صفحات العالم

التيارات العميقة تحت السطح العربي


سليمان تقي الدين

تعيش المملكة العربية السعودية تحت وطأة إعادة توزيع السلطة داخل الأسرة الحاكمة. الملك والأمراء الثمانينيون الذين يمسكون بمقاليد الأمور يواجهون صفاً واسعاً من الأبناء الطامحين للعب دور سياسي، برغم أنهم جميعاً يأخذون حصتهم من الثروة المادية العملاقة.

الأسرة الملكية، خلافاً لأي نظام ملكي آخر، تعدّ بآلاف. ينضم إلى الأسرة مستفيدون آخرون بالمصاهرة. كما تنضم شريحة من البيروقراطية المدنية والدينية والعسكرية. خلا ذلك هناك جمهور المدن الذي يعيش في معظمه على خدمة الاقتصاد الريعي، والجمهور القبلي البدوي الذي لم يندمج بعد كفاية في البنية المدنية. تكاد الحياة السياسية تختصر بتنافس اتجاهات الرأي داخل الأسرة الحاكمة وارتباطات هؤلاء بعلاقاتهم الخارجية التي تؤثر فيها توظيفاتهم المالية أو الصفقات التجارية. ما يُحكى عن وعي عروبي انتهى بانتهاء الحقبة الناصرية. تسيطر على السياسة الخارجية السعودية تحديات إقليمية تتمحور منذ عقود حول دور إيران وتأثيرها في العراق واليمن وأتباع المذهب الشيعي. في مواجهة الإيديولوجيا الإيرانية «المهدوية» يقف الإسلام الوهابي سداً منيعاً لا تخترقه الطروحات الأخرى. أيقظت الثورة الإيرانية الإسلام السياسي العربي في صيغته المحافظة لا الثورية.

بعد انهيار العراق تحت الاحتلال الأميركي وهيمنة النفوذ الإيراني فيه تقود المملكة السعودية معركة الدفاع عن منظومة الخليج السياسية والاقتصادية. أنشأت نظاماً أمنياً هائلاً باسم مجلس التعاون الخليجي، وعززت ارتباطها بالولايات المتحدة واستقبلت القواعد العسكرية الأهم في دول العالم.

تتعاظم الثروة المالية لدول الخليج من ارتفاع أسعار النفط، وتشكّل مركز جذب للتوظيفات والاستثمارات والعمالة الوافدة من أكثر بلاد آسيا. القوة الخليجية المحافظة تلقي بكل ثقلها على العالم العربي وتلعب الدور الأهم في تحديد سياساته منذ انكفاء مصر عن دورها وانفراط دولة العراق. يتنافس الأمراء السعوديون والخليجيون عموماً في التشدد تجاه إيران وليس تجاه أي جبهة أخرى. ما قد تنتجه المنافسة على الخلافة للملك أو نائبه (ولي العهد) أو أي موقع آخر هو الآن رهن الرضى الأميركي والصلة الوثيقة بالسياسة الأميركية. لم يعد أحد في الخليج يتحدث منذ سنوات عن الاستفادة من تمايز المصالح الأوروبية الأميركية ولا طبعاً عن مرجعية اقتصادية متعددة الأطراف. الأوروبيون أنفسهم فقدوا استقلالهم بالكامل عن أميركا، والروس الذين عرضوا خدماتهم لدول الخليج وفتحوا صفحة جديدة مع المملكة السعودية ليسوا ولن يكونوا قوة جذب في المدى المنظور.

هذا الاندماج الخليجي الكامل مع أميركا، الذي أدخل اليمن سياسياً وأمنياً فيه، يجعل السلطة السعودية رهينة السياسة الأميركية. تراجع الموقف السعودي عن الدفع في اتجاه التسوية للنزاع العربي الإسرائيلي. تقف العلاقة السعودية المصرية عند حدود الحاجات الأميركية. تتبع المملكة، ومعها دول الخليج، السياسة الأميركية تجاه كل حركات التغيير في العالم العربي، بما في ذلك سوريا. تنخرط المملكة الآن في المبادرة العربية لمعالجة الأزمة السورية من الزاوية نفسها التي يرغب بها الأميركيون. توقفت العلاقات الثنائية السعودية السورية ولا إغراءات عربية حالياً لسوريا لإبعادها عن الدور الإيراني. كل الضغوط تتجه لمنع قيام محور عربي إيراني، على نحو ما أعلن عنه، يمتد من لبنان إلى إيران شاملاً سوريا والعراق ومهيمناً على الأردن وعلى فلسطين.

حاولت إيران وسوريا ضم تركيا إلى هذا المحور وتوسيع وتعميق العلاقات مع دول وسط آسيا حتى الحدود الروسية. هذا المشروع الاستراتيجي واجهه الغرب بتأييد تجديد النظام السياسي في مصر، واستعادة تركيا عن استدارتها الشرقية، وبدعم حركات الإسلام السياسي المختلف عن التوجه الإيراني والمتعارض مع النظام السوري.

إزاء فشل المشروع العسكري الأميركي في العراق وأفغانستان تحاول الإدارة الأميركية ملء الفراغ باستخدام كل الوسائل لخلق حزام أمني وسياسي ضد خصومها. استثمرت أميركا على مناخ الفشل في النظام العربي، وعلى الواقع البائس للشعوب المهمّشة المقموعة، واحتضنت حركات التغيير. لا يملك المحور الإيراني القدرة على مواجهة حركات الشعوب العربية ومطالبها المشروعة، ولا يملك الحجة المناهضة لحركات الإسلام السياسي «السني الأكثري» أكان ليبرالياً أم سلفياً. ولا يمكنه التورط في مواجهة عسكرية لحماية مواقع رسمية عربية إزاء شكل من الإجماع العربي وإزاء مناخات وأولويات ليست هي أولويات هذا المحور.

لا يخدم المتغيّر العربي المشروع الإيراني ولا المصالح الروسية لكنه يفرض التعامل معه كحقيقة دونها فوضى عارمة. استطاع النظام في سوريا أن يواجه المعارضة المسلحة وأن يمنع بتحالفاته الدولية المضادة التدخل العسكري الخارجي حتى الآن. لكن حاجة النظام والمعارضة المتعددة الاتجاهات والأطراف إلى تسوية باتت شرطاً لا بديل منه لاستعادة الأمن والاستقرار. هذا المأزق الذي وصلت إليه سوريا لا تفيد معه المكابرة بافتراض أن النظام اجتاز أزمته وهو في الطريق إلى ترميم ما تصدّع أو استرجاع هيبته ودوره. ولا تفيد في المقابل خطة المعارضة لإسقاط نظام يؤدي إلى متغيّر إقليمي كبير ودونه مواجهة عسكرية شاملة. هذه الحصيلة هي التي تدفع روسيا وإيران إلى التعامل بوجهين مع الأزمة السورية داخلياً وإقليمياً. هذا ما عبّرت عنه «المبادرة الروسية» في محاورة المعارضة علناً، وما عبّر عنه أحمدي نجاد في الدعوة إلى الحوار الداخلي ووقف «العنف المتبادل».

يخرج الأميركيون من العراق إلى جبهة خلفية حيث الخليج العربي كله مستنفر ضد النفوذ الإيراني، والدول العربية الأخرى في حمّى التغيير السياسي المتصاعد، وعبر قوى وحركات لا تصغي للمشروع الإيديولوجي أو العسكري الإيراني. في انتظار ثمار التحولات في مصر وتونس وليبيا، وانحسار التجاذب الأميركي الإيراني عن ساحات أخرى مع ظهور أولويات مختلفة لدى الشعوب تتزايد الحاجة إلى بلورة المشروع العربي للاستقلال والإصلاح والتنمية والتكامل.

أياً تكن القوى السياسية الآتية إلى السلطة في تونس وليبيا ومصر، وما سيلحق من دول، فهذه العناوين والتحديات أكبر من أن تعيد تطويقها الإيديولوجيات حتى لو كانت ذات لافتات دينية. برغم القلق المشروع على مستقبل المنطقة من الصراع الدولي عليها وإعادة تشكيلها كيانات أم أنظمة إلا أن خروج الشعوب إلى المسرح السياسي هو المستجد الباعث على الأمل.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى