلاً لفكرة أو خادماً لعقيدة. وفي هذا شاهد على أن علاقتنا بالحقيقة هي محلّ التباس وازدواج أو تعارض وتناقض. وتلك هي المفارقة.

الجهل المركّب

في ضوء هذا الفهم لمنطق الدين، فإن غير المسلمين الذين يبحثون عن اسلام معتدل، إنما يشهدون على جهلهم بحقيقة الأديان وهوياتهم. فالمسيحية، التي صنعت “محاكم التفتيش”، لم تمارس التسامح إلا بعد انتصار الثورة في عصر الأنوار. كذلك فإن المسلم المدافع عن وجود اسلام معتدل، إنما يشهد على جهله بمبنى عقائده وأصول ديانته، أو على أنه منافق وغير صادق في ما يقول، تماماً كما أنه يشهد على جهله بالتاريخ الإسلامي على مستواه العقائدي، حيث العلاقات بين الفرق والمذاهب المختلفة، لم تُبنَ بحسب منطق التعارف والتواصل، بل بحسب منطق التنابذ والتنازع والتقاتل، على ما شهدت ولا تزال تشهد الحروب والانشقاقات التي أفضت إلى إحداث شرخ عميق، بين المسلمين، عقائدي وثقافي ومجتمعي، تحولت معه أو بعده المذاهب إلى هويات فرعية هي أشبه بديانات جديدة، لا تقلّ العداوة بينها، المضمرة أو المعلنة، عن العداوة بينها وبين الطوائف غير الإسلامية. هذا ما يحملني على تكرار قولي بأن الله والنبي والقرآن باتوا، من حيث الأولوية، من الدرجة الثانية أو الثالثة، لدى كل فرقة اسلامية، قياساً على نصوصها ورموزها الخاصة بها.

الأمر الذي يفضح عقيدة التوحيد لدى الاسلاميين العاجزين عن توحيد حيّ في مدينة، كما يفضح عقيدة الوحدة لدى القوميين الذين لم يحسنوا سوى تدمير الفكرة العربية. لذا، ما صنعته المشاريع العروبية والاسلامية، هو إنتاج مجتمعات ملغمة انفجرت قبائل وطوائف، كما تجري الحروب بين الأخوة في الدين أو الأشقاء في الوطن، في العراق وسوريا، أو في اليمين وليبيا.

الخداع والزيف

من آليات المدافعة عن المعتقد لدى الإسلاميين، أنهم في تفسيرهم لكل عنف يمارسه مسلم ضد الغير، أو لكل اقتتال بين المسلمين، يقولون لك بأن ذلك مخالف لمبادئ الدين وقيمه. حجتهم على ذلك أن هناك آيات قرآنية تحض على “التعارف” بين الناس، او تتيح حرية التفكير والإعتقاد (من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر).

هذا واحد من أساليب الخداع والزيف التي يُتقنها الإسلاميون. ذلك أن القرآن ليس مقالة كلامية مُحكَمة أو نظرية علمية متماسكة، إنما هو نصّ مفتوح على تعدّد الدلالة والتباس الرواية أو اشتباه الآية، فضلاً عن كونه محلاً للتردّد والتعارض في الأطروحة والمقولة. إذ هو يؤكد شيئاً في موضع، وينفيه في موضع آخر. إنه يمتدح الرهبان لكنه يهاجم الرهبانية، ويمجد المسيح وأمّه مريم، لكنه يتهم المسيحيين بالشرك، ويدعو إلى الوحدانية التي هي رأس الاعتقاد الإسلامي، لكنه ذو بنية تثليثية، إذ هناك ثلاث شخصيات مفهومية تتصارع وتلعب على مسرح الوجود: الله والإنسان والشيطان، مما يجعله يقبل ما اختلف أو تعارض من القراءات والتأويلات.

فلا جدوى اذاً من العودة إلى القرآن لدعم هذا الرأي أو نقض الآخر. مثل هذه العودة التي تطمس المشكلة، إنما تتم الآن بعد فوات الأوان، أي بعدما استحكم التعصّب والتحزّب وترسّخ الإنقسام والعِداء طوال قرونٍ. الأجدى والأولى الرجوع إلى كتب الفرق، فهي بيت الداء، هي الفيروس القاتل، إذ بموجبها تشكّلت الهويات الموتورة ومنها تنبع الاستراتيجيات القاتلة، كما نشهد ونعاني.

وإذا كان المسلمون قد انفتحوا بعضهم على البعض الآخر، وعلى غير المسلمين، وبالعكس، فقد انفتح غير المسلمين على المسلمين، فليس بسبب سماحة هذا الدين أو تسامح ذاك المعتقد. هذا مع أن التسامح لا يحلّ المشكلة، لأنه لا يبنى على الإعتراف بالآخر وبأن له قسطه من الحقيقة، بل مجرد تساهل تجاهه، مع الإعتقاد في قرارة النفس بأنه مخطئ أو آثم.

أياً يكن، فالقيم المتعلقة بالتسامح والاعتدال أو التعدد والتواصل، سواء منها ما اقتبس من أوروبا أو ما أخذ من كتب التراث الديني، قد تمّت استعادتها أو جرى استثمارها، بفضل الاندراج في عالم الحداثة بعناوينها وقيمها ونُظمها ومؤسساتها. لذا، عندما عاد المسلمون، عن مكتسبات الحداثة، كلٌّ إلى فقهه وعقائده، لم يكن أمامهم سوى الغرق في أتون الحرب الاهلية بأبشع أشكالها. تلك هي عاقبة الارتداد عن لغة العصر ومفاهيمه للعمل بصيغ ونماذج وأحكام استُهلكت وفات أوانها: أن تنتقم منهم الوقائع وترتدّ عليهم أعمالهم بتحويل الصحوة إلى عتمة، والشريعة إلى مشكلة، والهوية إلى مصيبة.

لبنان ومشكلته

ما دمت أتطرق إلى العلاقة بين المسلمين والمسيحيين، التي هي اليوم الشغل الشاغل للبنانيين والعرب والعالم، لا يفوتني القول بأن المسلمين قد نعموا بأجواء الحرية في لبنان، بسبب وجود المسيحيين الذي خلق نموذجاً للتعدد ومنبراً للحرية ومختبراً للتعايش. وقد أفاد الكثيرون من العرب، ساسةً ومثقفين، من هذه المزايا التي ساهم بعضهم في تدميرها، بالعمل على تعريب لبنان، التعريب الهدّام كما تُرجمَت المشاريع العروبية البائسة، أو أسلمته الأسلمة الارهابية كما تُترجَم الأصوليات المقدّسة والمجنونة على أرضه لتفكيك دولته وتمزيق مجتمعه. هنا أيضاً أجدني أكرر قولي: إذا تراجع المسيحيون في لبنان والشرق، أخشى على بلدي وعلى حريتي.

الأولى هنا أن نسمّي الأشياء بأسمائها، فلا نصف القوة الشيعية المهيمنة بوصفها “شيعية سياسية” على غرار المارونية السياسية، أو السنّية السياسية، أو حتى الطبقة السياسية الشيعية التي لم ترق يومئذِ إلى مدرسة سياسية، إذ كانت الأضعف في الترويكا الحاكمة.

أقول ذلك لأن المارونية السياسية قد جعلت من لبنان، مع شركائها في بقية الطوائف، مجتمعاً مزدهراً كان محطّ نظر العرب والعالم. وهي إن كانت مهيمنة، فإنها لم تقم بإدارة البلد بحسب الأصولية الدينية المسيحية، بل أدارته بالأدوات الحديثة المستفادة من أوروبا وبحسب الصيغة الديموقراطية على الطريقة اللبنانية، التي جسّدها خير تجسيد ريمون إده. فضلاً عن ذلك، فإن المارونية السياسية، وإن كان لها ولاؤها الثقافي يومئذ لفرنسا، فإنها لم تكن عميلة لها أو خادمة عنها.

أما الكتلة الشيعية المهيمنة، فتشكّلت بقرار من المحور الايراني/ السوري، وولاؤها الأول هو لمرجعها الديني في طهران. لذا، هي الوجه الآخر للجهادية السنّية. إذ كلتاهما لا تعترف بلبنان أصلاً، لأنها إما أن تتخذ منه أرضاً للجهاد، وإما ملعباً للصراعات، وإما ذريعة لممارسة الهيمنة، وإما أداةً لتنفيذ استراتيجيات قومية أو اسلامية، عربية أو غير عربية، مآلها أن يفقد لبنان ميزته الحضارية والمدنية، وأن يُدار أسوأ إدارة، كما تفعل الطبقة السياسية المهيمنة الآن، ولكن العاجزة عن التدبير ولا في شأن من الشؤون، لأنه لا أحد اليوم في لبنان سيدّ نفسه، بعدما خرج الأمر من يد الجميع وبات في قبضة قوى الخارج. زد على ذلك، أنه يوجد في كل طائفة لبنانية قطيع بشري يشتغل أصحابه بتأليه زعمائهم والتعصب لهم، لكي يزدادوا هيمنة وثراء، أو فحشاً وفساداً. لا أنسى إنقسام الموارنة بين المعسكرين الشيعي والسنّي، في ما يفترض بهم، بعد تراجعهم، أن يلعبوا، على الأقل، دور “وسيط الجمهورية”. والأسوأ من ذلك أن لبنان يكاد يفقد ميزته الجغرافية، تحت العين “الساهرة” للحكّام، بعدما فقد ميزته الحضارية. ذلك كله ساهم في تخريب لبنان، بتشويه سمعته وطبيعته، وضرب صيغته الديموقراطية، بعدما بات يصدر هويات عابرة يجسدها الإرهاب الجهادي بنموذجيه الشيعي والسنّي المضادّ.

الإلتزام نقيض الإعتدال

لنعترف بالحقائق، كي نحسن معالجة المشكلة، في ما يخصّ الإسلام العقائدي: لا وجود لمسلم معتدل، كما لا وجود لمتديّن عاقل (المعري). إذ ما معنى أن يحتاج شعب إلى نبيّ، في ما وراء حكاية الاصطفاء؟ معناه أنه قاصر ومحتاج إلى وصيّ عليه يفكر عنه. معناه أن لا عقل له أو لا يحسن استخدامه. فلنحسن قراءة المصطلحات، وتأمل الآيات. ليس في وسع المسلم الملتزم والآخذ بالأصول، أن يقبل غير المسلم كما لا يَسَعَه أن يقبل المسلم المختلف. فذلك يقع خارج نطاق الممكن، لأن عقله مبرمج على نفي الآخر باتهامه بأنه مبتدع أو مشرك أو كافر أو آثم أو نجس أو غير إنسان، على ما قرر ذلك كبار العلماء والفقهاء كإبن تيمية وابن بابويه والشريف المرتضى. هذه الثقافة الإسلامية النرجسية والعدوانية، التي كانت نائمة، هي التي أيقظها وحاول إخراجها على المسرح تنظيم “داعش” وأشقاؤه وأبناء عمومته، لا فرق بين واحد وآخر، إلاّ بالتسابق على سفك الدماء، وبالاختلاف في الوسيلة على تنفيذه، قطعاً للرؤوس أمام الملأ، أو اغتيالاً مجهول الفاعل للأشخاص بتفجير السيارات المفخّخة التي تحيل الأجساد والأرزاق أشلاء وأنقاضاً.

العلماء أخطر من العامّة

من آليات الزيف الأخرى التي يتقنها الاسلامييون في الدفاع عما يستحيل الدفاع عنه، هو أنهم يعزون، عادة، ما يمارَس من تعصب وتطرف وعنف الى العامّة والجهلة، أو الى الدعاة من ذوي العلم القليل والثقافة الضحلة. ها هم اليوم، يتهمون السلفيين الجهاديين بأنهم هم الذين يسيئون الى الإسلام ويشوّهون تعاليمه بأعمالهم البربرية، هذا فيما الكل، عامة وسلفيين، قد تخرّجوا في مدارس العلماء والدعاة الكبار وعملوا بكتبهم وآرائهم. فهؤلاء هم أساس المشكلة ومصدر الخطر، إذ هم الذين شرّعوا للتكفير المتبادل بتصنيفاتهم العنصرية وأفكارهم الفاشية وأحكامهم الجائرة.

هذا أيضاً شأن المثقفين الذين لبثوا طويلاً يدافعون عن محور الممانعة الذي يقوده نظام أصولي، إلى أن أيقظهم تنظيم “داعش” من غفلتهم، ليكتشفوا بعد خراب العمران أن الكل يشتغلون بالعملة الإرهابية، لأن الكل هم من العجينة والعقلية نفسيهما، لا تهمّهم قضايا الحقيقة والعدالة والحرية، بل السلطة والنفوذ والهيمنة.

لا أنسى في المقابل أن هناك رجال دين منفتحين، كانوا قبل عقود يمارسون علاقتهم بهويتهم بصورة ليبيرالية، بامتناعهم عن رفع سيف التكفير والتهديد وقولهم للناس: هذه هي الشريعة، ولربّ العالمين أن يحاسب العاصي، وليس نحن. واليوم، وعلى وقع الكوارث التي جلبتها الأصوليات الدينية، هناك رجال دين، هم قلة غير فاعلة، قد عادوا إلى صوابهم، بعدما اشتغلوا ردحاً من الزمن بالعملة الدينية الخاسرة، فصاروا من دعاة العلمانية، صراحةً أو مداورة، ولكن بعد فوات الأوان، أي بعد خراب الموصل وبقية المدن العربية.

أما ذروة الزيف والجهل والظلم، فهي أن نرمي مسؤولية أخطائنا وفشلنا ومصائبنا على الجاهلية، على ما يفعل الذين يحدّثوننا عن الجاهلية الجديدة. هذا في حين أن الجاهلية هي البداية العظيمة للعرب، لغة ومروءة. صحيح أن الجاهلي كان يقتتل مع نظيره على مرعى أو ناقة أو سلطة، لكنه كان يبكي عليه بعد قتله، أو كان ينصفه في القتال فينزل عن فرسه اذا كان خصمه راجلاً. الأهم أنه لم يكن يقتل نظيره على رأيه. مثل هذا السلوك البربري هو ماركة دينية مسجلة. هكذا كان الجاهلي يخضع في قتاله لقواعد المروءة والإنسانية، على عكس العقائدي المبرمج ضد الآخر، الذي نجد نموذجه اليوم ينسف كل التقاليد النبيلة والأعراف الجميلة والحقوق المشروعة. من هنا كان أهل الجاهلية مقتصدين في ممارسة العنف، قياساً على العنف الذي مارسه أهل الديانات، في الإسلام أو المسيحية أو في سواهما من العقائد.

الكابوس والحلم

لنستفق من غيبوبتنا ونكسر نرجسيتنا. فالعقائد لا تنتج إلاّ ما يصدمنا أو يفجعنا من التصرفات المستهجنة والأعمال البربرية، سواء اختُصّ الأمر بهذا الدين أو ذاك.

هذه حال الاسلام. لا فرق داخله بين مذهب ومذهب. يستوي الجميع في منطق التكفير البربري وأعمال العنف الهمجي. لأن ذلك كامن في الجينات الثقافية وفي العقليات المفخّخة التي تنفجر في الأماكن العامة وبين الناس، قتلاً للأبرياء وتدميراً للعمران. لا فرق بين طائفة وأخرى، إذ جميعها يمارس هويته كخندق عقائدي ينصبه بينه وبين مَن يفترض أن يكون شريكه في الوطن أو اللغة أو الانسانية. من هنا فإن الدعاة، سواء لدى هذه الطائفة أو تلك، قد اشتغلوا، ولا يزالون، على محورين، الكابوس والحلم. المحور الأول تجسّد في زرع المخاوف المتبادلة بين السنّة الشيعة، أو في استعداء العالم والآخر والحداثة؛ أما الثاني فتجسّد بوعد الإمارة أو الخلافة الإسلامية التي تستعيد المجد التليد والغابر لدى السنّة، أو التي تقيم الدولة الشيعية المنتظرة التي تبدأ في طهران وتنتهي عند شواطئ لبنان.

تلك هي مفاعيل نبش الذاكرة الموبوءة ونصب المتاريس العقائدية: أن ينقلب التعصّب ضد أهله، حروباً أهلية مدمّرة في سوريا والعراق واليمن ولبنان، أو استنجاداً بالغرب لكي يردع بعضنا عن بعض مرة، أو لكي يؤلّب بعضنا على بعض مرةً أخرى، من حيث نعلم أو لا نعلم، نشاء أو لا نشاء.

نحن ضحايا أفكارنا

لا يجدي التهرّب من حمل المسؤولية ورميها على الآخر. فالكل، سنّة وشيعة، ينحدرون من الشجرة الأصولية الاصطفائية، التكفيرية الإرهابية، وإن اختلفت الأسماء، وتفرّع الأبناء والأحفاد، ما بين “الأخوان المسلمين” و”حزب الدعوة”، أو بين “القاعدة” و”حزب الله”، أو بين “جبهة النصرة” و”أنصار الله”، أو بين تنظيم “داعش” و”جيش المهدي”. نحن إزاء العقلية نفسها، ونمط التفكير نفسه، ونموذج الحياة نفسه، أي ما تفتح تطبيقاته على الأرض أبواب الجحيم قبل اليوم الموعود.

لنعترف بما تصنعه أفكارنا ودعواتنا. كلنا يستخدم الدين للهدم لا للبناء، للتفرقة لا للتواصل، للهيمنة لا للتدبير العاقل والإدارة الرشيدة. من المفارقات أن الإسلاميين، أي أصحاب مشاريع الخلافة الإسلامية والولاية الفقهية والحاكمية الإلهية، دولاً وحكومات أو احزاباً ومنظمات، لا يُقيمون وزناً للقيم التي هي أساس الشرائع والأحكام التي بها يكون الإنسان انساناً، كالتقى والتواضع والعفو والتعارف والتكافل والتراحم.. لأن هاجسهم هو الوصول إلى السلطة والقبض عليها بأي ثمن، أي بانتهاك كل ما يدّعون محاربته. هكذا، فالجميع سواء، إذ كلّهم يصنعون النماذج التي يدّعون محاربتها. لذا، نرى أن مَن يتهم غيره بممارسة التكفير والإرهاب، هو تكفيري أصلاً وفصلاً، وهو أول من صنّع الإرهاب وصدّره؛ كما نجد، من جهة أخرى، أن داعية الديموقراطية يدعم الأنظمة الإستبدادية، كما يمشي داعية العلمانية في ركاب الأنظمة الدينية.

في هذا المعنى كل مسلم أصولي، ملتزم أو متشدّد، يسكنه ويتحكّم بفكره وسلوكه، نموذج تكفيري إرهابي، سواء أكان عالماً قديماً أم داعية حديثاً، وإن كان “داعش” قد فاق بهمجيته وإجرامه كل من سبقه. لا غرابة، فالعمل السيئ يستجمع اليوم، كل ما سبق من مساوئ وكوارث.

تلك هي الثمرة السيئة لعبادة السلف والمماهاة المستحيلة مع الأصول: أن نسدل الستار على عقولنا ونشهد على قصورنا، لكن نتقهقر وننحدر على كل الصعد الحضارية، فيما شعوب الأرض وأممها تحاول صنع نفسها وإحراز تقدمها، بالإتيان بالجديد المثير والجذاب أو المبتكر والخارق.

التراث الحيّ

هذا النقد الذي لا يخلو من عنف، قد يصدم الكثيرين، لكن مسوّغه هو الواقع الذي فاق الخيال بمفاجآته وصدماته. لذا هو لا يرمي إلى إلغاء الإسلام أو الدين، إذ لا معنى لذلك، بل من السخف اعتقاد ذلك. إنه يرمي إلى تفكيك ما هو سلبي أو عدواني أو هدّام من المعتقدات والثوابت، أي كل ما يؤدي إلى ممارسة المسلم علاقته بالدين كعبء أو نفق أو عُصاب أو محكمة أو إرهاب، لكي نحصد كل هذه الدماء وكل هذا الدمار.

ثمة مستوى ثالث في مقاربة الإسلام: هو التعامل معه، لا كمنظومات عقائدية مغلقة، بل بوصفه تراثاً هائلاً وثرياً، من الخطابات والنصوص التي هي أوسع بكثير من أن تُختزل الى نظام فقهي أو تركيبة عقائدية. إذ هي أغنى مما تطرحه وتدعو إليه أو مما تنظّر له وتحاول البرهنة عليه. هذا شأن الروائع والآثار من المؤلفات والأعمال في مختلف الحقول والإختصاصات. إنها تشكل منجماً فكرياً عند من يحسن القراءة بعقل واسع ومركّب، يرى دوماً الوجه الآخر والبعد الآخر والمستوى الآخر، في كلّ عمل فكري.

ليس المطلوب تحرير الإسلام من إرهابييه وجلاّديه فحسب، بل التحرر من الإسلام العقائدي، الأصولي والاصطفائي، فهو المشكلة وليس الحلّ، بآلهته الجدد الذين تحوّلوا إلى جلاّدين وجزّارين. وهذا مآل كلّ شيء يُستعاد في غير زمنه، من غير عمل عليه وتحويله بصورة خلاّقة الى إنجاز حضاري في مجال من المجالات: أن يعود على شكل مَساخر، كما هي حال الفتاوى التي يتحفنا بها الأصوليون، أو على شكل مجازر تُرتكب في حق الناس من غير ذنب أو جريرة.

هذا هو التحدي أمام الاسلاميين وسواهم: الاشتغال على التراث الديني، لتحويله إلى عملة حضارية راهنة لكي يساهموا في صناعة الحياة ويشاركوا في بناء الحضارة القائمة. فالأديان والمعتقدات هي لخدمة الحياة، وليس العكس، كما يعتقد السلفيون والإسلاميون. نحن لا نعيش لكي نخدم الإسلام وسواه من العقائد والأفكار، بل لكي نتقن فن العيش، وبالأخص لكي نحسن العيش معاً. هذا يقتضي إجراء تغيير جذري يطال علاقة المسلم بهويته الدينية، على نحو تتغير معه أطر النظر ومناهج العمل، مباني العقيدة ومقاصد الشريعة

الهوية العابرة

أصل بذلك إلى المستوى الرابع، وإن لم يكن الأخير، في التعامل مع الإسلام، أعني مستواه الثقافي والإناسي. وإذا كان هناك مؤمنون يصرّون على انتمائهم إلى الإسلام كجماعة ثقافية، عابرة للقارات والمجتمعات والأوطان، فهذه الجماعة لم تعد، ولم تكن أصلاً، استثناءً بين البشر، لم تكن خير أمّة. وإنما هي جماعة بين جماعات أخرى عاشت الحياة بخيرها وشرّها، بإنجازاتها وإخفاقاتها، لا أكثر ولا أقلّ، لا أشرف ولا أدون. هذا هو المعقول والمشروع: أن تتعامل المجموعة الإسلامية مع نفسها كمجموعة بشرية تحسن التعامل مع بقية الجماعات بلغة التواصل والتحاور أو الشراكة والتبادل. وهذا ما يفعله من يحسن قراءة الصدمات والتراجعات والتحولات: أن يعيد النظر في هويته، لكي يعيد ترتيب العلاقة مع الآخر ومع العالم.

هذا على صعيد الخارج، كذلك الأمر على صعيد الداخل. لم يعد مجدياً تعريف العربي بهويته، أياً كان بلده، من خلال انتمائه الديني، بعد كل هذه المآسي والمصائب. الأجدى والأولى أن يعرف نفسه من خلال وطنه أولاً. ومن خلال مهنته ثانياً، أي ما يتقنه من العمل الصالح والخير أو المفيد والبناء، فذلك هو جواز مروره إلى الفاعلية والحضور في العالم. وهذه هي الحال اليوم لدى معظم البلدان والأمم، حيث التعريف بالهوية يتم من خلال الانتماء الوطني أو القومي أو اللغوي أو السياسي أو الجغرافي… وحدهم الإسلاميون يصرّون على استخدام العنوان الديني في تسمية الدول والجمهوريات والاحزاب السياسية.

فليترك رجال الدين، بعد كل الإخفاق الذريع، السياسة لرجالها، وليشتغلوا بالنقد والنصح والإرشاد، أي بخصوصيتهم الثقافية. وأما من أراد منهم أن يشتغل بالسياسة. فهذا حقّه، ولكنه عندئذٍ يفقد حصانته الرمزية، ولا يعود حُجّة أو آية، بل فاعل سياسي يقبل المساءلة والمناقشة العلنية، في الفضاء العمومي، كما يقبل النقد العقلي أو الفني والجمالي، ولو كان ساخراً. هل يغضب الساسة ورجال الدين من النقد الكاريكاتوري اللاذع في ما هم يتحكّمون بالمصائر لإنتاج كل هذه الأهوال والمصائب؟ ومن المضحكات المبكيات أن يغضب مسلمون في لبنان لحرق شعار إسلامي، فيما أصحاب الشعار يستخدمونه لقطع الرؤوس أو لحرق الأخضر واليابس!

سقوط المشروع الديني

لا نشتغلن بإرجاء المشكلة لكي تزداد تأزماً واستعصاء، فبعد كل هذا الإخفاق الذريع لم يعد يجدي لي التشبث بدعوات ومشاريع لا تنتج إلاّ عكس المطلوب فساداً أو خراباً وسفكاً للدماء. لنواجه حقيقتنا المرّة وواقعنا البشع: فالتنّين الإرهابي قد صنعه التعليم الديني الذي انتقل، بمعسكراته الإيديولوجية وحروبه الرمزية، من الغرف المعتمة لكي يعمل، بصورة سافرة وفاضحة، من على الشاشات على مرأى ومسمع من القادة من حكّام ودعاة.

تلك هي النهاية الطبيعية لازدهار مهنة رجال الدين على اختلاف مذاهبهم ومراتبهم وألقابهم. فبعدما قبضوا على الأمر وابتلعوا باقي السلطات، العائدة للأب والمعلم والشرطي والنقابي والمثقف والسياسي، ازداد الخراب والفساد في العالم العربي.

لربّ ضارّة نافعة، إذا شئنا قراءة الوجه الآخر للظاهرة: سقوط المشروع الديني، ومعه يسقط الشعار القائل: الإسلام هو الحل، كما رفعه الإسلاميون، بعد فشل المشاريع القومية واليسارية، بوصفه المنقذ للأمة مما تتردى فيه، فكانت النتيجة أن يترجم هذا الشعار في كل هذا الانهيار والانحطاط والافلاس.

لقد أخذ الاسلاميون الفرصة لكي يحكموا، لكنهم أخفقوا حيث سيطروا. هذا ما حدث في مصر مع سقوط جماعة “الأخوان المسلمين”، وهي المدرسة الأمّ التي تخرّجت فيها معظم الحركات والأحزاب والتنظيمات الإسلامية. وها هم أبناء الجماعة وحفدتها يسجلون نهاية المشروع الديني، أعني نهاية الفكرة الجهنمية القاضية بإقامة دولة إسلامية، إذ هو لا يُترجَم إلاّ على نحو ما يترجمه تنظيم “داعش” وأشقاؤه ونظراؤه وأضداده، بصورة كاريكاتورية هزلية على سبيل المسخ والتشويه، أو بصورةٍ تكفيرية إرهابية على سبيل القتل والتنكيل. لا عجب أن تكون النتيجة أن يولِّد ديناصوراً أو بُعبعاً أو جلاّداً، أي مما لا تُصنع به حياة أو ينهض مجتمع أو يُبنى مستقبل. وتلك هي حصيلة التعامل مع الدين كدولة أو نظام سياسي: فشل السياسة والدين معاً.

استحالة الإصلاح

ما يعنيه انهيار المشروع الإسلامي أننا تجاوزنا مسألة الاصلاح الديني. لقد فات أوان الإصلاح الذي طالب به الشيخ محمد عبده في زمنه ولم يحصل، وهو القائل: “ولكن ديناً قد أردت صلاحه أخاف أن تقضي عليه العمائم”. هذا ما يحدث الآن، حيث التنّين التكفيري والوحش الإرهابي، قد تخرج في مدرسة أصحاب العمائم واللحى وذوي الطبعات على الجباه.

لنحسن القراءة: المشاريع الدينية، لإقامة الدولة الإسلامية، غير قابلة للاصلاح، تماماً كما هي حال الأنظمة الديكتاتورية. كلاهما وجهان للعملة نفسها. كلاهما متواطئان، لأن كلاً منهما عاجز عن أعمال الإصلاح والبناء، وقادر فقط على أعمال الهدم والفساد. لهذا لم تنفع المناشدات والرسائل المفتوحة، لا للطاغية ولا للمرشد أو لوكلائه، منذ الرسالة المفتوحة التي وجّهها كبير المثقفين العرب، الشاعر أدونيس، إلى رئيس النظام السوري. لذا، فإن ما يقبله النظامان، الديكتاتوري والأصولي، أو يستحقانه، هو الإنكسار والتصدُّع أو الإفلاس والانهيار كما يحدث في غير بلد.

هذا مآل احتكار الحقيقة كما يجسّدها الضدّان المتصارعان: من جهة أولى، الطغاة من ملاّك الأوطان الذين يحكمون بلدانهم كآلهة يتصرفون فيها كما يشاؤون، شعارهم “أنا أو لا أحد”، ومن جهة ثانية، ملاّك الله من رجال الدين الذين يسخّرون الاسم والرمز لأهوائهم وعصبياتهم وصراعاتهم وحروبهم البربرية، لكي يجتمع التشبيح العسكري في الميدان مع التشبيح الإيديولوجي من على الشاشات، والنتيجة هي التجبر والاستكبار أو الثأر والانتقام باقتلاع الناس وتهجيرهم أو بقتلهم وإبادتهم.

قلب الآية

لا يجدي الآن التفكير في الطريقة والعقلية نفسيهما. فبعد الحدث الرهيب، لا شيء يعود كما كان عليه. ما يحصل من كوارث يضع حداً لغطرسة رجال الدين ويكسر وصايتهم الفاشلة على الناس، بقدر ما يفتح الفرصة أمام صعود الكتلة المدنية التي يتعامل أصحابها مع هويتهم الدينية والثقافية، على سبيل التواصل والتوسط أو التعدد والإعتراف المتبادل.

بكلام أصرح: بعد النهاية البشعة والشنيعة لمشروع الإسلام السياسي على يد أهله وصنّاعه، لم يعد ينفع الكلام على الرجوع الى الكتاب والعمل بمنهاج النبوة. فالمهمة العاجلة أمام رجال الدين هي ممارسة التقى الفكري والتواضع الوجودي، للقيام بأعمال النقد والمراجعة والمحاسبة، والإعتذار من الناس، تكفيراً عن سيئات أعمالهم، وعما صنعوا بعربداتهم السلطوية وشعوذاتهم الفكرية وتهويماتهم النرجسية.

هذه المهمة النقدية تقتضي أن يعود الفاعل الديني إلى صوابه، لكي يعمل بخصوصيته، في مؤسساته وحوزاته، لإعادة بناء الحياة الدينية على أسس وقواعد جديدة:

– التعامل مع الدين، لا بوصفه مشروعية عليا، بل مجرد حقل مجتمعي يتفاعل مع سائر الحقول، بما يعود بالنهوض والنمو على المجتمع بأكمله.

– التخلّي عن مشروع إقامة الدول وإصلاح المجتمعات والأمم. فهذه مهمة قد تصدّوا لها وهم غير جديرين بها بنماذجهم البائدة ودعواتهم المستحيلة، ولا هم مؤهلون لها، لأنهم لا يملكون العدة والوسيلة من الأفكار الحية والرؤى المستقبلية والنماذج المبتكرة أو القيم البناءة.

– إلغاء قاعدة الإرتداد وإطلاق حرية الإعتقاد للجميع على اختلاف آرائهم ومعتقداتهم. فالمارقون والملحدون والخارجون، فضلاً عن غير المسلمين جميعهم، قد باتوا من ملائكة الرحمة قياساً على الجلاّدين الذين يصنع نماذجهم أصحاب المشاريع الدينية.

– وضع حد لشرطة العقائد وحرّاس الايمان الذين احتلوا الشاشات، منذ عقود، لكي ينشروا خرافاتهم وشعوذاتهم، أو لكي يضخّوا سموم الكره والعداوة، سواء بين المسلمين أو بينهم وبين الطوائف الاخرى.

– أن تُلغى من برامج التعليم، الديني والحكوميّ، الأهلي والرسمي، كل النصوص والأحكام المبنية على تكفير الآخر وإقصائه، باعتبارها عملة باطلة ولّى زمنها، بل صفحة سوداء في تاريخ البشرية.

– أن لا تكون شرعية لأحد فوق شرعية الدولة ودستورها. لقد ولّى زمن العصمة القدسية والحصانة الرمزية والغيتوات الدينية، بعد كل هذه الفشل الذريع لرجال الدين ومشاريعهم. بذلك تنقلب الآية، فتفقد المؤسسة الدينية وصايتها على الناس والمجتمع، على غرار ما حدث للكنيسة في أوروبا، بحيث تعمل هي نفسها تحت وصاية الدولة ووفقاً لقوانينها، وتخضع للنقد والمناقشة العلنية في الفضاء العمومي من جانب الرأي العام، بمختلف فاعلياته السياسية والمدنية والثقافية.

فهل يستخلص العبرة المعنيون، من حكّام ورجال دين، بمعالجة الأزمة التي تحوّلت إلى كارثة تحت رعايتهم؟!

العودة المرعبة

مختصر القول: تلك هي عودة الدين التي تنبأ بها البعض وهلّل لها البعض الآخر: إنها عودة مرعبة، كما تُرجمت مشاريع الإسلام السياسي على اختلاف نسخها.

ولا غرابة: فالمعتقد الإصطفائي لا يترجم إلاّ تعصباً وتطرفاً. والمشروع الأصولي مآله إستئصال الآخر. والتسامح هو مجرد هدنة بين فتنتين. والإستثناء الثقافي يحيل المسلم إلى ديناصور حضاري. والنص المقدس لا يترجم على الأرض إلا إنتهاكاً واستباحة. والمجتمع النقي الصافي الفردوسي مآله انفجار أحشائه إلى خليط من الكتل العمياء والعصبيات المتناحرة.

أما الهوية الثابتة فتسجن صاحبها في خانة ضيقة أو في قوقعة خانقة لتتحول الى عائق ومأزق في مواجهة التحولات والتحديات. الحقيقة المطلقة تنتج عجزاً وقصوراً بقدر ما تصنع أنظمة ديكتاتورية ومشاريع شمولية. أما الحقيقة النهائية، فمآلها شلّ الطاقة الحية والخلاّقة للوصول الى هذه النهائيات الفاجعة. باختصار، هذه هي عاقبة أسلمة الدولة والمجتمع على نحوٍ شمولي: تحويل الحياة إلى جحيم لا تُطاق. أما فضيحة الفضائح لدى المثقفين الإسلاميين فهي السعي إلى أسلمة العقول والفلسفات أو العلوم والمعارف، بما يُعَدُّ نكوصاً عمّا قاله الانبياء أو أنجزه العلماء.

هكذا، فمصدر العطب يكمن في نمط التفكير. هو ما نمارسه من تأله، لكي نحصد كل هذا التوحش، كما يتجسد ذلك في التعامل مع قضايا الحقيقة والعدالة والحرية والهوية أو الأمة بمفاهيم المطلق والمقدّس والواحد والثابت والكامل والنهائي والفردوسي. يتوقف الخروج من المأزق على ابتكار لغة جديدة في التعامل مع النفس والآخر والعالم، بحيث تدار الشؤون بمفردات النسبي والمتعدد والمتغير والعابر، كما تُساس الهويات والقضايا بلغة التحويل الخلاّق والتجاوز الفعّال أو التبادل المثمر والتركيب البنّاء.

مؤدى ذلك أن نقتنع بأن لا أحد يمكنه القبض على حقيقة الواقع الذي هو جملة إمكاناته الغنية والمفتوحة على تعدد القراءات والخيارات أو السيناريوهات والاستراتيجيات. فالممكن هو أن يصنع كلّ واحد حقيقته، كما تتجلى في ما يُتقنه أو يُنجزه في هذا المجال او ذاك، أي في قدرته على خلق الوقائع، وعلى نحو يتيح له ممارسة الفاعلية والحضور على سبيل الاستحقاق والاستمتاع والازدهار. مما يعني أن علاقاتنا بالحقيقة تتجاوز مفهومها الصنمي والأيقوني والإلهي، لكي تُمارَس كمغامرة خلاّقة أو تجربة فذّة، كرهان ينجح أو لعبة نتقنها على المسرح. أما التعامل مع الحقيقة كعقيدة منزلة لا يأتيها الباطل، فمعناه ومؤدّاه أن نتشبث بثقافة بائدة، هدّامة، عدوانية، تصنع الأبله الثقافي والقطيع البشري بقدر ما تصنع الداعية المشعوذ والمخرب الأممي.

“داعش” ابن العصر

أنهي بالعودة إلى تنظيم “داعش” الذي استدرجني إلى كتابة هذه المقالة. هذا التنظيم هو كسواه من المنظمات والحركات الجهادية، لم يأتِ فقط من أقاصي الذاكرة وترسباتها، على الرغم من ادعاءات العودة إلى الأصول والدفاع عن الهوية. فهو ابن شرعي للواقع الكوني الذي نندرج فيه، بقدر ما هو مرض من أمراض الاجتماع المعاصر. إذ لا مجال في هذا الزمن الرقمي، التواصلي، الفصل بين ما هو خصوصي وما هو عالمي، بعدما تشابكت المصالح، على نحوٍ لا فكاك منه ولا سابق له.

لذا نجد التنظيمات الجهادية تسخّر لأهدافها كل أدوات العصر ووسائله، من الأسلحة الفتّاكة إلى الشاشات ووسائل الاتصال الفائقة، تماماً كما أن الحكومات الإسلامية التي وصلت إلى السلطة، أقامت أنظمة شمولية بفكر تيوقراطي ديني، جامعةً بذلك بين أسوأ ما في الزمن القديم وأردأ ما في الزمن الحالي.

هكذا، فإن “داعش” كما هي حال أشقائه وأضداده، يعيش في قلب المشهد. انه لاعب فاعل على المسرح الاقليمي والدولي، لكنه لا يلعب وحده، إذ له تحالفاته أو ولاءاته مع هذه الدولة أو تلك، العربية أو غير العربية، بقدر ما له شبكة مصالحه التي تؤمّن له مصادر تمويله وأسلحته.

لا يكفي منطق التعصب والتطرف لتفسير وحشية “داعش”. فالمنظمات الأصولية هي صاحبة مشروع يتعدّى موجات الحروب الأهلية المعروفة بغرائزها وفاشيتها وغزواتها البربرية.

هذا المشروع يرمي إلى “إقامة دولة الخلافة”، لإحلال الشريعة الإسلامية محلّ “نظام الكفر”، كما يدّعون. وبما أن إقامة نظام ديني إسلامي هو اليوم من المحالات كما أثبتت التجارب مرةً بعد مرة، فمن المنطقي أن ينتهي هذه النهاية الفظيعة: التدمير المنهجي للمجتمعات العربية، التي هي عاجزة بقدر ما هي مستهدفة بجميع مكوّناتها وطوائفها، من جانب كل اللاعبين، وعلى نحو يطيح ليس فقط مكتسبات الحداثة المنجزة منذ أكثر من قرنين، بل يرمي أيضاً إلى إطاحة المنجزات التي تحققت في عصر ازدهار الحضارة الإسلامية. نحن إزاء موجة ارتدادية هدفها الثأر والانتقام، من كل ما أنجز وتحقق أو صار مكسباً، ماضياً وحاضراً.

من هنا، فما تقوم به المنظمات الجهادية ليس مجرّد جهل أو تعصب أو تطرف. إنه تخريب مقصود ومنظّم للعالم العربي، على يد الحكومات والأحزاب والمنظمات الاسلامية، الدعوية والجهادية، على اختلاف مسمّياتها ومذاهبها، وذلك على مرأى ومسمع من العالم الذي هو ساكت وعاجز، سواء بدعمه للمنظمات الجهادية واستثمارها أو بادعائه محاربتها والعمل على دحرها.

لا أنسى الأنظمة الاستبدادية التي أمضت عقوداً تدّعي محاربة الامبريالية والولايات المتحدة، فإذا بها اليوم تقدّم شهادة حسن سلوك لأميركا لكي تشارك في محاربة الإرهاب الذي ساهم الطرفان في دعمه واستثماره وفي أن يستفحل شرّه وينتشر خطره.

ولكن هل من صنع الإرهاب ورعاه أو دعمه واستثمره، هو الذي سيقوم بمحاربته ودحره؟ أشكّ في ذلك، لأنه لا يمكن معالجة المشكلة بالأدوات التي تنتجها. بسؤال آخر: هل المهمة الآن هي أن يجتمع الكل، إرهابيين وديموقراطيين، لمحاربة الإرهاب الداعشي ودحره كما يقول الرئيس الأميركي باراك أوباما ونظراؤه من قادة الدول؟ هذه قراءة ساذجة أو مغلوطة، إن لم تكن مشبوهة أو مفخخة.

مرة أخرى تلك هي حصيلة عودة الدين إلى المسرح. انها عودة مرعبة تخلّف كل هذه البربرية التي تجعلنا نترحم على عصور الظلمات وطغاتها. هكذا، فالبربرية لا تأتي من خارج المدينة، وإنما هي ما يسكننا من الميول النرجسية والغرائز الوحشية والمنازع الفاشية والمطامع الامبريالية. انها النفس الأمّارة والأنا النرجسية والهوية الموتورة والعقلية المفخخة. لنعترف بالداء لكي نحسن العلاج: الطاغية والفاسد والفاشي والبربري والوحشي يستوطن العقول والنفوس.

وما دامت المصائر باتت متشابكة، في هذا العصر الرقمي المعولم، فإن الكارثة ستطاول الجميع وترتدّ عليهم، المتفرجين والساكتين، وبالاخص اللاعبين المتواطئين، علناً أو من وراء الكواليس، من أميركا الى روسيا ومن إيران الى تركيا. فلا مجال، اليوم، لإصلاح في دولة من غير إصلاح يطال نظام العالم وعلاقات الدول، بكل مفاهيمه وقيمه ومعاييره ووسائله. من غير ذلك، لا يحصد العرب واللاعبون على مسرحهم سوى ما نحصده من التوتر والتمزّق أو العجز والتخبّط أو التورّط والتواطؤ.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى